شيف تركي وحاكم عربي: من يعطي الطفولة حقها؟
في الأسبوع المنصرم أُعلن عن زيارة قام بها الشيف التركي الشهير بوراك أوزديمير، إلى مخيم كفر ناصح للنازحين في ريف حلب الغربي في سوريا. كان الرجل مُحمّلا بالألعاب والهدايا والأطعمة والأغطية والملابس، رفقة فريق من هيئة الإغاثة الإنسانية التركية. وفي المخيم التقى بالأطفال ووزع عليهم ما جاء به إليهم، فرسم البسمة على وجوههم في عز الثلج والبرد القارص، واحتفوا بزيارته وعبروا عن حبهم وتقديرهم واحترامهم له.
وبقدر ما تستحق هذه المبادرة الكثير من الاحترام والتقدير للقائمين عليها، فردا وهيئة، وتبث شعورا إنسانيا عالي النغمة، بقدر ما تثير الكثير من لواعج الأسى والأسف على حال الطفولة في أمتنا. ففي القرن الحادي والعشرين حيث التقدم التكنولوجي والحضاري، وسرعة التواصل بين البشر، يُترك الملايين من أطفالنا خارج المدن، يواجهون ظروفا جوية واجتماعية وإنسانية وأمنية، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتوازن مع ظروف العصر الراهن.
فإذا كان التقدم التكنولوجي لا ينفع في تقديم الحلول اللازمة للكوارث، وفي فتح النوافذ على مآسي البشر، خاصة الأطفال، وعلى اكتشاف الضرر الجسيم الذي تعانيه هذه الشريحة المهمة من المجتمع، وفي مرافقة قلوبهم الحزينة في الوحدة وفي عين العاصفة، فما هي فائدة التكنولوجيا؟ وإذا أصبحت الحضارة عاجزة عن أن تشعل الروح الإنسانية، وأن تجبر نظرات الأطفال الكسيرة، إلى العالم، وهم يواجهون البرد والثلوج والعواصف بأجسادهم الغضة الطرية والعارية، فما فائدة الحضارة أيضا؟ إذن عندما تتعطل التكنولوجيا ولا تملك حلا في بلادنا، وتتراجع الإنسانية في ظل التقدم الحضاري، هنا يصبح اللوذ بمسؤولية الحاكم هو الخيار الوحيد أمام الناس ومنهم الأطفال. وتصبح الأسئلة الأكثر إلحاحا هي عن الدور الذي تخلى عنه الحاكم العربي، وعن المراهنات التي لم يُحسن الأخذ بها.
يقال في السياسة، صحيح إن رجل الدولة يتقدم على شعبه، لكن يجب أن يأخذهم معه، وأن لا ينأى بنفسه عن الكوارث، ويكون تكتيكه القول، لست أنا بل الآخرون هم من فعلوا الكارثة. فالشعوب ليسوا أصحاب ذاكرة إسفنجية تمتص كل شيء. ولو أن الحاكم العربي استخدم العقل في بناء هذا الوطن المترامي الأطراف والزاخر بالثروات، وتدارك الأخطاء التي صنعها هو ومن كان مكانه، لما ترك أجيال المستقبل تواصل العيش في الخيام على تخوم المدن وفي القفار. فالدول ليست فقط الحكام والمسؤولين السياسيين، بل هي أكثر وأهم من ذلك بكثير. هي الأجيال الحالية والأجيال القادمة، وهذه كلها تتطلب إقامة بناء قوي قادر على تفجير الطاقات البشرية. وعليه فإن استمرار هذا النهج المشبع بالقصور الفاضح في الرؤية، ستكون نتيجته الحتمية هي، سقوط اليقين الذي كان الناس يعتصمون به في إمكانية نهوض الأمة من جديد. كما ستكون نتيجته أيضا الفناء المادي لهذه البلدان، والضياع الكلي لهذا الشعب والأجيال القادمة التي يمثلها أطفال اليوم. وستصبح اللعنات هي النشيد الأخير الذي تلوكه ألسن البشر في هذه الخريطة العربية، بعد أن يكتشفوا أن أعمارهم ذهبت هدرا بلا جدوى وبلا نتيجة، وأن ملايين الأماني والطموحات دُفنت مع غيرهم الذين ذهبوا إلى العالم الآخر، من دون أن يستطيعوا تحقيقها، بسبب قصور السلطات الحاكمة. هذه السلطات التي تبنت فكرة أن الحاكم هو عقل الشعب الذي به يفكر، وعينه التي بها يرى، وأذنه التي بها يسمع، وأن من دونهم لا يستطيع هذا الشعب أن يفعل شيئا. لكن ما هو المقابل؟ ببساطة سيكون الجواب لا شيء.
الطفولة هي مرآة الحالة السياسية والاجتماعية التي تعيشها البلدان، وهي من أكثر الأدلة والبراهين أهمية في رصد حالة الانحطاط أو حالة التقدم
إن من حق الدول أن تسعى جاهدة الى إقامة المهرجانات والفعاليات الرياضية والثقافية والفنية، لتعريف العالم بكياناتها، فبها تضع بصمة لها على الخريطة الدولية، لكن ما فائدة كل هذه الفعاليات ونصف شعبك يقيم في الخيام، وأطفالك يرتجفون وسط عاصفة ثلجية قاسية؟ ما فائدة أكسبو 2020 وجوي أووردز وغيرها من الفعاليات الفنية، التي أقيمت مؤخرا في بلادنا العربية، ونصف أبناء الأمة جائع أو مشرد في الخيام أو مُهجّر؟ ما الذي يدفع الشباب إلى ركوب البحر والمشي مئات آلاف الكيلومترات بين حدود الدول، كي يحصلوا على لجوء بائس في دولة أوروبية، يدفعون ثمنها غربة وتفككا أسريا وضياعا؟ يقينا أن كل هذه هي هزائم تُسجل باسم الحاكم العربي، وسلسلة إفلاس وأخطاء كلها أتت نتيجة قراءات خاطئة، وتذاكٍ أحمق على هذه الشعوب. فتارة يتغطى الحاكم العربي بالدين كي يقمع شعبه، حتى تذهب صلاحية هذا الغطاء. وتارة يتغطى بالقسوة حتى تنتهي صلاحيتها. وثالثة يتغطي بالتهديد الخارجي، الذي يتطلب كل شيء من أجل المعركة، التي لن تحصل أبدا. فيما يتحول الناس إلى سلاحف وحدها عيونهم التي تتكلم، ويتحول الأطفال إلى نماذج للبؤس والجوع والمرض، يعرضهم ذووهم أمام كاميرات الفضائيات، كي يحصلوا على حفنة رز أو قطعة خبز أو شيء يسترون به أجسادهم الطرية من البرد.
إن الطفولة هي مرآة الحالة السياسية والاجتماعية التي تعيشها البلدان، وهي من أكثر الأدلة والبراهين أهمية في رصد حالة الانحطاط أو حالة التقدم، التي تمر بها الأمم على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعلمي والفكري، لذلك تتبارى دول العالم المتحضر في رسم الخطط وبناء المشاريع ورصد المليارات من الدولارات للنهوض بهذه الشريحة المهمة. لكن من المؤسف حقا أن تصبح الطفولة في بلادنا العربية مرتهنة بالسياسة، ففي حين أن السياسة لها دروب موحلة، وبلا أخلاقيات ورقص على حبال متعددة، فإن الطفولة تمثل الأمل الوحيد للنهوض، والرأسمال الأهم في بناء حاضرنا ومستقبلنا، لذلك نجد اليوم دماء أطفال اليمن وسوريا والعراق ولبنان قد دخل بازار السياسة، وأصبح قضية برسم التسخير السياسي والأيديولوجي، من قبل أطراف عديدة. كما باتت مآسيهم وتشردهم عاملا فاعلا في التطاحن القائم في المنطقة، وبذلك باتت صور الطفولة في دول “محور المقاومة” على وجه الخصوص عنوانا كبيرا يكشف عن دول فاشلة وحكومات لا تحكم، ومأزق سياسي وفكري وأخلاقي فظيع، يكاد يكون عنوان مرحلة العرب في هذه الفترة الحضارية الرهيبة.
يقينا أن مبادرة المواطن التركي بوراك أوزديمير تستحق الإعجاب والثناء والتصفيق. وهو ما عبر عنه العديد من الناس على مواقع التواصل الاجتماعي. لكنها في كل القياسات تبقى خطوة محكومة بظرفها الفردي وبالإمكانيات المحدودة لمن قام بها، لذلك فالمسؤولية الأكبر تقع على عاتق الحاكم العربي في إعطاء الطفولة حقها، فقد تبدد الكثير من ثروة النفط، من دون أن يشمخ على أرض الواقع ما يقابلها من مشاريع وبنى تحتية وجامعات رصينة ومختبرات علمية، كان يمكن أن تجعلنا على صلة بالتطور الحضاري والعلمي والتكنولوجي الذي نراه يجتاح العالم من دوننا، لذلك يجب اليوم أن يكون هنالك إدراك واضح بأن تحصين دولنا، لن يتم إلا بتحصين حقوق مواطنينا المدنية والسياسية، وأولها وأهمها حقوق الطفولة، عندها فقط يشعر المجتمع بأن هذه الدولة دولته، وأنها تستحق أن يتم الدفاع عنها لأنها ترعى حقوق كل الأجيال.