متاهات برهان الشاوي… من «إينفرنو» دانتي إلى الجحيم الأرضي
لو كان لي أن أختار شخصية السنة الإبداعية، لما ترددت ثانية واحدة في اختيار برهان الشاوي، ليس فقط لضخامة إبداعه ومداومته الصارمة وبحثه الدائم في الأصول المأساوية الأولى للإنسان والأفكار، ولكن لقدرته الخلاقة على سحب الجنس الروائي العربي تحديداً باتجاه أماكن بكر لم يرتدها أحد من قبل، ولم تصلها إلا الأساطير والكتب السماوية التي مست بعمق مصائر الإنسان القلقة والتراجيدية، ومنحته السعادة هنا وهناك، حتى ولو كانت وهمية. المتاهات التسع التي «توّهنا» فيها برهان الشاوي بمتعة أدبية ومعرفية فائقة، تشكّل مرآة لهذا الإنسان، وتجسد سلطته المتعالية ومأساته التي كلما حاول الفكاك منها، أضاف لها لبنة جديدة تتحول فجأة إلى برزخ أو مذبح أو إلى قبر حقيقي. وهذا ما يتجلى واضحاً في متاهاته التي تنفتح على المتاهة البدئية التي تأسس فيها الإنسان الأول «متاهة آدم»، وتنتهي بـ»متاهة العدم العظيم» مروراً بـ«متاهة حواء»، «متاهة قابيل» و«متاهة الأشباح»، و«متاهة إبليس»، و«متاهة الأرواح المنسية»، و«متاهة العميان»، و»متاهة الأنبياء» التي تأسست على المحاولات شبه اليائسة للأنبياء لبناء مجتمع آخر من خلال أحلامهم النورانية التي تحولت في النهاية إلى حروب دينية وعرقية ولغوية قاتلة، حيث لا شيء إلا اليقين المرضي وسلطان الشهوة المقرونة بالقوة، ومتاهات الضياع.
وعلى الرغم من بعدها الزمني عنا وبنياتها الأسطورية، كم تشبهنا «الآدام» و»الحواءات» التي خلقها برهان بشكل يختلط فيه الواقعي بالغرائبي، ووضعنا في صلب مآسيها الأرضية. كم هي منا وكم نحن منها.
هذا الجهد «الأسطوري» ليس متاحاً لكل الكتاب، ولكن للذين جعلوا من «صبر أيوب» وجهتهم. فالرواية بهذا المعنى ليست فقط متعة ثقافية وفنية، لكنها جهد «عضلي» وعقلي/ معرفي حقيقي تتأسس من خلالهما رهانات الكتابة عند برهان الشاوي التي تضعه في المراتب العالية، بعيداً بمسافات ضوئية عن الكثير من الأسماء التي تحتل اليوم المشهد الثقافي بغير حق، وهل في الأدب حق؟ نحن أمام تجربة متفردة عربياً وعالمياً لا تكتفي بالمتداول والسطحي، حيث يتقاطع الجهد الروائي بالأنثروبولوجيا، والفيزياء، والفلسفة، وعلم النفس، والآداب العالمية، والتفكير الإنساني، حيث يتداخل الواقعي العادي، بالتخييل، وبالفنتازيا في وحدة غير متنافرة لدرجة الضياع في المتاهة، وهو ما يفترض قراءة متفطنة يسكنها الفضول ورغبة المعرفة والاكتشاف. يمكننا أن نقول إن برهان الشاوي روائي معرفي، صاحب مشروع كبير يتعامل بعقلية الفنان والأنثروبولوجي في الآن نفسه، مع الاقدار التراجيدية للبشر. أقدار لا يكفي لتصويرها نص واحد، فكانت المتاهات التسع التي جسدت عتبات جهنم الأرضية، كأننا بصدد كتاب ديني غني بالوقائع وأخبار الأولين، يقتفي المصائر البشرية التراجيدية التي ألمت بالبشرية، والأساطير التي غلفت الأحداث وهي ليست في النهاية إلا الواقع القاسي منظوراً إليه من عمق المأساة نفسها.
اختار الروائي لعبة الدمى الروسية التي كلما فتحتَ واحدة منها، وجدتَ في عمقها أخرى، وهكذا، من الأكبر حتى منتهى الصغر. تخترق القصة الكبيرة قصص صغيرة تؤثث المتاهات بقوة. كلما تمادينا في القراءة برزت الواحدة تلو الأخرى في تراتبية فائقة الدقة. ومن ذلك ما كتبه إبليس وأرسله لآدم الإكويني متحدثاً عن نظرية الخلق ومأساوية خروج آدم وحواء من الجنة، متماهياً مع خطابات الكتب السماوية.
والمتاهات التسع تضاهي في التقاطع والشكل والمآلات متاهات الجحيم التسع في «انفيرنو» Inferno في الكوميديا الإلهية لدانتي أليغري، الفارق الوحيد والأساسي هو أن المأساة في المتاهات أرضية، يصنعها البشر أنفسهم من خلال شهوة القوة والجريمة والظلم، في صراعهم المستميت واليائس أحياناً لتجاوز الشرطيات التي صنعوها بأيديهم، فهم يمضون حياتهم القصيرة في نصب الحبائل، وفي محو العوائق التي صنعوها لأنفسهم بأنفسهم. أبطال برهان في المتاهات التسع يلتقون في أروقة الجحيم، يصطدمون وقد يشتهون، في محاولات يائسة لتخطي الوجود المتهالك المدمر الذي علقوا به كقدر ظالم وجائر يرزحون تحت وطأته. تعميهم رغباتهم وتقودهم نحو الجحيم. ما حدث مع آدم الشبيبي مع حواء ذات النورين، وآدم زباتو والهندية المسلمة الرشيقة مادهوري، ليس إلا صورة تجسيدية لمأساة الرغبة التي تقود نحو متاهات جهنم. كيف الخروج من جحيم أرضي يذلهم ويقتلهم كل يوم قليلاً؟ بدأ منذ بدء الخليقة واستمر في خلاياهم وجيناتهم دون الفكاك منه. جحيم اليقين الديني والعرقي والتقتيل المجاني والتهجير والطرد. وهم في النهاية لا يعيدون إلا إنتاج مأساة الفراق الأولى بين آدم وحواء، والجريمة الأولى التي سال فيها الدم لأول مرة على الأرض الخالية، بعد مقتلة الأخوين قابيل وهابيل. ليست المظالم والحروب والفتن اليوم والخوف من الآتي المبهم وربما الدموي، إلا مؤشرات أولية لجحيم يتسع كل يوم قليلاً. فقد دخل برهان الشاوي متاهاته محملاً بثقافة أسطورية ودينية ونفسية وفلسفية كبيرة، ساعده في ذلك اتساع أفقه الفكري، وثقافته الإنسانية، ولغاته المتعددة، العربية والإنجليزية والألمانية والروسية، التي يتقنها وترجم عنها كتباً كثيرة. سار في رواياته عموماً، والمتاهات بالخصوص مقتفياً مقولة ليفي ستروس التي تؤكد أن في كل أسطورة جذراً من الحقيقة أخفته تراكمات قصص الأولين المتعاقبة، هو جوهر الإنسان المغيب في شرطيات اليأس والجريمة والعجز.
قبل المتاهات، أظهرت تجربة برهان الشاوي الشعرية العلامات الأولى التي تمتح من ثقافة بلاد ما بين النهرين لما سيتحول لاحقاً إلى مشروع روائي- إنثروبولوجي واسع: مراثي الطوطم (1989)، رماد المجوسي (1989)، تراب الشمس (2001)، شموع السيدة السومرية (2003). فبرهان الشاوي بدأ شاعراً مميزاً مأخوذاً بسحر الأساطير والثقافات الموغلة في القدم، قبل أن يكتشف أن هذه العوالم إذا كانت لها قيمتها الرمزية المهمة في الشعر كما عند السياب تحديداً والبياتي وغيرهما، فمتَّسعها الطبيعي هو الرواية التي بدأها بمشرحة بغداد (2012) والجحيم المقدس، قبل أن يفتح أبواب المتاهات بنصه الأول: «متاهة آدم» (2012) التي لم تتوقف حتى الآن إلا بمتاهة «العدم العظيم». وهي تشكل، مجتمعة، ملحمة الإنسان في مواجهة جحيمه الأرضي، جحيم الشهوة والعقد المتوالدة: الصادية، عقدة أوديب، متلازمة ستوكهولم، الماوزشية، وغيرها من العقد التي يتأسس عليها الإنسان، وتقوده نحو الجحيم. لهذا اختتمت المتاهات بالتمرد على كل شيء، بما في ذلك الكاتب، وانتهت إلى حالة من العدمية. وكلمة «طز» التي تفوه بها أبطال الكاتب المتمردون عليه، تشير إلى أنه لا فكاك من المآلات التراجيدية. كلهم في النهاية شركاء في صناعة الجحيم، الذي جعل الإنسان يصطدم بالحقيقة المرة: إعادة إنتاج التراجيديا الدائمة. لم يتعلم شيئاً من موت آدم البغدادي الذي انتهى منذ المتاهة الأولى، ولا من معارف آدم الإكويني، ولا من آدم لا أحد، ولا من آدم المجنون، ولا حتى من إبليس الذي أعاد إلى الواجهة هشاشة الإنسان الذي تأسره الرغبة بمعناها الأكثر اتساعاً: الجنس، القوة، الجريمة، التسلط، اليقين القاتل، وهو في النهاية لا شيء.