الواقع الاجتماعي ومكانة المرأة في المجتمع في العهد الملكي
3-7
الدكتور كاظم حبيب .
كانت المرأة في ولايات بغداد والبصرة والموصل، سواء في نهاية الحكم العثماني، أم بعد تأسيس الدولة العراقية، التي تشكلت من هذه الولايات الثلاث، تعيش تحت ظروف معقدة جداً وتحت تأثير عوامل متشابكة، تتحكم بحرية ونشاط ومكانة ودور المرأة العراقية في البيت والمجتمع وفي اتجاهات تطورها. ويمكن تلخيص تلك العوامل بالنقاط التالي:
- كان المجتمع العراقي، عربه كُرده وأتباع قومياته ودياناته ومذاهبه الأخرى يعيش خلال الفترة المذكورة في ظل سيادة العلاقات العشائرية، قبائل رحل وشبه رحل وزراعية، إضافة إلى وجود مجتمعات المدن المتخلفة جداً، ولكنها تبقى متقدمة بالقياس إلى واقع التخلف الشديد للمجتمع الريفي وتأثيره المتوصل على المدينة. وكانت الآفات الثلاث المعروفة “الفقر والجهل والمرض” هي السائدة في البلاد.
- ومنذ نهاية القرن التاسع عشر حتى سقوط الملكية في العراق في عام 1958 نمت وتطورت وتكرست علاقات الإنتاج شبه الإقطاعية المتشابكة، لاسيما بعد “قوانين أرنست دواسن” في عام 1932/1933 الخاصة بأراضي الدولة الزراعية، مع بقايا العلاقات الأبوية للمجتمع العشائري وفي ظل الهيمنة الاستعمارية المباشرة، الانتداب حتى عام 1932، أو غير المباشرة وعبر السفارة البريطانية حتى عام 1958. وكان لهذه العلاقات شبه الإقطاعية شبه الاستعمارية تأثير مباشر على الريف والزراعة، كما كان لها تأثير غير مباشر على المدينة أيضاً، من خلال نزوح وهجرة غير منقطعة من جانب العائلات الفلاحية الفقيرة وشبابها إلى المدينة مع استمرار علاقات العائلات النازحة بالعشيرة وعاداتها وتقاليدها من جهة، وبالريف والزراعة من جهة أخرى. وبالتالي كان الفلاحيون الريفيون يحملون معهم تقاليدهم وعاداتهم وذهنيتهم غير المتفتحة إلى المدينة، لاسيما وأنهم كانوا يعيشون في مناطق عشوائية وعلى هامش المدن والاقتصاد الوطني والثقافة والحياة الاجتماعية، وكانوا يشكلون فئة رثة حقاً تتحرى عن أي عمل ممكن في المدينة لسد قوتهم اليومي وتخشى من الشرطة التي تطاردهم وتريد إعادتهم إلى الريف ولأصحاب الملكيات الكبيرة الذين هربوا منهم أساساً بسبب استغلالهم وظلمهم، بذريعة مديونيتهم لهم.
- وكانت المجتمعات الريفية والحضرية قائمة على أساس ذكوري، فالرجل هو المحور المركزي للعلاقات الاجتماعية في البيت وفي المجتمع وأما الدولة، وفي السلطة السياسية والاقتصادية والعلاقات الخارجية. وسمح المجتمع الذكوري بتراكم الكثير من العلاقات والعادات والتقاليد المتخلفة خلال قرون كثيرة بالنسبة للعلاقة بين الرجل والمرأة، كما استطاع الرجل تنميط هذه العلاقة وأنتج لها جملة من المعايير والقيم الخاصة بها تكرست في الرؤية الفردية والجمعية المجتمعة.
- وكانت الغالبية العظمى من بنات وأبناء المنطقة تعيش تحت راية وفكر الإسلام الدائري المغلق، مع وجود رايات وأفكار لديانات أخرى مثل المسيحية واليهودية والصابئة المندائية والإيزيدية، إضافة إلى مذاهب كثيرة بالنسبة إلى مختلف الديانات التي لا تختلف من حيث كونها تتحرك في دائرة مغلقة. وكانت للإسلام والديانات الأخرى قيم ومعايير معينة في العلاقة بين الرجل والمرأة من الناحية النظرية، ولهم قيم ومعايير أخرى، بعضها متماثل وبعضها مختلف، من الناحية العملية. ولم تكن القيم الأولى سائدة أو معمول بها بل كانت شكلية ولكنها مؤثرة نسبياً، في حين سادت الثانية في التعامل اليومي بين الرجل والمرأة في البيت وفي المجتمع وعلى مستوى الدولة.
- وكانت للفتاوى والتشريعات الصادرة عن شيوخ الدين والمؤسسات الدينية تضع قيوداً شديدة وكثيرة وقاسية جداً على المرأة، في حين تعفي الرجل منها أو من أغلبها. وكانت هذه المؤسسات تستند في تفسير هذا النهج في التشريع الديني إلى هيمنتها الذكورية على مختلف المؤسسات والحوزات الدينية للأديان المختلفة، إذ لم تكن المرأة تحتل أي موقع في التراتبية الدينية لشيوخ الدين المسلمين أو بالنسبة للديانات الأخرى. ولم يكن المسلمون من شيوخ الدين يعتمدون القرآن وحده في وضع أسس الشريعة والتعاليم والتقاليد، بل إلى أحاديث محمد ايضاً، سواء الصحيحة منها أو المنسوبة إليه صواباً أم خطأً، إضافة إلى ما درج عليه الصحابة من الحديث عن ممارسات محمد اليومية في الموقف من المرأة وكذلك اجتهاداتهم التي تنطلق من ذكوريتهم فقط. إذ كان شيوخ الدين يعمدون إلى الاجتهاد فيما يرونه مناسباً وينسجم مع ذكوريتهم لفرضه على المرأة المسلمة أو المرأة في المجتمع عموماً، إذ كان للإسلام تأثيره المباشر، وبهذا القدر أو ذاك، على سلوكية النساء من أتباع الديانات الأخرى، أو أنهن كن يتأثرن بالديانات الأخرى في بعض ما كن يقمن به أو يجتهدن فيه. ولا شك في أن شيوخ الدين قد عمقوا وشددوا من القيود المفروضة على المرأة من أجل تكريس وتشديد الخلاف مع الأديان الأخرى من خلال إبراز وبلورة المزيد من نقاط الاختلاف، رغم أن الإسلام لم يكن يأخذ بها في عصر النبي محمد، أو في عصر الخلفاء الراشدين أو فيما بعد ولفترة غير قصيرة.
- ولا بد من تأكيد حقيقة أخرى هي أن المجتمع في العراق قد تأثر كثيراً بسياسة وسلوك وممارسات الدولة العثمانية وشيخ الإسلام وأحكامه إزاء المرأة التي كانت في الغالب الأعم أكثر تخلفاً وتشدداً مما وصل إلينا من مواقف اتخذت إزاء المرأة في صدر الإسلام أو في الدولة الأموية والدولة العباسية، رغم وجود فترات من الانحطاط الحضاري الفعلي في تلك الدول أيضاً في الموقف من المرأة ومن حريتها ونشاطها ومكانتها ودورها في المجتمع.
- ورغم وجود أوضاع مشتركة تواجهها المرأة العراقية في المجتمعين العربي والكُردي، فهناك بعض التباين لصالح المرأة الكردية، وهو محدود، كما يمكن أن يسري هذا على واقع المرأة المنحدرة من العائلات الأرستقراطية أو الميسورة والحاكمة، وبين المرأة المنحدرة من صفوف العامة من الناس.
- كما كانت معاناة النساء من أتباع الديانات الأخرى لا تختلف كثيرا عن معاناة النساء المسلمات من حيث شدة وكثرة القيود الاجتماعية والهيمنة الذكورية عليهن وممارسة القسوة بحقهن. وإذا كانت المرأة المسيحية أو اليهودية تتمتع ببعض الحرية في جوانب معينة، مثل التحرر من الحجاب الثقيل، فإنها كانت تواجه نفس ذهنية الاحتقار، بسبب كونها امرأة لا غير! إذ أن موقف الديانات عموماً واحد، والموقف الناشئ عنه أو عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية القائمة، هي الآخرة واحدة ولا تختلف كثيراً إلا في الممارسة اليومية. مع حقيقة أن العائلات المسيحية قد تأثرت بشكل أوسع بالحركة التنويرية التي حصلت في أوروبا وأثر ذلك على مسيحيي بلدان العالم الأخرى، ومنها العراق، كما أن لدى الصابئة المندائيين علاقات أفضل بين المرأة والرجل.
ولكن، ماذا كانت حصيلة فعل هذه العوامل على دور ومكانة المرأة وحقوقها المشروعة في المجتمع العراقي الجديد، سواء أكان ذلك في الريف أم المدينة؟
لا شك في أن تأثيرات تلك العوامل على الريف في نواحي معينة كان أشد وأقسى، ولكن التعامل مع نساء المدينة لم يكن بدوره سهلاً، بل ينهل من معين واحد، هو القسوة الصارخة والدونية أحياناً إزاء المرأة في المجتمع. وإذا كانت المرأة تتمتع ببعض الخدمات التي توفرها المدينة، فأن المرأة في الريف تفتقدها تماما. وإذا كانت المرأة في الريف تتمتع ببعض الحرية في الخروج إلى الحقل والكدح فيه مع الرجل، فأن المرأة في المدينة كانت حبيسة الدار والمطبخ إلى حدود بعيدة.
من عبء هذه القيود الثقيلة على المرأة انطلقت الحركة الديمقراطية العراقية المطالبة بحقوق المرأة من المدينة بسبب الأجواء العامة التي تسود فيها والجديد الداخل إليها من الخارج والتحولات التدريجية التي طرأت على أحوال المرأة في المدينة ولم يتحقق ذلك بالنسبة إلى الريف حيث حافظ على علاقاته المعروفة طيلة فترة الحكم الملكي. إن طبيعة الحكم الملكي الإقطاعي والعشائري والسياسات التي مارستها الحكومات المتعاقبة وسلطات الاحتلال العثماني قبل ذاك، ومن ثم سلطات الاحتلال البريطاني، قد ساهمت جميعها في تنمية سلوكية القسوة في المجتمع وبين أفراده عموماً وإزاء المرأة خصوصاً وعمقت وشددت من إذلال كرامة وإنسانية الإنسان والمرأة على نحو خاص.
وسنحاول فيما يلي التطرق إلى جوانب من واقع مصادرة حقوق المرأة العراقية حتى انتصار الانتفاضة العسكرية وثورة الشعب في عام 1958 والتغيرات النسبية التي طرأت على أوضاع المرأة في فترة الحكم الجمهوري الأول وفق القرارات الصادرة عن حكومة عبد الكريم قاسم.
الممارسات الفعلية إزاء المرأة
تضافرت مجموعة من العوامل التي هيأ لها المجتمع الذكوري منذ قرون طويلة لينتزع من المرأة مكانتها ودورها وكامل حقوقها الأساسية في المجتمع وحوّل المرأة تدريجاً إلى إنسان سلبي عاجز عن التعامل والتفاعل واتخاذ مواقف الندية مع الرجل، أو في مقاومة جهوده لإذلالها وفرض تبعيتها الكاملة له، أو فرض السيادة المطلقة عليها ونزع جميع أدوات وسبل الدفاع عن نفسها التي يفترض أن تتحصن بها. وعلى مدى قرون طويلة من ممارسات الهيمنة الظالمة بدا للمرأة وكأن لم يبق لها سوى ذرف الدموع على وضعها البائس والقبول به، سواء أدركت البؤس الذي تعيش فيه أم لم تدركه، بسبب دور المجتمع الذكوري في إقناعها بأنها خلقت هكذا وأن الله قد كتب عليها هذا المصير العاثر ولا مفر من حكم الله، إذ أن الحاكمية لله.
وتقدم المرأة، في الميثولوجيا الشعبية وفي الأساطير المنقولة والمكتوبة وفي القرآن وفي أراء النبي محمد في المرأة والأحاديث المنسوبة إليه، أو في علاقاته وتصرفاته الإيجابية والسلبية مع النساء، وفي مواعظ علماء ورجال الدين، على أنها ذلك الإنسان الضعيف العقل والناقص والشيطاني النزعة والهوى، فهي لعوب لا تؤتمن ومصدر شك دائم وعدم ثقة. فهي المالكة لسمات قادرة من خلالها على إغواء وإغراء الرجل وإسقاطه في هواها وحبائلها. واستناداً إلى هذا الحكم المسبق يتطلب الحذر منها والخشية عليها والخوف من أفعالها، ومن حق الرجل رعايتها بسبب نواقصها وقلة عقلها من جهة، ولكن يحق له تأديبها بالضرب والحبس في البيت وفرض العزلة الطويلة عليها أو حتى قتلها في حالات معروفة أباحها العرف وثبتها قانون دعاوى العشائر العراقي مثلاً، إذ أن „الرجال قوامون على النساء“! كما ورد في الآية القرآنية التالية:
“الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا “. (القرآن، سورة النساء، آية 34). والشك في المرأة ينطلق من أسطورة الخطيئة الأولى التي ألُصقت بحواء (المرأة)، وهي من صنع الرجل ابتداءً، كما جاء في التوراة، وبحواء وآدم معاً، كما جاء في القرآن، حيث أغواها الشيطان ودعاها إلى أكل التفاحة، وهي بدورها أغوت وأقنعت آدم بقطفها وأكلها معاً، وكان مصير الاثنين فقدان الفردوس والنزول إلى الأرض. (ملاحظة: وردت هذه القصة في ثماني سور في القرأن هي سورة البقرة، سورة آل عمران، سورة الأعراف، سورة الإسراء، سورة طه، سورة ص، سورة الكهف، سورة الحجر، إضافة إلى ورودها في التوراة).
وتحت تأثير مختلف المذاهب الإسلامية المتباينة في مواقفها من المرأة وتجليات ذلك في الشرائع المتباينة للمذاهب الرئيسية والفرعية، وكذلك دور التقاليد والعادات الموروثة من حياة البداوة والريف ومن التركة الثقيلة للدولة العثمانية في المجال الاجتماعي والموقف من المرأة، تفاقمت مجموعة كبيرة من تصرفات المجتمع وأفراده إزاء بعضهم البعض وإزاء المرأة بشكل خاص. فالرجل، سواء أكان أباً أم أخاً أم أبناً أم زوجاً أم خالاً أم عماً للمرأة، يحتل الموقع الأول ويملك حق اتخاذ القرار في العائلة ولأفرادها ولنسائها بشكل خاص، فهو صاحب الكلمة الأولى والحل والفصل. وعليه تقع مسؤولية توفير مستلزمات العيش والحماية والوئام في البيت، وهو الذي يقوم بالأعمال الشاقة التي تتطلب استخدام العضلات أو القيام بأعمال الحراثة والجني أو تمثيل العائلة أمام العشيرة أو شيخ العشيرة أو في المضيف أو أمام المؤسسات الأخرى، كما تقع على عاتقه مهمة المشاركة في حماية القرية أو العشيرة أو الدفاع عن المدينة. وللرجل الحق في الزواج والاحتفاظ بأكثر من امرأة واحدة في آن واحد (الحق في الزواج والاحتفاظ بأربع نساء تحت رعايته في آن واحد، علماً بأن محمداً استثنى نفسه من هذه القاعدة وتزوج بتسع نساء وقيل أكثر. (ملاحظة: كانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى القرشية أول زوجات محمد وكانت أرملة، ثم تزوج بعد وفاتها بشهر واحد سودة بنت زمعة القرشية وكانت أرملة.. وكان زواجه الثالث بعائشة بنت أبي بكر الصديق، وهي قرشية أيضاً. وتزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب للمرة الرابعة وكانت أرملة أيضاً. ثم تزوج للمرة الخامسة بأرملة أخرى هي أم سَلمَة، تلتها أم حبيبة، باعتبارها الزوجة السادسة، وهي رملة بنت أبي سفيان، أرملة عبد الله بن جحش. وكانت زوجته السابعة هي زينب بنت جحش وهي أرملة. ثم تزوج للمرة الثامنة بأرملة أخرى أسمها زينب قتل زوجها وهو يحارب في جيش النبي.، وبعد معركة مؤتة (629م) يتزوج محمد من الجارية جويرية ويعتق أبويها. ويتزوج بعد معركة خيبر زوجته العاشرة صفية وهي يهودية وكانت ضمن أسرى الحرب. راجع في هذا الصدد: فهمي، منصور. أحوال المرأة في الإسلام. مصدر سابق. ص 25-35. راجع أيضاً: المنجد في الإعلام. ط 26. المطبعة الكاثوليكية في عاريا. لبنان. حزيران 1982). كما كانت زوجته الأخرى هي ميمونة بنت الحارث. (أنظر: كم عدد زوجات النبي وجواريه: موقع شبابيك. 28 نيسان/أبريل 2020).
كما يحق للرجل امتلاك ما يشاء من الإمات، ما دامت الرغبة والإمكانية المالية متوفرتين، ومن حقه تطليق المرأة متى شاء أو أن يضربها لتأديبها إن خرجت عن إرادته ورغباته أو أن يفرض العزلة عليها، وله أن يدخل فيها متى شاء ذلك، وعليها أن تكون رهن إشارته، إذ أنها موضوع جنس، فهي قد وجدت أصلاً للنكاح، ولإنجاب الأطفال لا غير. وكان لمحمد جاريات وأماء، ولبعض زوجاته جاريات. (المصدر السابق نفسه).
تبدأ التربية العائلية في البيت العراقي بإبراز التباين في موقف العائلة إزاء الذكر والأنثى منذ الولادة. ففي الوقت الذي تعم فيه الفرحة ويسود الانشراح عند ولادة الذكر، يسيطر الحزن الثقيل ويعتصر الألم الأم الحبلى عند وضعها أنثى، خاصة إذا كان المولود بكراً، بسبب موقف الزوج وعائلته من الزوجة، إذ كان ينتظر ويتوقع أن تلد له ولداً يحافظ على نسله واسم عائلته للأجيال القادمة ويرفع رأسه بين أفراد العشيرة. ويتجلى هذا في موقف الأم أيضاً. فالأم تهدهد ابنها في مهده وتغني له ترنيمة العزة والقوة والرجولة والشهامة والجسارة، وتذكيره بأنه حاميها عند الكبر والمدافع عن شرف العائلة وأخواته والعشيرة، نجد أغاني أخرى تذكر المرأة بما ينتظرها من عمل شاق في البيت وإنجاب للأطفال …الخ. تعيش الأنثى في البيت في حالة من التمييز المستمر بينها وبين أخيها الذكر من جانب أفراد العائلة، ابتداءً بالأب وانتهاء بالأم، وتشارك المرأة ذاتها في ذلك، سواء أكان ذلك في الريف أم المدينة. وفي الوقت الذي يتمتع الولد بحرية كبيرة في الحركة والخروج واللعب مع الأقران وعدم القيام بأي واجب يذكر في البيت، يكون على البنت في الوقت نفسه مسؤولية العمل في البيت مع الأم في أعمال الطبخ والتنظيف وفي كل شيء يخص البيت، فهي والحالة هذه تكون مغبونة منذ الولادة ويرافقها هذا الغبن المقصود حتى مماتها.
وخلال الفترة موضوع البحث كان وضع المرأة من حيث التشريع والواقع كما يلي:
– حرم القانون الأساسي العراقي الصادر عام 1925، والذي يعتبر في بعض جوانبه مدنياً، المرأة من جملة من الحقوق الأساسية. ويعتبر هذا التحريم إخلالاً رئيسياً بمضمون المجتمع المدني. ومن تلك المحرمات أن تكون المرأة ملكة على العراق، وأن تكون رئيسة للوزراء أو وزيرةً في مجلس الوزراء، وأن تكون عضواً في مجلس النواب والأعيان، وأن تكون حاكمةً أو قاضيةً شرعيةً، أو أن تحتل عملياً أي مركز مرموق في الدولة. لقد أبعدها كلية عن الحياة السياسية الرسمية، وجسد في ذلك أقسى صيغ المجتمع الذكوري، وحصر كل وظائف الدولة والمجتمع بيد الذكور. تقول المادة الثانية والأربعون ما يلي: „لكل رجل عراقي أتم الثلاثين من العمر، ولم يكن له أحد الموانع المنصوص عليها في المادة „30“، أن ينتخب لعضوية مجلس النواب. ..“. (أنظر: الحسني، عبد الرزاق. تاريخ الوزارات العراقية. الجزء الأول. القانون الأساسي العراقي. المادة التاسعة والسبعون، فقرة 1. مطبعة دار الكتب. بغداد. 1974. ص 324). أما لغة القانون الأساسي العراقي فكانت كلها لغة ذكورية بحتة. ولم يأت ذكر للنساء إلا في مسألة „النكاح والصداق والطلاق والتفريق والنفقة الزوجية وتصديق الوصايات، …“. (المصدر السابق نفسه. ص 329). كما لا تجد حقوقٌ للمرأة في قانون دعاوى العشائر، فالمرأة في هذا القانون تعامل وكأنها سلعة مملوكة للأب أو للزوج، على سبيل المثال لا الحصر، إذ تدخل في باب التسويات المختلفة بين العشائر والقبائل العراقية. وعلى امتداد الحكم الملكي لم يتم استيزار امرأة أو انتخابها إلى مجلس النواب أو تعيينها في مجلس الأعيان العراقي، رغم بروز سيدات عديدات كان في مقدورهن أن يشاركن بحيوية في هذه المؤسسات. وقد اعتمد هؤلاء على إبعاد المرأة عن احتلال المواقع الأساسية في الحياة السياسية أو العامة التي ترتبط بإدارة شؤون البلاد، لقول منسوب إلى محمد جاء فيه: “لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة”. (أنظر: العلوي، هادي. فصول عن المرأة، دار الكنوز الأدبية، بيروت، ط 1، 1996، ص 37.).
– أجبرت المرأة العراقية على امتداد القرون المنصرمة حتى سقوط الملكية على أن تبقى حبيسة الدار وتنقطع عن الحياة الاجتماعية والسياسية، ولا تخرج إلا بإرادة زوجها أو مع أحد أفراد العائلة من الذكور، ولم تعد تصل إلى الجامع للصلاة أو تجلس مع أقرانها من الرجال في مضيف الشيخ، فالمضيف موقع الرجال فقط. وإذا كانت المرأة الريفية حبيسة الدار، إلا في حالات خروجها مع الرجل لنثر البذور أو للحصاد وجني الثمار، كما تخرج أحياناً لبيع الخضروات في سوق المدينة القريبة من القرية، فإن المرأة في المدينة لم تكن تتمتع حتى بهذه النزهة النسبية. ولكن المرأة استطاعت أن تنتزع حق الدراسة في مختلف المراحل، وأن تشارك في الفعاليات السياسية خارج إطار الحكومة وفي الانتفاضات والمظاهرات والاجتماعات الشعبية وفي الأحزاب السياسية السرية، كما كانت تشارك بقدر ما في النشر الصحافي. وتمكنت المرأة من الحصول على مجال عمل في المخازن الكبيرة، سواء الخاصة منها أو العامة كبائعة أو موظفة ومستخدمة في دوائر الدولة وفي التعليم الخاص للبنات.
– يتوزع العمل بين المرأة والرجل على أساس أن مكان المرأة الثابت هو البيت وتقع على عاتقها مهمات الطبخ والتنظيف وغسل الملابس والحياكة، (وفي الريف تعمل على تجميع الحطب ونقله والروث وتهيئته واستخدامه لصنع الخبز في التنور، أو العمل في الحقل وفي جني المحاصيل وفي تسويق الخضروات والفواكه مثلاً)، إضافة إلى إنجاب الأطفال وتربيتهم.
– وسلب المجتمع من المرأة حق اختيار زوجها. فالزواج يبقى بإرادة الوالد أو الأخ أو العم، كما لا يحق لها عملياً أن ترفض الرجل الذي يراد لها أن تتزوجه بقرار من العائلة. ونادرة تلك الحالات التي تتم بخلاف ذلك، بغض النظر عن رغبة وإرادة أو عمر طالب الزواج. ويمكن أن تتعرض المرأة في زواجها للنهوة (أي منعها من الزواج من غير الناهي) من قبل أبن العم أو أبن الخال، أو أبن العمة وأبن الخالة.
كما يفرض على المرأة الزواج على سبيل المبادلة، فالأخ الذي يتزوج امرأة، يمكن أن يمنح أخ الزوجة أخته ليتزوج منها دون أن يكون للمرأة رأي في ذلك، وهو ما يطلق عليه “گصة بگصة““(الگصة تعني الجبين).
– ليس للمرأة كلمة مسموعة في البيت أو في المجتمع، إلا بعد أن تصبح جدة كبيرة السن، حيث يمكن أن يسمع رأيها في البيت، ولكن قلما يؤخذ به.
– لا يحق للمرأة الاختلاط بالمجتمع الذكوري. وينطلق هذا الموقف من ذهنية احتقار المرأة والخشية من أفعالها واحتمال تدنيس شرف العائلة والعشيرة، بسبب تصرفاتها الشيطانية أو عن قلة العقل. ومن المعروف أن شيوخ الدين يتشددون في السماح للقاء بين رجل وامرأة في غرفة واحدة بمفردهما، إذ لا بد أن يكون الشيطان ثالثهما، إذ أن كيدهن عظيم!
– لا تمتلك المرأة الحق في أي شيء، بينما يحتفظ الرجل بكل الحقوق، حتى في قتلها، إذا ما قامت بفعل يعتبر ضمن „تدنيس الشرف“!
– والمرأة من الناحية العملية سلعة بيد الرجل، فهي موضوع الجنس للترفيه عن نفسه، وسلعة يتم من خلالها التكثير، وله الحق في اقتناء أربع زوجات وما يشاء من الجاريات. وهي سلعة يتم تداولها كالنقود في الفصل في حالات (الزنى والقتل والصيحة والفسدة والنهيبة)، (أنظر: سلمان، عبد علي. المجتمع الريفي في العراق. وزارة الثقافة والإعلام. دار الرشيد للنشر. 1980. ص 116).
وهي سلعة، عندما تولد له بنتاً، فلها سعرها عند تزويجها. وينبغي أن يعرف الإنسان بأن المرأة التي تستخدم “كفصلية” في المنازعات تعامل في الغالب الأعم معاملة حقيرة من جانب المستفيد من الفصل. وقد قيل في حينها ما يلي بهذا الصدد:
أخذ منكم الفصلية أسمعوا بحاله اشصار
(الشرح: يخاطب قائل النص عائلة المرأة التي أعطيت ابنتهم فصلية للعائلة الأخرى، بأن الذي أخذ أبنتكم كتعويض يعاملها معاملة سيئة يرثى لها).
– ظلت المرأة العراقية في العهد العثماني وما بعده تعيش في ظلمات الجهل والأمية والإبعاد الكامل عن الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية. وعندما تشكلت الدولة العراقية بقيت المرأة بعيدة عن التعليم، إلا البعض منهن اللواتي تسنى لهن تعلم القراءة، وخاصة القرآن، وبعضهن الكتابة أيضاً في الكتاتيب الخاصة بالبنات. حتى فجرت مجموعة من الماركسيين الاشتراكيين والديمقراطيين والمثقفين المتفتحين معركة إعلامية في الصحف المحلية حول حرية المرأة ومكافحة الحجاب ابتداءً من عام 1924 وعبر جريدة الصحيفة لصاحبها ورئيس تحريرها حسين الرحال. (أنظر: قيس إدريس، ذاكرة عراقية، ملاحق المدى، 16 حزيران/يونيو 2019). ورغم اختلال التوازن في المجتمع بين القوى المحافظة التي ترفض أي شكل من أشكال حرية المرأة وبين تلك القوى التي كانت تدعو لمثل هذه الحرية وتناضل من أجلها. ورغم الصعوبات الكبيرة استطاعت القوى الأخيرة أن تحرك الإنسان العراقي للتفكير بهذه المشكلة وأن تدفع بنسمات فكرية جديدة منعشة ومحفزة لنضال الرجل قبل المرأة ومعها من أجل انتزع حقوق المرأة. ومع نهاية النظام الملكي كانت المرأة العراقية قد قطعت شوطاً ملموساً في مختلف مراحل التعليم وولجت مجالات التدريس والوظائف الحكومية وحصلت على شهادات عالية في عدد مهم من الاختصاصات لتبرهن للمجتمع العراقي بأنها قادرة تماماً كالرجل في القيام بمختلف الأعمال والمهمات. ولكن مع ذلك بقي المجتمع العراقي محافظاً إزاء المرأة وإزاء حقوقها المختلفة، إذ أن الدولة ذاتها كانت من الطراز المحافظ المتأثر بالتقاليد العثمانية والفارسية في الموقف من المرأة، رغم التوجه المدني المحافظ في جزءٍ من النخب الحاكمة والمثقفة العراقية حينذاك.
– ومنذ إقامة الدولة العراقية الملكية في عام 1921 حتى عام 1932 استمد القضاء العراقي أحكامه الشرعية من مؤلفات وفتاوى شيوخ الدين والمجتهدين التي أقرت من دار الإفتاء في الدولة العثمانية. (أنظر: رابطة المرأة العراقية. نحو عام 2000: المرأة العراقية … الواقع والتحديات. ندوة عقدت في كولون/ألمانيا. كانون الأول 1999. مداخلة بعنوان: „تعامل القوانين العراقية مع المرأة“. للسيدة بشرى الحكيم. ص 61).
وفي عام 1932 صدر لأول مرة مشروع قانون لتنظيم الأحوال الشخصية في العراق والذي اعتمد في ذلك على مبدأ التمييز بين المذاهب المختلفة. ولكن الهيئة التشريعية في العراق لم تصادق عليه وبقي مشروعاً حتى سقوط الملكية. أي استمر العمل بتلك الفتاوى البالية حتى صدور أول قانون ينظم الأحوال الشخصية وقضايا العائلة في نهاية عام 1959. (أنظر: قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 وتعديلاته. موقع دار العراق، القوانين والتشريعات العراقية).
– بلغت نسبة النساء الملمات بالقراءة والكتابة حتى عام 1947 حوالي 3% من مجموع نساء العراق. (أنظر: الفخري، سالمة. الرابطة تتبنى مشروعاً لمكافحة الأمية. مجلة „المرأة“، العدد الأول، السنة الأولى، 1959، ص 23). وهذه الحقيقة وحدها تجسد حالة المرأة العراقية. ففي الوقت الذي تقرر فتح مدارس الأمية للرجال في عام 1927-1928، فتحت أولى مدارس الأمية للرجال في عام 1927 سجل فيها 2074 رجلاً، في حين تم فتح مدارس لمكافحة الأمية بين النساء في عام 1934-1935 بلغ عدد المسجلات فيها 634 امرأة. ثم بلغ عدد النساء المسجلات 76 امرأة في عام 1941. ثم أغلقت هذه الدورات الدراسة حتى فتحت مرة أخرى في عام 1946-1947 حيث سجلت 75 امرأة فيها. وفي عام 1951-1952 ارتفع عدد المسجلات إلى 820 امرأة، ثم ارتفع إلى 2686 امرأة في عام 1955-1956 موزعات على 29 مركزاً في جميع أنحاء العراق، احتلت بغداد العاصمة 11 مركزاً. (المصدر السابق نفسه). ومنذ عام 1957/1958 بدأت رابطة الدفاع عن المرأة تطور دورها ونشاطها في مجال مكافحة الأمية أيضاً وتعزز من علاقاتها بين نسوة العراق وخاصة في المدن.
ولا بد هنا من الإشارة إلى أن دور المرأة العراقية قد بدأ بالبروز أكثر فأكثر في أعقاب الحرب العالمية الثانية وانتعاش الجو الديمقراطي على صعيد العالم ومنطقة الشرق الأوسط والعراق. حيث ازداد عدد المدار الابتدائية المتوسطة والثانوية في أغلب المدن العراقية، وذلك اتسع قبول البنات في دار المعلمات (كلية الملكة عالية) والكليات العراقية، رغم كون التعلم في الكليات قد اقتصر بشكل خاص على بنات العائلات الغنية والمتوسطة والمثقفة، إضافة إلى بنات النخب الحاكمة. إذ كان المجتمع قد قطع شوطاً نسبياً جيداُ في بلورة بعض سمات المجتمع المدني، رغم ضعف ديمقراطية الدولة والحكم بشكل خاص. كما كانت طالبات الكليات في الغالب الأعم فارعات الرؤوس، لاسيما في الخمسينيات من القرن العشرين، والتي لا يمكن مقارنتها مع الحالة الراهنة والبؤس الذي تعاني منه المرأة العراقية والتي سنبحث فيها لاحقاً.
وأخيراً لا بد من الإشارة إلى المجزرة التي نفذها الجيش العراقي في عام 1933 بحق قرية سميل التابعة للواء الموصل حين أقدم على قتل النساء والرجال والأطفال في هذه القرية دون رحمة أو وازع من ضمير. كما لا يمكن نسيان قتل وجرح عدد من النساء العراقيات اليهوديات على أيدي الرعاع في بغداد ضمن مجزرة الفرهود في الأول والثاني من حزيران/يونيو 1941 حيث قتل 144 مواطناً ومواطنة من اليهود فيها.