الدراسات القرآنية في الفكر الغربي الحديث
سعدت كثيرا بالاطلاع على الملف الذي خصصته مجلة النهضة (الرباط) في عددها المزدوج (25 ـ 26 ) للدراسات القرآنية في الفكر الغربي الحديث، من خلال ثلاث دراسات لكل من نبيل فازيو (قرآننا، واستشراقهم: قرآن المؤرخين ومشكلة المرجعية) ومحمد زكاري (النص القرآني في ميادين الدراسات الاستشراقية المعاصرة) وأخيرا مصطفى بوهندي (الدراسات الغربية للقرآن الكريم).
كان مصدر السعادة أنني وجدت نفسي، من جهة أولى، أمام دراسات يطبعها الوضوح المنهجي، والإحاطة بالموضوع، والرؤية النقدية الموضوعية. وكلها سمات نفتقدها في أغلب الكتابات التي تدور حول القرآن الكريم، والتي تتم عادة من وجهات نظرية تجزيئية أو ذاتية. ومن جهة ثانية، أن يصدر الملف في مجلة يديرها الباحث نور الدين العوفي، مع هيئة تحرير تضم نخبة من خيرة المثقفين المغاربة، الذين كان لهم دور كبير في تأسيس اليسار المغربي الجديد، ما يعني أننا ربما بتنا أمام إمكانية أن نرى توجها جديدا، ومختلفا مع المسألة الدينية، التي كانت مواقف اليسار العربي عامة متشددة منها وسلبية لأسباب معروفة.
إن ما يجمع بين هذه الدراسات الثلاث هو اتفاقها، بشكل أو بآخر، على جدية الأبحاث الاستشراقية الجديدة والمعاصرة، وهي تسعى إلى تجاوز الدراسات التقليدية مستفيدة من منجزات العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة، من جهة. ومن جهة أخرى تتوقف هذه الدراسات على محدوديتها وضعف نتائجها، لأسباب تتصل بعوائق أبستيمولوجية متعددة. إن الدراسات الغربية حول الإسلام، بصفة عامة، والقرآن خاصة، متواصلة، وتتم بوتيرة متصاعدة، وفي مختلف اللغات الأجنبية. ونلمس منذ الدراسات ذات النزوع الفيلولوجي والتاريخي إلى الأبحاث التي تدور في فلك «قرآن المؤرخين» (بالفرنسية) مرورا بالأبحاث المتصلة بالأصول والتدوين وشخصية الرسول (ص)، أنها بشكل أو بآخر، ولاسيما في الآونة الأخيرة، تسعى إلى فهم وتقديم إسلام مفصل على قد المجتمع الفرنسي، مثلا، لذلك نجد الباحثين فرادى وجماعات لا ينفتحون على الباحثين الغربيين أنفسهم الذين لا يشاطرونهم المنطلقات والمقاصد، بسبب كونهم متشبعين بالإسلام، أو على الباحثين العرب والمسلمين الذين يسعون بدورهم إلى تقديم قراءات جديدة عن الإسلام أو القرآن الكريم. وهو الأمر الذي نسجله أيضا بخصوص الباحثين العرب المعاصرين الذين لا ينفتحون على أعمال الفقهاء والعلماء المسلمين والعكس صحيح.
لا يعني تزايد الاهتمام بالدراسات القرآنية منذ الألفية الجديدة، سوى كون الإسلام بات يحتل موقعا مهماً في الواقع الحالي لأسباب كثيرة منذ شيوع ظاهرة الإرهاب وما يتصل به، وإن كانت الرؤى الاستشراقية الجديدة تحاول إبراز كونها مختلفة عن التقاليد السابقة، وتنحو منحى علميا في أبحاثها عبر تجديد أدواتها ومقارباتها.
لا يعني تزايد الاهتمام بالدراسات القرآنية منذ الألفية الجديدة، سوى كون الإسلام بات يحتل موقعا مهماً في الواقع الحالي لأسباب كثيرة منذ شيوع ظاهرة الإرهاب وما يتصل به، وإن كانت الرؤى الاستشراقية الجديدة تحاول إبراز كونها مختلفة عن التقاليد السابقة، وتنحو منحى علميا في أبحاثها عبر تجديد أدواتها ومقارباتها. لكن المنطلقات التي يستند إليها هؤلاء الباحثون تظل بشكل أو بآخر مدينة للتراث الاستشراقي، ومحددة بالتصورات الغربية الحديثة للعالم، وللنص بصفة خاصة. لذلك يشيع إسقاط تصورات جاهزة دون مراعاة خصوصية الإسلام في علاقته باليهودية والنصرانية. إن هذه الرؤية الإسقاطية هي نفسها التي اعتمدها بعض الباحثين العرب فظلوا يكررون ما يرونه نتائج «حقيقية» توصل إليها الغربيون في دراساتهم، وما كان لذلك سوى أن باعد بين تصوراتهم، وما كان يعتنقه العلماء المسلمون، فظلت الفجوة قائمة بينهم وبين غيرهم من الباحثين، فلم يكن لذلك من أثر سوى هيمنة السجال، والسجال والمضاد، ورغم بروز ظاهرة الحوار والتسامح بين الأديان، والدعوات المتلاحقة إلى «إصلاح» الخطاب الديني، نجد الكثير من العوائق النفسية والسياسية تظل حائلا دون ممارسة الحوار لا السجال. أرى في هذا السياق أن تجاوز الخلفيات الجاهزة، واعتماد رؤى علمية جديدة هو الكفيل بجعل الدراسات القرآنية تنحو منحى مغايرا لما تراكم عبر قرون من الصراع إلى الآن. ولعل السؤال المركزي المزدوج الذي يفرض نفسه علينا، لتحقيق ذلك، يتجلى في إعادة صياغته بكيفية ملائمة، وهو: ماذا نريد من دراسة القرآن الكريم؟ وكيف؟ وهل علينا التعامل معه باعتباره نصا لا يختلف عن النصوص البشرية؟ أم أن له خصوصيته باعتباره وحيا منزلا؟ وفي الحالتين معا لا بد من الانطلاق من النظر إليه من الداخل، أي في ذاته. أما الإبقاء على الدراسات الخارجية فلم يؤد إلى أي نتيجة، لأنها ليست سوى تكرار لما قيل في فترة النبوة، والميتا نص القرآني خير دليل على ذلك. هذا من جهة، ومن جهة أخرى نطرح السؤال التالي: ما هي آثار القرآن الممكنة التي نسعى إلى استخلاصها من تحليل الخطاب أو النص القرآني على حياة الإنسان بصفة عامة؟ إن الانطلاق من هذه الأسئلة يفرض علينا تحديد «النظرية النصية» التي ننطلق منها، وكيف يمكننا صوغها. ومن دون ذلك ستظل ثمة قطيعة بين العلوم المختلفة، القديمة والحديثة، وهي تسعى منفردة، أو حتى مجتمعة في تناول القرآن الكريم. وإذا أردنا الاستفادة، والجمع بين العلوم الشرعية والإنسانية والاجتماعية المعاصرة، كيف يمكننا تحقيق ذلك بالكيفية الملائمة التي تتيح عملية توظيفها بالشكل الملائم. يفرض التعامل مع القرآن الكريم بكيفية جديدة تغيير المنطلقات والمقاصد، وربطها بالحياة العامة.
كاتب مغربي