القمة العالمية للحكومات.. المستقبل أولاً
قد يظن مَن يسمع بعنوان مؤتمر دبي السنوي «القمة العالمية للحكومات» (عقدت هذا العام في 10 فبراير2019) بأنها قمة سياسية لرؤساء دول العالم، كعقد معاهدة اقتصادية أو حلف عسكري، أو لتدارك حرب مثلاً، لكن لا وجود لكلِّ هذا في القمة المذكورة، إنما هي تبادل خبرات بعيدة عن الإطار الرَّسمي السياسي الحكومي المعروف، في شتى المجالات، يحضره رئيس جمهورية ورؤساء وزراء سابقون وحاليون، ورئيس منظمة دولية، ومختصون في البيئة والإلكترون والفضاء والثقافة والفن وعاملون في السلام الديني من رجال الدين لتبادل الآراء والخبرات.
إنها تظاهرة عالمية، غير مختصة بالحكومات بمعناها المعروف، وإنما العمل لمهام حكومات المستقبل، فمِن المعروف لا الماضي ولا الحاضر يحتاجان إلى تخطيط ووضع أفكار لأنهما واقع قد حصل، إنما ما يخطط هو للمستقبل الذي سيكون ماضياً وحاضراً، والمستقبل لا يُعاش بالأفعال بل بالأفكار، فما نراه من عمارات هائلة البناء ومشاريع عاشها ويعيشها النَّاس بدأت بخيال، ثم رسم الأفكار والتصاميم على الورق، لهذا أصبحت للأفكار ميادين ومؤسسات تقابل مؤسسات العًمران المنفذة في شتى مجالاته.
السؤال، كيف تحملت دولة الإمارات هذه التظاهرة، التي يصل عدد ضيوفها المشاركين إلى أربعة آلاف شخصية؟ وكيف اجتمعت هذه العالمية في الدولة التي تعتبر فتية قياساً بدول يصل تاريخها إلى مئات السنين؟ كيف يتحمس للحضور هذا العدد، وبينهم قادة دول وفكر وفن مؤثرون عالمياً، بلا أدنى تحسس؟! مثلما يحدث في مؤتمرات الدول العقائدية؟!
إنه السعي والتهيئة للعالمية، وفي مقدمتها التسامح الديني والمذهبي، ليس هناك فرض لزيٍ محدد على المرأة، ولا منع صاحب علم من علمه، القبول بالجميع دينياً واجتماعياً، وتهيئة بيئة خارج المحلية المغلقة، وما يمثله الأمن الشخصي والاجتماعي، فلا نظن أن مكاناً في العالم أكثر أمناً للنساء مما وفرته الإمارات، بثقافة وقوانين صارمة، وإذا أمنت المرأة من تحرش واعتداء واستضعاف أمن المجتمع ككل، بلاد مفتوحة على كل جديد والعمران لأجل العالمية مستمر، لهذا يتمنى كل إنسان مهما كان دينه ومذهبه أن يعيش في مثل هذه الأجواء، إذا لم يستغل وجوده لغير التعايش، كالعمل السياسي الحزبي العقائدي.
مثلما أشرنا، أن كلَّ كلمةٍ في القمة خصت المستقبل، فالإنسان يعيش في تحدٍ مع مستجدات العلم، ومدى محاولات كشف أسرار الكون في هذا القرن والذي بعده. ففي المُتحف الملحق بقاعات الندوات، طُرحت فكرة كيف سيكون عليه دماغ الإنسان في (2100)؟ كيف سيكون عليه الطب في المستقبل القريب، أن تفحص بنفسك إلكترونياً وبسرعة ودقة فائقتين.
من المواضيع التي ضمها العام الماضي والحاضر من القمة العالمية: «سياسات تقدمية لمستقبل ناجح» لرئيس وزراء فرنسا، «أرض الإلهام والفرص» لوزير داخلية الإمارات، بعد أن عدد التسميات التي اشتهرت فيها الدول، مثل ألمانيا تسمى بأرض الأفكار النيرة، وهي بالفعل تعتبر «أم الفلسفة الحديثة»، وأميركا «أم الأحلام»، والهند «أم العجائب»، وما يحصل بالإمارات من تقدم سريع في العمران والاجتماع، من الحق أن تسمى بـ«أرض الإلهام والفرص»، ولا تدعي أنها تعمل لهذا الأمر بمفردها وبجهدها الذاتي، إنما عن طريق العالمية.
من مواضيع المستقبل أيضاً: «التعافي الاقتصادي العالمي لبناء عالم أفضل» قدمتها مديرة صندوق النقد الدولي، و«دور الحكومات في بناء رأس المال البشري»، قدمها رئيس البنك الدولي. طُرحت مسألة المياه، وحلولها في المستقبل، والتعليم كيف سيكون عليه في المستقبل. نظرت كلمات العلماء المشاركين في كيفية إدارة الموارد في الفضاء، كيف ستكون الزراعة هناك مثلاً.
فرق كبير بين مَن يجعل مهمته تجاه اكتشافات الفضاء الهائلة ومَن يفكر بتحطيم العالم بفكرة عقائدية، والانشغال بالتمهيد للمنقذ الذي يُهدد به العالم، وكيف ستكون العبادة في المريخ، من دون علم بأسرار الكواكب، بينما التخطيط لحل إشكالية الماء والطعام هناك جرى بعلم، وأن اكتشاف الفضاء بطله العقل وهو المنقذ لا غيره. يقول المعري(ت449ه): «يرتجي النَّاسُ أن يقوم إمام في الكتيبة الخرساء/كذب الظن لا إمام سوى العقل مشيراً في صبحه والمساء»(لزوم ما لا يلزم).
هذا ولم يرد في القرآن مِن ثابت في كل الأزمنة غير العقل، فبه تجود الحياة ويُفهم الدِّين.
مِن أهم ما أشير إليه في هذه القمة هو موضوع التسامح، الذي وضح دوره وزير التسامح في دولة الإمارات، كعامل مهم في الشراكة العالمية، فهو المبدأ الذي تتأسس وفقه المدن الرشيدة، وأن حكومات هذه المدن أو الدول لا تكون رشيدة إلا بدعمها للتسامح الديني والاجتماعي، وبعدم السَّماح بمعرقلات التسامح، وهذا ما يجعل مئتي جنسية على اختلاف عقائدهم يضمهم مكان واحد بلا تدافع.
لا تتحقق العالمية إلا على قاعدة التسامح، تلك التي لا تعرفها السياسات العقائدية، فالعقائدي لا يعترف بتبادل الخبرة، ولا بنقصه، ولمحمود الوراق(230ه): «أتمَّ النَّاس أعرفهم بنقصه/وأقمعهم لشهوته وحرصه»، وشهوة العقائدية دمرت بلداناً ثرية بأرضها وبشرها، لم تنشغل بالمستقبل وعالميته بقدر ما شغلها الماضي ومحليته، غير أن رسم المستقبل هو الأساس، وهذا ما لمسناه في ندوات «القمة العالمية للحكومات» بدبي.