في العلاقة الملتبِسة بين الرواية والسينما
العلاقة بين السينما والآداب شديدة التعقيد، وليس الأمر سهلاً دائماً بين الكاتب (الروائي) ومن يحول نصّه (السيناريست) إلى حركة وحوارات، ومن يخرجه (المخرج) أي من يعيطه حياة رديفة للحقيقة، ثم من يجعله مادة تتحرك في السوق الفنية (المنتج) مستجيباً نسبياً للنص كعالم سردي، ولكن أيضاً لمتطلبات السوق التي لها اشتراطاتها مثلاً، إذ لا يمكن أن ننتج فيلماً ونخسر عليه مالاً كبيراً، ويبقى في العلب؟ كثيراً ما انتهت هذه العلاقة في دهاليز المحاكم، في وضعية يصعب فيها تحديد الجاني والضحية. المنطق البسيط يقول التالي: إن الكاتب عندما يقبل بخوض مغامرة السينما وهو حلم أغلبية الكتاب، يوقع عقداً مع جهة منتجة، يَفترض مسبقاً أن نصه سيمر عبر مجموعة من الهُويات المختلفة التي ستترك أثرها عليه: «السيناريست» الذي يحول اللغة إلى حركة محاولاً احترام النص قدر المستطاع، مع انصياع طبيعي لحيثيات السيناريو الذي له خصوصياته وميزاته؛ و»المخرج» الذي يمتلك رؤية فنية خاصة وانتماءات مدرسية معينة سيجر المنجز السينمائي نحوها، وهو أمر طبيعي لأنه ليس جهازاً منفذاً فقط؛ ثم «المنتج» الذي راهن مالياً على نص، لكن هذا النص يخضع أيضاً لسوق ضاغطة، على الفيلم أن يستجيب لها، بشكل ما من الأشكال. هذا المربع: «الكاتب+السيناريست+المخرج+المنتج» يتحكم في نجاح الفيلم أو في فشله. يمكننا، في هذا السياق أن نضيف للمربع تفاصيل أخرى ليست أقل قيمة: الكاستينغ، والتمثيل، والديكور، الألبسة، وكلها مهمة جداً في إنتاج الفيلم. قابلية خروج الكاتب من «ذاتيته الضيقة» أمر شديد الأهمية. صحيح أن الكتابة «عزلة وفردية»، كثيراً ما تضخم الأنا وتفصلها عن محيطها، بينما السينما عكسها تماماً؛ «عمل جماعي متكامل» يقوده مايسترو كما في الموسيقى الكلاسيكية حفاظاً على الهارمونية، مسؤول من البداية حتى النهاية على المنجز المفترض، وهو من يقرر في النهاية مهما كان ديمقراطياً في تواصله مع بقية الفريق، وتشاورياً. للسينما من هذا المنظور شرطياتها وإلزاماتها الشاقة، لأن النص المكتوب ليس حتماً هو النص الذي سيتم تصويره، حرفياً، مهما كانت التقاطعات العميقة التي تجعلنا نلمح النص مثلاً الذي سبق أن قرأناه، مثل «اسم الوردة»، «الدكتور جيفاغو»، «عمارة يعقوبيان»، «الأفيون والعصا»، وغيرها من الأفلام التي ارتفعت بالنصوص أو ساوتها أو حاذتها ولا نقول أقل بالخصوص بالنسبة للأفلام العالمية الناجحة. وكلما كان الفيلم ناجحاً عملياً، دل ذلك على توافق في تقبل الاختلافات الطبيعية لكل جنس، على الرغم من الانزياحات التي تحدث عادة بين النص والفيلم.
وكلما أخفق المشروع، لا يمكنه أن يخفي التمزقات الداخلية وغير المرئية. إلى وقت قريب اعتبرت السينما، على الرغم من قيمتها، عدواً كبيراً للأدب، للسرديات تحديداً، بحجة أنها لا تحترم قداسة النص، وتغير في جوهر الأشياء، وغير منشغلة بأساسيات الاقتباس وشروطه. حادثة الأديب والموسيقي الفرنسي «بوريس فيان» Boris Vian، صاحب رواية «سأذهب نحوكم لأبصق على قبوركم»، التي ما تزل ماثلة في الأذهان إلى اليوم، على الرغم من مرور وقت طويل على وفاته. فقد دعي بوريس فيان لمشاهدة العرض الشرفي، للفيلم المقتبس من روايته تلك. عندما انتهى العرض، قام منفعلاً وصرخ في القاعة بشكل هستيري: «ماذا فعلتم بي؟ هذا ليس أنا». فرد عليه المخرج بهدوء: «نعم يا صديقي بوريس، هذا ليس أنت، ولكنه نحن». كان من الصعب على الكاتب فهم ذلك. توفي الروائي يومها مختنقاً داخل القاعة بحالة انسداد رئوي، وظل الفيلم معلقاً. الفكرة التي نستخلصها هي أن المنتَج الأدبي والسينمائي لهما مشترك كبير في البنيات الشخصية للعمل والمكانية والتخييل عموماً، لكن لهما اختلافات جوهرية تتعلق بالجندر أو النوع، وزاوية النظر التي تنبني عليها كل التغيرات الافتراضية. الصورة ليست الكلمة والعكس صحيح. لكن قوة السينما هي أنها تجعل كل شيء قريباً وممكناً، بل ترتفع بالنص الأدبي نحو جماهيرية غير مسبوقة، هي جماهيرية الصورة. لو تأملنا في السنوات الأخيرة كيف تمكنت السينما أن تقترح إعادة قراءة لكثير من النصوص العالمية ستكتشف كم أن السينما أعطت دفعاً قوياً للأدب الروائي العالمي الكلاسيكي الذي ظل حبيس المكتبات مهما كان عدد قرائه. للأسف، عربياً لا تشكل السينما رهاناً اقتصادياً وثقافياً مهماً، أو لنقل محدوداً، فيظل حضور الرواية فيها خافتاً. في كل سنة تقذف لنا المطابع العربية بما لا يقل عن ألف رواية، فيها على الأقل من خمسين إلى مائة نص قابل للانتقال نحو السينما. كم يأخذ منها المنتجون السينمائيون العرب؟ يكاد الرقم يحاذي الصفر. الدراما أكلت كل شيء. يتم الاستثمار في المسلسلات أكثر من الأفلام الروائية. لهذا، لم تشكل مثلاً أعمال نجيب محفوظ الكبيرة نموذجاً عالمياً استثنائياً على الرغم من فوزه بنوبل، لأنها لم تجد مخرجاً كبيراً يدفع بها نحو عالمية أكثر، باستثناء ما قام به جزئياً صلاح أبو سيف. على العكس من رواية «عمارة يعقوبيان» للأسواني مثلاً، التي وجدت من يدفع بها إلى الأمام سينمائياً مع حشد كبير لأهم النجوم المصريين ويضعها في مدارات الاهتمام. السينما العربية لم تفلح في هذا الجهد الفني العظيم، لأنها ارتبطت بالتجارة المباشرة والمسطحة، فأفسدت أغلبية الأعمال الروائية لنجيب محفوظ، ويوسف السباعي، وإحسان عبد القدوس، ولم تنجح في محاولاتها إلا نادراً (فيلم الأرض ليوسف شاهين، المقتبس من رواية للشرقاوي). مقابل هذا الإخفاق، لنا في «اسم الوردة» لأمبرتو إيكو مثلاً (إخراج جون جاك آنو، وبطولة شين كونري) مثالاً نموذجياً لنجاح الاقتباس والإخراج. يدرك جميع المختصين أن النجاح غير مرتبط بالضرورة بالوفاء الحرفي للرواية، ولكن بالذهاب نحو جوهرها سينمائياً، أي بالأدوات والتقنيات التي تفرضها السينما. من هنا تبدو النصوص العظيمة والناجحة هي تلك التي استطاعت أن تخترق الزمان وتتجاوز حدود العصر الذي أُنتِجت فيه لتتحول إلى أيقونة غير زمنية. الانتقال من الكتابة إلى السينما لا يلغي قيمة الرواية، ولكنه يرسخها في الحاضر الذي تصبح جزءاً حياً منه. تتحول من نص ستاتيك، مجرد تاريخ ينام في رفوف المكتبات، إلى تعبير متعال عن زمن وعصر يعاش على تماس مستديم، مع حاضر ينشأ أمام أعيننا، ويتفكك في مشهدية درامية أحياناً، وماض لم يغير إلا قليلاً من قيمه، ومعتقداته وحتى ثقافاته، لأنها لا تتبدل بسرعة وإن تخطاها الأدب بأدواته الاستشرافية. السينما تزرع عنصرَي الاستمرار والديمومة في النصوص الروائية التي اشتغلت على موضوعات إنسانية واسعة، مستمرة مع الإنسان منذ بدء الخليقة، كالحب، والكراهية، والنبل، والخوف، والخيبة، والبطولة، والخيانة، والحروب والسلام وغيرها. قيم صاحبت وتصاحب الإنسان وتعيده إلى شرطيته الوجودية الصعبة التي عليه مواجهتها بكل ما يملك من قوة ليستمر في الحياة ولا يرهن مستقبله للغموض والحروب الفتاكة. شهدت السنوات الأخيرة إنتاج أفلام عالمية كثيرة كان مصدرها الأول روايات أو مسرحيات، كمسرحية «فاوست» لغوته، و«روميو وجولييت» لشكسبير، وروايات «البؤساء» و«الرجل الذي يضحك» لفكتور هوجو، «آنا كارنين» للكاتب الروسي تولستوي، و«حجر الصبر» للكاتب الأفغاني عتيق رحيمي الذي أخرج هو نفسه روايته، و«زبد الأيام» الذي أخرجه ميشيل غوندري، عن رواية لبوريس فيان، «الخبز الحافي» لرشيد بلحاج، عن رواية محمد شكري، ثلاثية «ملينيوم» لستيغ لارسن، وثلاثية «التحولات الخمسون لغري» لمؤلفها أ. ل. جيمس، و«شيفرة دافنشي» الذي أخرجه رون هوار، للكاتب الأمريكي دان براون ونصوصه اللاحقة مثل «ملائكة وشياطين» و»إنفيرنو» وغيرها. اكتشفت الأجبال الرقمية العالم المدفون في القبور والمكتبات لروائيين غادروا هذه الحياة منذ عشرات السنين. كيفما كانت النقاشات بتجاذباتها ونفورها، تظل السينما تنحت جزءاً من غناها من النصوص الدرامية والقصصية والروائية، وتظل الرواية تدين بالكثير لهذا الفن العظيم، ربما بحياتها واستمرارها في الوجدان الإنساني، كما لو أنها كتبت اليوم. «ترهين» النصوص سينمائياً يمنحها الحياة وربما الأبدية، في عالم الصورة، اليوم.