جار الله عمر ….. كبرياء التواضع
مع كل ذكرى تحلّ لاستشهاد الرفيق جار الله عمر،أشعر بغصّة ومرارة لفقدانه، وهو في أوج عطائه وتألقه قائداً وطنياً جامعاً وعروبياً أصيلاً واشتراكياً متنوّراً، ولهذا فقد ترك غيابه فراغاً كبيراً لا يمكن تعويضه بسهولة، خصوصاً في ظروف اليمن الحالية والأوضاع العربية بشكل عام.
وكنت أشعر بالحرج مع نفسي لأنّني لم أكتب عنهلأعبّر عن فداحتي وخسارتي الشخصية لصديق مثله ، ولكنني قرّرت إدراج اسمه على مخطط لكتاب أنوي إصداره عن عدد من الشخصيات العربية والعالمية، وجاءت الفرصة هذا العام، حين اتصل بي إعلامي نابه من شبيبة الحزب الاشتراكي اليمني، سبق أن أجرى معي مقابلة في صنعاء في العام 2011 على ما أتذكّر، وطلب مني شهادة شخصية عن جار الله عمر، وهو في موقع نضالي متقدّم من أرض الوطن، ولم يكن لي إزاء هذا الطلب إلّا الاستجابة بكل ممنونية وهذا ما كنت أنتظره.
فالكتابة أولاً– هي شهادة عن صديق ورفيق عرفته منذ عقود من الزمان واشتركت معه بآمال وهموم وخيبات في ظروف مختلفة،
وثانياً– هي شهادة في الوقت نفسه عن تجربة اليمن الديمقراطية، بما لها وهو كثير، وما عليها وهو ليس بقليل، وآن الأوان لمراجعة تجاربنا من موقع نقدي منفتح بعيداً عن التعصّب والانحياز، لاسيّما في كشف أخطائنا.
وثالثاً- إن هذه القراءة الارتجاعية واستعادة التاريخ هدفها المستقبل، خصوصاً واليمن يعيش ظروفاً بالغة القسوة والتعقيد، سواء على مستوى السلطة والصراع الداخلي الدموي أم على صعيد الحرب المشتعلة فيه منذ العام 2015، يضاف إلى ذلك الأوضاع المعيشية والصحية الكارثية بكل معنى الكلمة، حسب توصيف الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية.ولهذا تصبح الكتابة عن جار الله عمر والتجربة اليمنية “فرض عين وليس فرض كفاية” كما يُقال.
والاستهلال يبدأ من لقائي الأول بجار الله عمر وزيارتي الأولى لعدن واليمن (العام 1974)، فقد كنت في كل لقاء وحوار وجدل معه أزداد إعجاباً بتواضعه الكاريزمي وكبريائه المعرفي وومضاته الفكرية، مثلما أزداد اندهاشاً بالتجربة اليمنية وبالشعب اليمني، وهو ما قلته في شهادتي المتلفزة والموجهة لشابات وشبان يحتفلون بالذكرى الـ 16 لاستشهاده. والكتابة عنه بلا أدنى شك ستكون ذو شجون لجهة رمزيته وشخصيته الجامعة ودوره الفعّال والمؤثر، ناهيك عن أي حديث عنهإنما هو حديث عن اليمن، وستكون مثل هذه الكتابة مراجعة مع الذات وبصوت عال من موقع النقد والنقد الذاتي المسؤول.
I
ولأن التجربة اليمنية امتازت برومانسية عاليةسواءً من داخلها أو من خارجها لدى اليسار العربيبتوجهاته المختلفة وأجنحته المتعددة، لجهة علاقتها بحركة التحرر الوطني العربية والفلسطينية بشكل خاص أو لجهة منجزاتها ومكاسبها، ناهيك عن المنعرجات التي مرّت بها والمآلات التي وصلت إليها، ولذلك فهي تحتاج إلى وقفة تأمّل وتساؤل مشروع ومراجعة ضرورية: فهل كنّا أمام تجربة “اشتراكية” أم تجربة “ذات توجّه اشتراكي” كما وصفها المنظّرون السوفييت؟ أم هي “مقدمة للثورة الوطنية الديمقراطية” كما أعتقد، لأن مهماتها كانت متداخلة ومتشابكة لدرجة الاندغام وفي طليعتها الانتقال من السيطرة البريطانية المباشرة والإرث الاستعماري الطويل الأمد إلى نظام وطني بفعل ثورة مسلحة، وصراعات داخلية عشية الاستقلال وقيود وعقبات قبلية ومناطقية وعادات وتقاليد ثقيلة وأوضاع اقتصادية ومعيشية متخلفة وتآمر خارجي دولي وإقليمي.
ومقابل ذلك كان هناك نخبة متميّزة من الثوريين الحالمين الذين عركتهم المعارك وتصلّب عودهم في المواجهة، ولاسيّما المسلحة، كل عدّتهم إرادة سياسية صلبة ومبادئ عامة ذات نزعة عروبية وتطلعات لحياة أكثر عدلاً وإنصافاً، وهكذا وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام مهمات جديدة ومعقّدة، فهم لا يمتلكون تجربة كافية لا في الإدارة ولا في الاقتصاد ولا في الدبلوماسية والسياسة الدولية ولا في العمل العام. لذلك فالقول إنها مقدمات للثورة الوطنية الديمقراطية ليس افتئاتاً عليها أو انتقاصاً من شأنها وتقليلاً من قيمتها، مثلما لا ينبغي المبالغة في تعظيمها وتبجيلها ونسيان أخطائها. وواجهت اليمن من حيث الجوهر مهمات مركبة ومزدوجة وطنية واجتماعية، يضاف إليها هدف وحدوي باتحاد الشطرين الجنوبي والشمالي الذي ظلّ هدفاً تسعى إليه.
لم تكن اليمن يومها تمتلك أية قاعدة صناعية أو إنتاجية، وليس فيها طبقة عاملة مؤثرة، وإن نسبة الأمية كانت مرتفعة وإن الإرث الاستعماري البريطاني كان قوياً، إضافة إلى الروابط الاجتماعية القبلية والجهوية، فضلاً عن انتشار السلاح، وهناك من أورد عشية أحداث اليمن، خصوصاً حين اندلعت الاحتجاجات الشعبية في 27 كانون الثاني (يناير) 2011 ضد حكومة علي عبدالله صالح بأن عدد سكان اليمن نحو 30 مليون نسمة في حين أن عدد قطع السلاح تزيد عن 68 مليون قطعة، وحسب وصف يمني طريف يقول ” يولد اليمني والبندق معه” والمقصود إن السلاح رفيق الرجال، فلا رجولة دون السلاح، وتلك واحدة من القيم اليمنية القبلية المؤثرة والتي لا بدّ من أخذها بنظر الاعتبار عند وضع برامج التحوّل الديمقراطي.
لعلّ تلك الرومانسية كنت قد شاهدتها بأن عيني في اليمن خلال زيارتي الأولى حين لمحت تظاهرة شعبية، فاقتربت منها لأسمع شعاراتها وإذا بها تطالب بتخفيض الرواتب : واجب علينا واجب / خفض الرواتب واجب/ واجب علينا واجب/ حرق الشوادر(النقاب)/ واجب ولم أسمع في حياتي حزباً أو جهة أو شخصاً يطالب بتخفيض راتبه، فما بالك إذا كان زهيداً، إلّا في اليمن. ولذلك كنت أتندّر مع محمود راشد (مدير دائرة المجتمع المدني في جامعة الدول العربية – القاهرة): ونهتف معاً: واجب علينا واجب/خفض الرواتب واجب (وهو شاهدناه سويّة في عدن آنذاك).
وقد وصف ديفيد هيرست تلك التجربة المثيرة بـ ” اشتراكية بدوية بوجه إنساني” تمثّلاً بحركة دوبشك الإصلاحية التشيكوسلوفاكية “اشتراكية بوجه إنساني”(ربيع براغ 1968)، لكن التجربة لم تكن بدوية، وإنما يمكن توصيفها بتجربة رومانسية ثوريةبمسحة قبلية- ريفية في إطار مؤدلج منفصل عن الواقع ومستنسخ لتجارب اشتراكية مختلفة، من حيث الظرف والمنشأ والتكوين والتطوّر الاجتماعي، وكان الروائي أبو كاطع (شمران الياسري) يتندّر على بعض أنظمة العالم الثالث الدكتاتورية ذات الطبيعة الشمولية المتخلّفة ويسمّيها “فاشية بدوية“ أو “فاشية ريفية“ لعدم تمركز رأس المال المالي حسب التعريف الكلاسيكي للفاشية.
وبتقديري إن اليمن كانت قد بالغت باتخاذ إجراءات التأميم التي شملت مساكن وورش صيد وبعض المرافق البسيطة، ولم تكن مثل تلك الإجراءات التي حصلت في العالم الثالث دليل التحوّل الاشتراكي، بقدر ما هو تقليد لبلدان “الأصل” الاشتراكية، التي هي الأخرى شوّهت الفكرة الاشتراكية الإنسانية بمثل تلك التطبيقات الصارمةوالتي حدّت من دور القطاع الخاص وقلّصت إلى حدود كبيرة من المبادرات الشخصية .
ويحتاج التحوّل الاشتراكي إلى بناء قاعدة صناعية وإنتاجية وتحقيق تنمية متوازنة وعلى جميع الصُعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية والتعليمية وغيرها، مثلما يفترض في مرحلة الثورة الوطنيةالديمقراطية دعم الصناعات الوطنية والقطاع الخاص وتشجيعه على الاستثمار الداخلي وتحقيق نهوض تعليمي ، بالقضاء على الأمية ووضع القوانين والأنظمة التي تساعد على تمكين المرأة تمهيداً لتحرّرها ومساواتها مع الرجل، خصوصاً في ظل حكم القانون، ولعلّ ذلك هو الذي يقود إلى النضج والتراكم والاكتمال، لكن التياسر والاندفاع الثوري كان جزءًا من الرومانسية الثورية لتلك المرحلة، ولم تكن اليمن لتشذّ عنها، حيث كنّا نرفع أكثر الشعارات رنينياً وصخباً معتقدين أنها “الثورية” بعينها ، دون أن ندري أن بعضها كان بالضد لما أشار إليه لينينفي كتابه “مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية”،(صدر في العام 1920) الذي كثيراً ما كنّا نتغنّى به .
وإذا كان الطابع الرومانسي والحلم بقيام اشتراكية في هذا الجزء الفقير من العالم ، والذي كانت ميزانيته عشية الاستقلال 1967 (خمسة ملايين جنيه استرليني) فإن الطابع العنفي- الدموي كان شديد الوضوح فيها، ولم يختلف الشمال عن الجنوب حيث ذهب رؤساء عديدون ضحية العنف والصراع الدموي على السلطة ابتداء من فيصل عبد اللطيف ومروراً بقحطان الشعبي وابراهيم الحمدي وأحمد الغشمي وسالمين (سالم ربيّع علي) وعبد الفتاح اسماعيل.
وشهد العديد من البلدان ذات الطابع الشمولي مثل تلك الإرتكابات وكنت قد أشرت في مقالة لي بعنوان”العنف وفريضة اللّاعنف- شذرات من تجربة شخصية” المنشورة في مجلة آفاق أدبية، بغداد، العدد 3-4، 2017 ، إن الآيديولوجيات الشمولية جميعها وقعت في نهاية المطاف ضحية نفسها، فـ“العنفية العقلانية” التي حاولت التعكّز عليها لم يكن هدفها سوى إيجاد “مبرّرات” مشروعة لها لممارسة العنف ونزع سلاح الخصم وإرغامه على الانصياع، لكن تلك “المنطلقات” ذاتها، استخدمت كذريعة للتصفيات الداخلية بزعم التآمر أو مخالفة المبادئ أو ما سوى ذلك من حجج راح ضحيتها أقرب الناس إليها.
وكم من مرّة في التاريخ القريب وليس البعيد“الثوري وغير الثوري” يحصل هذا. ونستحضر هنا ما قام به أدولف هتلر في الحادثة المشهورة بـ “ليلة السكاكين الطويلة” أو “عملية الطائر الطنان”وهي عملية التطهير التي وقعت في ألمانيا النازية بين 30 حزيران(يونيو) و 2 تموز(يوليو) 1934، عندما نفذ النظام النازي سلسلة من عمليات الإعدام السياسيةخارج القضاء شملت المئات من أنصار النظام.
أما مجزرة الثلاثينات وما بعدها التي ارتكبها جوزيف ستالين بحق رفاقه في الحزب، فقد أصبح العدد بمئات الآلاف، بل بالملايين، وكانت محاكمات العام 1936 -1938 كوموتراجيديا حقيقية، حيث أجهز ستالين في محاكمات صورية على الحرس البلشفي الأول وقادة ثورة أكتوبر، والذي شمل قيادات تاريخية مثل بوخارين وزينوفيف وكامينيف ومجموعة كبيرة من أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية واتهمهم بالتخريب والتآمر لصالح الامبريالية والتجسّس لحساب بريطانيا وألمانيا واليابان .
واقتفى أثره منغستو هيلا ميرام (أثيوبيا) الذي دعا قيادته إلى وليمة للدم فقام بتصفيتهم، وعرفت فترة حكمه بالإرهاب الأحمر، حيث قتل مئات الآلاف من الخصوم والأعداء، وخصوصاً في أعوام 1977-1978بزعم ثوريته وماركسيته وحزمه ضد المؤامرات الخارجية.
أما بول بوت (كمبوديا) فقد قتل في الفترة ما بين 1974-1979 ما يزيد على ثلث السكان البالغ عددهم ثمانية ملايين نسمة، حيث يقدّر عدد ضحاياه بنحو ثلاثة ملايين وفرض نمط حكم استبدادي تحت عنوان تحقيق الاشتراكية الزراعية، فأجبر سكان المناطق الحضارية على الانتقال إلى الريف للعمل في المزارع الجماعية.
وشهدت بغداد مجزرة مروّعة قام بها صدام حسينعُرفت بمجزرة “قاعة الخلد“ (تموز/يوليو) العام 1979 التي أودت بثلث القيادة القطرية لحزب البعث وعشرات من الكوادر المتقدّمة في محكمة خاصة وبمحاكمة صورية بزعم اكتشافه مؤامرة.
وحصل الأمر على نحو مشابه في أحداث اليمنوالصراع الدموي الذي راح ضحيته قيادات بارزة من الحزب الاشتراكي وفي مقدمتهم “عبد الفتاح اسماعيل”، إضافة إلى أكثر من عشرة آلاف قتيل، في صراع عبثي أغرق التجربة بالدم.
وبعد فالتجربة اليمنية مثل كل التجارب الاشتراكية الأخرى اتسمت بالشمولية والوحدانية وادعاء الأفضليات واحتكار الحقيقة، ولهذا كانت تزعم أنها تحكم باسم “كل الشعب”، ولذلك احتكرت العمل السياسي والنقابي والاجتماعي، وكان شعار الجبهة القومية ” كل الشعب قومية/ تحيا الجبهة القومية“ الذي اتخذه المؤتمر الخامس للجبهة القومية المنعقد في آذار/مارس/ العام 1972، وعلى نفس المنوال حاك صدام حسين شعاره“الجميع بعثيون وإن لم ينتموا ” وتحكّمت تلك التجارب بالإعلام والثقافة والفنون والآداب والتجارة والسياحة والرياضة، وفرضت سلطتها بواسطة أجهزة الأمن والمخابرات ذات الصلاحيات الكبيرة باسم ” أمن الدولة” وكان من أبرز سماتها جعل قرارات الحزب فوق الدولة، وهذا الأخير في نهاية المطاف خضع لأجهزة المخابرات التي كان يتحكّم فيها الولاء للزعيم والقائد الذي بيده جميع السلطات.
كنتُ قد تعرّفتُ على جارالله في آذار (مارس) العام 1974 عند أول زيارة لي لعدن حيث ألقيت محاضرة في ندوة طلابية وشبابية بعنوان “ديمقراطية التعليم والإصلاح الجامعي” نشرت في جريدة “طريق الشعب” العلنية حينها، وكان قد عرّفني عليه الرفيق شايع محسن الذي أصبح عضواً في المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني، وفيما بعد سفيراً لليمن “الموحّدة” في العام 1990 في لندن، وتعرّفت في الوقت نفسه على سلطان أحمد عمر (الذي ساهم في الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني في الجنوب، وكانت الشرارة الأولى قد انطلقت من جبال ردفان) وقد حملت له رسالة من الصديق أحمد محمد زيدان الذي درس معنا في العراق في جامعة بغداد وتخرجنا في العام نفسه 1967-1968 (أصبح سفيراً لبلاده في كوبا) وانضم إلى الحزب الديمقراطي الثوري ليصبح عضواً في لجنته المركزية حيث كان سلطان أحمد عمر أمينه العام .
والتقينا في أحد الأماسي في عدن: جار الله عمروشايع محسن وسلطان أحمد عمر وسعيد سيف(عبد الرحمن النعيمي) الذي تعرّفت عليه في تلك الزيارة الأثيرة، حين كان قادماً من ظفار. كتبت عن النعيميوعلاقتي الخاصة به في كتابي الموسوم” عبد الرحمن النعيمي : الرائي والمرئي وما بينهما” دار الكنوز الأدبية ، بيروت، 2016.
كما التقيتُ في تلك الزيارة سالم ربيّع علي(سالمين) رئيس مجلس رئاسة الشعب الأعلى الذي كان يوصف بأنه ” بوخارين” الجبهة القومية “القائد المحبوب” وصاحب المبادرات ودعانا إلى بيته بحضور الروسي فلاديمير(فولوديا) والسوداني حسن أبا سعيد والألماني كجمن، وكان معنا جار الله عمروآخرين.
كما استمعت في تلك المناسبة إلى عبد الفتاح اسماعيل الرؤيوي والمثقف والأديب الذي ألقى محاضرة بحضور نخبة متميّزة من الحاضرين وجمع من قيادات الجبهة القومية، وسألني على هامش المحاضرة عن أوضاع العراق وكيف تسير “الجبهة الوطنية” ونظرة الحزب الشيوعي إزاء المستقبل.
والتقيت بعدها بعلي ناصر محمد رجل الدولةوصاحب الكفاءة الإدارية كما عُرف لاحقاً، الذي كان حينها رئيساً للوزراء، وفي زيارتي الثانية لعدن التقيت به حين تبوأ منصب رئاسة الجمهورية وكنت برفقة عامر عبدالله ونزيهة الدليمي لحضور مؤتمر دولي لمجلس السلم العالمي حول الوجود العسكري الإمبريالي في مطلع العام 1982، وبعد أن غادر المسؤولية التقيته مرّات كثيرة في دمشق والقاهرة وبيروت.
وكم كانت دهشتي كبيرة أن تلك اللقاءات تجريخارج البروتوكولية التي نعرفها والبيروقراطية الحزبية المراتبية، ولعلّ كل شيء في اليمن في تلك الفترة كان عفوياً وتلقائياً، وأتذكّر أن لقاء تلفزيونياً ضم الممثل السوفييتي والممثل الألماني الديمقراطي وكاتب السطور دام نحو ثلاث ساعات وكان البثّ مباشراً، ولقي اهتمام المسؤولين قبل المشاهدين جرى فيه التطرّق للأوضاع العربية والعالمية ودور الشباب والطلاب المستقبلي.
وكان تعليق جار الله عمر: نحن نحتاج إلى مثل هذه الحلقات المباشرة أسبوعياً لتثقيف شبيبة اليمن وإطلاعهم على التجارب العالمية والعربية، بما يعزّز وعيهم ويزيد من تلاحمهم مع أشقائهم وأصدقائهم. وحين قلت له يمكنكم إعادة البث خلال فترات متباعدة، فاجأني بأن البثّ كان مباشراً وبدون ” فيديو تيب”، حيث كان التلفزيون اليمني في أول عهده. وقد علّق صديقنا السوفييتي حينها إن تلفزيون عدن هو أكثر تلفزيون “ديمقراطي” في العالم، فقد كانت دهشته كبيرة، حين عرف أن كلّ شيء يجري دون رقابة وحذف ومونتاج وتدقيق.
حين شاهدني فخري الدليمي الذي قنصلاً في السفارة العراقية (أصبح سفيراً في قطر لغاية العام 2003) في التلفزيون، قام بزيارتي في اليوم التالي صباحاً إلى الفندق الذي كنت أقيم فيه، فقد كنّا زملاء في الكلية، وكان هو عضواً في حزب البعث في حينها وقد تزاملنا في سفرة إلى القاهرة في شباط/فبرايرالعام 1965.
وكان أن صادف وجود فوّاز طرابلسي من قيادة منظمة العمل الشيوعي اللبنانية، في عدن وتعرّفت عليه في تلك الزيارة. وبالمناسبة ظلّ فواز طرابلسي الأكثر التصاقاً بالتجربة اليمنية والأكثر إخلاصاً لها، وقد أصدر كتاباً مهماً عنها بعنوان ” جنوب اليمن في حكم اليسار” – شهادة شخصية (دار رياض الريّس، بيروت، 2015). وهو عبارة عن حوارات معمّقة وباذخةأجرتها معه الكاتبة والروائية المناضلة بشرى المقطري.
وفي زيارتي الأولى كان جار الله عمر وسلطان أحمد عمر، يتردّدان على فندق 26 سبتمبر في التوّاهيالذي مكثت فيه في عدن، وقد اصطحباني في جولات إلى مناطقها المختلفة من العروسة والمعاشيق وحي كريتر إلى التوّاهي وخورمكسر والصهاريجوالمناطق الجديدة وعلى امتداد الساحل.
ما إن التقينا جار الله وأنا حتى شعر كل منا بعلاقة خاصة أو خصوصية مع الآخر، فهناك نوع من الكيمياء ربطتنا، وامتدّت هذه إلى سنوات طويلة حتى استشهاده، وقد نقلت ذلك لعامر عبدالله خلال زيارتنا إلى عدن لتمثيل اللجنة الوطنية العراقية للسلم في وفد برئاسته وعضوية نزيهة الدليمي وكاتب السطور كما أشرت، وكان أن زارنا جارالله عمر مع مجموعة من الأصدقاء في أحد الأماسي حيث مكان إقامتنا في العروسة مع الوفد السوري برئاسة أحمد الحسنالذي أصبح وزيراً للإعلام وعضوية موريس صليباعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري وعطية الجودة (متفرّغ في القيادة القومية السورية وعامل في مجالات التضامن والسلم)، وكان عامر عبدالله يعتقد أن إسكاننا في العروسة هو مزيد من التكريم لنا، في حين أقامت بقية الوفود في فندق عدن الدولي، وحين سأل جار الله عمر، أجابه على استحياء: لقد تم تخصيص هذا السكن للوفدين العراقي والسوري خشية من الاحتكاك مع الوفد العراقي الرسمي برئاسة د. عصام عبد علي.
وحين زرت اليمن مكلّفاً من الكتل الحزبية التي تمايزت عن إدارة الحزب الشيوعي العراقي في العام 1987 كنت أول من اتصلت به بعد عبد الجليل غيلان من منظمة التضامن الأفرو آسيوي، جار الله عمر الذي رافقني أيام زيارتي، واتصلا بمحسن (محمد سعيد عبدالله) الذي أصدر لي جواز سفر يمني خاصاستخدمته لنحو 5 سنوات لتسهيل مهمتي وحصولي على تأشيرات الدخول، وكنت قبل ذلك ومنذ أوائل الثمانينات قد استخدمت جواز سفر يمني وآخر سوري. وكان نوري عبد الرزاق قد زار اليمن قبلي وأجرى مباحثات مع اليمنيين وأطلعهم على خلافاتنا مع إدارة الحزب.
خلال وجودي في عدن تمكّنت من إرساء علاقة خاصة مع اليمنيين وتسهيل أمور بعض رفاقنا الذين كانوا مهدّدين بالطرد من جانب الجناح الرسمي، ومنهم علي شوكت عرمش المغضوب عليه آنذاك و4 من الرفاق الآخرين الذين استحصلت لهم جوازات سفر يمنية، إضافة إلى 7 من رفاقنا في سوريا. وقد اجتمعت في هذه الزيارة بسالم صالح نائب الرئيس آنذاك، وقام بترتيب اللقاء الفنان جعفر حسن، وكان قد انتهى حينها من تلحين أغنية ” البتاع” التي لقيت صدى وشهرة.
ولد جار الله عمر في محافظة إب في قرية كهال العام 1942، ودرس في الكتاتيب ، وبعد ثورة 26 أيلول/سبتمبر 1962 التي ساهم في التظاهرات المؤيدة لها، درس في كلية الشرطة 1963 وتخرّج منها وعيّن مدرساً فيها، وقد اعتقل في العام 1968 وكان قد دافع عن صنعاء في حصارها الذي دام 70 يوماً، وبقي في السجن لثلاث سنوات، وحين خرج منه، غادر صنعاء إلى عدن العام 1971 واستمر فيها إلى حين التئام الوحدة بين الشطرين الجنوبي والشمالي، فاستقرّ فيها.
وقد تعمّقت علاقتنا في تلك الفترة حيث كنت كثيراً ما أزور صنعاء لحضور مؤتمرات وللمشاركة في ندوات ولإلقاء محاضرات، إضافة إلى التدريس في دورات أكاديمية وتأهيلية ومنها دورة تعز التي استمرت لأكثر من 3 أسابيع، وفي كل زيارة كان لا بدّ لي من “جلسة قات“ في منزله العامر حيث يعتاد اليمنيون على “المقْيل” ، وكنت أشعر بحميمية لذلك المقام المهيب، فهو المكان الذي يجمع الأصدقاء والرفاق ويجمع الآراء المختلفة في إطار وحدة أساسها احترام الآخر والإصغاء إلى صوت العقل وإقرار بالتنوّع وتأكيد التعددية والحرص على فتح حوارات معمّقة باتجاه الأصلح والأفضل، لاسيّما بالدعوة إلى حكم القانون وإلى الديمقراطية وإلى احترام حقوق الإنسان ، ولعلّ تلك كانت الكلمات الأخيرة على لسان جار الله يوم استشهدبعد إلقاء كلمته المؤثرة في 28 ديسمبر (كانون الأول) في العام 2002 أمام مؤتمر حزب التجمع اليمنيللإصلاح وبحضور نحو أربعة آلاف شخص وبتغطية إعلامية عالمية نقلتها مباشرة شاشات التلفزة.
هذه الكلمات تعيدني إلى أول لقاء جمعني بالرفيق جار الله عمر حيث دار الحديث حول السبل الكفيلة بتعميق التجربة اليمنية وتخليصها من النواقص والثغرات باتجاه جمع أوسع قدر ممكن من القوى في إطار موحد:هل هو جبهة وطنية تضم القوى الرئيسية؟ أم تنسيق وتعاون على مشتركات؟ أم حزب موحّد (كان الجبهة القومية يومها) على طريقة الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية السابقة؟ وكانت اليمن قد تأثّرت بهذا النموذج في إطار صيغة تجمع الحزب والبرلمان والحكومة(الترويكا).
وهكذا استنسخت التجربة واقتبس الموديل أو النموذج السوفييتي، وخلال زيارتي الأولى كانت الترويكا حاكمة: سالمين (الرئيس) وعبد الفتاح اسماعيل (الأمين العام) وعلي ناصر محمد (رئيس الوزراء).وبعد ذلك وفي العام 1977 بدأت التحضيرات لتأسيس الحزب الاشتراكي اليمني بعد حوارات ومناقشات داخلية شملت كل من الجبهة القومية التي هي امتداد لحركة القوميين العرب بجناحها اليساري ممثلاً بالترويكا وحزب اتحاد الشعب الديمقراطي وهو امتداد للتيارات الماركسية (الشيوعية الرسمية) بقيادة عبدالله باذيبوحزب الطليعة الشعبية وهو امتداد للتيارات البعثية اليسارية (كتلة صلاح جديد) بقيادة أنيس يحيى.
وأتذكّر أن جار الله كان مهموماً بفكرة غرامشي والكتلة التاريخية وكان قد تأثر ببعض أطروحات منظمة العمل الشيوعي اللبنانية، حيث كان فوّاز طرابلسي دائم التردّد على عدن وحظي بمكانة خاصة لدى قياداتها. ولكن ثمة هواجس كان يتلمّسها بشأن الحفاظ على الكيانات القائمة والتقارب فيما بينها، وكانت تجربة الثورة الكوبية أمامه وهي التي دمجت الأحزاب المتقاربة كلها في إطار الحزب الشيوعي، حيث كان الهوى السائد آنذاك والميل العام يذهب باتجاه جمع هذه التنظيمات المتقاربة من حيث الأفكار، المختلفة من حيث التأريخ، في إطار أفق مستقبلي غرضه ترصين وتعزيز الثورة الوطنية الديمقراطية.
ولكن حسبما يبدو أن مثل هذه التجارب لم يكن بإمكانها التطوّر المطلوب لانتفاء المعارضة، التي لم يكن مسموحاً لها أو مرخّصاً بها، وهي ذاتها تجارب التيارات القومية: جمال عبد الناصر والاتحاد الاشتراكي، وأحمد بن بلّه وبعده هواري بو مدين وجبهة التحرير الوطني الجزائرية والبعثين العراقي والسوري وفكرة «الحزب القائد»، ومعمّر القذافيواللجان الثورية والخميني والحرس الثوري وغيرها من التجارب الشمولية التي حاولت استنساخ التجارب الاشتراكية أو بعض جوانبها وتقليدها على نحو أعمى، وللأسف فقد تنبهنا وإنْ بوقت متأخّر إلى خطل مثل تلك الأطروحات، التي لا يزال البعض متشبثاً بها حتى الآن، على الرغم من انهيار التجارب الأصلية والتجارب الفرعية منذ 3 عقود من الزمان.
وحين تكون المعارضة محرّمة أو ممنوعة أو ملاحقة، فمن الطبيعي أن تضيق رؤية الحاكم ويستبد بالبلاد والعباد ويدفع باتجاه التنظيم الواحد الذي يمتلك الحقيقة المطلقة ويسفّه كل ما عداه في إطار الرأي الواحد والذوق الواحد والزعيم الواحد ، وهكذا تنتعش الانتهازية وتتفشى الوصولية وتنتشر المداهنة وتضمرالحيوية وروح المبادرة.
وستغدو المجتمعات دون اختلاف أو تمايز وتباين وكأنها ضد الطبيعة البشرية التي هي بالأصل متنوّعة ومتعدّدة ومختلفة،وهكذا سيكون كل نظام بلا معارضة استبدادياً وسلطوياً، لاسيّما حين لا يعترف بالحق في الاختلاف وشرعية النقد وحرّية التعبير والتطلّع للتغيير،وكان ذلك من أسباب وصول التجارب الاشتراكية جميعها تقريباً إلى طريق مسدود بسبب شحّ الحرّيات وعدم الإقرار بالتنوّع وقبول التعددية، ناهيك عن الاختناقات الاقتصادية ووصول التنمية إلى طريق مسدود، إضافة إلى الكثير من التشوّهات التي شهدتها على صعيد الإدارة والحكم وانتهاكات حقوق الإنسان، وكان الإمام علي منذ وقت مبكر قد أشار إلى أن فساد الأمم في ثلاث: وضع الصغير مكان الكبير والجاهل مكان العالم والتابع مكان القائد، وتلك سمات الأنظمة الواحدية الإطلاقية التي تزعم احتكار الحقيقة.
ولعلّ ذلك جزء من أخطائنا نحن اليساريين والماركسيين والتي أخذها عنّا القوميون وما أسمتهم الأدبيات السوفييتية ” الديمقراطيون الثوريون” وعلينا أن نعترف بذلك، وليس ثمة في الأمر عيب أو نقص طالما أن الحياة نفسها تجيب على أسئلة علينا الإقرار بأن بعض ما كنّا نعتقده تجاوزه الزمن وأصبح عتيقاً، حتى وإن كان صحيحاً في حينها فلم يعد يصلح الآن، أو أنه كان صالحاً في بلد لكنه لا يصح لبلد آخر، ناهيك عن أن بعضه كان خاطئاً من الأساس بسبب فرضيات خاطئة أو معطيات ومعلومات غير دقيقة، ولهذا لا بدّ من مراجعة التجربة ونقدها بطريقة إيجابية بما يعزّز التيار الجديد من داخل حركة اليسار العربي واليسار الدولي وهذهقضية عامة لا تخصّ اليسار العربي أو القوى التحرّرية العربية لوحدها، إنما تخصّ المناضلين اليساريين على المستوى العالمي.
وما لفت انتباهي في جار الله هو ليس تواضعهالكاريزمي فقط، وإنما سعة أفقه واستعداده لتقبّل الجديد ونقده الذاتي لنفسه وحزبه والتيار السائد آنذاك، ولم يكن يتوارى أو يختفي وراء الشعارات العامة، أو يحاول إلقاء اللوم على الخصوم أو الأعداء فحسب، أو يبرّر بعض الأخطاء والثغرات أو يحاول التستّر على الانتهاكات، وإنما كان يبحث ويدقّق ويسأل ويراجع، وكان من الوضوح بمكان بحيث يشخّص النواقص ويؤشر للعيوب، ويسعى لتفهّمها وتفهم الظروف العامة التي أوجدتها، ومن هذا المنطلق كان نقده للوحدة وما بعد الوحدة، علماً بأنه كان شديد الحرص على عدم انهيار التجربة، وقد سعى من داخل الحزب كما أعرف ومن خارجه لمنع الصدام، فإذا كان الافتراق خطيئة، فإن الصدام كان أقرب إلى الجريمة بالنسبة إليه.
ولذلك، حاول بكل الوسائل وقف حمام الدم، والحيلولة دون الصدام المسلح، لمنع تفتّت الوحدة التي ناضل الحزب الاشتراكي من أجلها، كما ناضل جارالله عمر منذ يفاعته حين انتمى لحركة القوميين العرب في العام 1960من أجلها أيضاً، ولكن فكرة الوحدة نضجت لديه واكتسبت بُعداً جديداً في إطار المشروع النهضوي العربي الذي كان متحمّساً له داعياً لوحدة عربية ديمقراطية الأسلوب واجتماعية المضمون، أي أن وظيفتها مزدوجة وهدفها تحقيق الخير للناس.
وحسب معلوماتي المتواضعة فإن قلّة من قيادة الحزب الاشتراكي هي من قدّمت رؤية مستقبلية ومنهجية للوحدة اليمنية مغايرة لما هو سائد، وفي مقدمة هؤلاء القلّة كان جار الله عمر، الذي كان يميل إلى التأنّي والتحضير الجيّد وعدم الاستعجال في اندماج الشطرين، وكان رأيه الذي اقترحه على القيادة، التمهيد لفترة انتقالية، قد تستمر بضع سنوات (5 مثلاً) بحيث يتمكّن فيها الجنوب اليمني من استثمار موارده النفطية ومراكمة مداخيلها، ويتحوّل بذلك إلى قوة اقتصادية.
وفي الوقت نفسه كان يعتقد أن المرحلة الانتقالية تحتاج إلى برنامج تدرّجي للتحوّل الديمقراطيوإقرار التعددية بما سيكون مؤثراً على الشمال بعد الوحدة، وهو ما كنت قد عرفته منه بعد حصول المحذور والصدام المسلح، ولكن رأي غالبية القيادة وفي مقدمتهم علي سالم البيض ذهبت باتجاه آخر، وكانت ترى أن “الوحدة أهم من النفط“ وإن التحالف هو بين حزبين على رأس السلطة السياسية، هما: حزب المؤتمر الوطني برئاسة علي عبدالله صالح الحاكم في الشمال والحزب الاشتراكي برئاسة البيض الحاكم في الجنوب.
وكانت تلك الرغبات العاطفية والإرادوية قد طغت على الجوانب العملانية والمنهجية، وللأسف فإن معظم الوحدات التي أقيمت بين الأقطار العربية كانت على هذه الشاكلة، الأمر الذي أصاب الجمهور العربي بالإحباط والقنوط أحياناً لفشل التجارب الوحدوية غير المدروسة بما فيها الوحدة الاندماجية المصرية – السورية العام 1958، والتي انتهت بالانفصال في العام 1961 دون نسيان التآمر الدولي والإقليمي للإطاحة بها، إضافة إلى أخطائها وثغراتها الداخلية، فالهدف النبيل والعادل يحتاج إلى وسائل سليمة وصحيحة للوصول إليه، وإلّا ستكون النتائج عكسية.
هكذا انتهت “جنّة الفقراء الفقيرة” كما يسميها الشاعر محمود درويش وفردوس اليسار العربي( اليمن الديمقراطية ) كما اصطلح على تسميتها إلى جزء من بلد يحكم بطريقة شمولية وفي ظلّ عسكرتاريا خاصة، ممزوجة بنزعة قبلية وبصبغة شبه دينية، بعد أن كانت في إطار نظام مدني واعد، وبرغم كل مساوئ التجربة الاشتراكية الدولية المستنسخة في اليمن وتشوّهاتها وصراعاتها الداخلية، لكن بديلها كان متخلفاً ووضع العصي في عجلة التقدم المنشود، بل أجهز على بعض المكتسبات المتحققة في الشطر الجنوبي.
لقد حقّقت اليمن بمصطلحات تلك الأيام منجزات مهمة على صعيد “الرعاية الاجتماعية” بتأمين حق الإنسان في العلم والعمل والسكن والصحة، وحسب توصيف فواز طرابلسي ” دولة نفطية بلا نفط”، وهو يقصد الرفاهية، فإن هذه المنجزات، إضافة إلى حقوق المرأة ” قانون الأسرة” والإصلاح الزراعي والقضاء على الأمية والقوانين المدنية، كلّها ذهبت أدراج الرياح في صفقة توحيد غير متكافئة، ابتدأها أعداء الحزب الاشتراكي، ولاسيّما من جماعة حزب التجمع للإصلاح بالتكفير والعنف الآييولوجي الذي انتهى بعنف دموي بتنظيم سلسلة من محاولات الاغتيال، ناهيك عن الحملة المنظمة ضد قانون الأسرة الذي منع تعدّد الزوجات وحدّد المهر بمبلغ رمزي وسمح للزوجة بطلب الطلاق وغير ذلك.
وبُعيد الوحدة جرت محاولات عديدة لاغتيال قادة الاشتراكي بينهم جار الله عمر وحيدر أبو بكر العطاس وياسين نعمان وتم اغتيال بن حسينون وزير النفط في حضرموت وقد لعب الأفغان العرب المتعاونون مع حزب الإصلاح دوراً في ذلك، وكان العديد من فتاوى التكفير قد صدرت، الأمر الذي شكّل عائقاً أمام تطور الوضع، خصوصاً وقد لقيت تلك المحاولات تواطؤاً إن لم يكن مشاركة خفية من الحزب الحاكم..
في أوائل الثمانينات لبّى الجواهري دعوة لزيارة “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية” وقد صادف ذلك بعد دعوة خاصة كانت قد وجِّهت إلينا من رئاسة اليمن، لحضور المؤتمر الذي عقده مجلس السلم العالمي في عدن، بخصوص مخاطر الوجود العسكري في الخليج كما جرت الإشارة إلى ذلك. وقد رويت ذلك في كتابي “الجواهري- جدل الشعر والحياة”، دار الكنوز الأدبية ، بيروت، ط1، 1997.
كان الجواهري يسأل عن الطبيعة والناس والطقس في عدن وعن الكتّاب والادباء والرئاسة وغيرها،ولقي التشجيع منّي على زيارته لاعتبارين، الأول لموقف اليمن المشرّف آنذاك من المعارضين العراقيين، حيث استقبلت المئات منهم، وللتسهيلات التي قدمتها للعمل والدراسة والعلاج والجوازات وغيرها، فضلاً عن مساعدات أخرى.
أما الثاني، لاعتقادي بأنها كانت تمثل “نموذجاً” متميّزاً يمكن أن يتحوّل باتجاه تحقيق العدالة والتقدم،وما كنا ندري أن ثمة رواسب وعقداً وموروثاً لا يمكن تخطيّها بسهولة وبهذه السرعة، فتحولت التجربة إلى دورات اقتتال وعنف وغدر راح ضحيتها بشر وكفاءات وموارد أضرت باليمن الجنوبي كثيراً.
وحاولت اليمن الجنوبية وقيادة الحزب الاشتراكي الخروج من الأزمة بالالتئام مع الشمال والتخلّص من حالة الذبول التدريجي، خصوصاً بعد وقف المساعدات السوفيتية لها وانهيار الكتلة الاشتراكية وتردّي الأوضاع المعاشية والاقتصادية، وهكذا كان الهروب إلى الأمام، بل إن بعض القيادات اندفع على نحو شديد في ظل اصطفافات جديدة، ولا ينبغي أن ننسى قوة التقاليد القديمة والموروث المتأصل والاستقطابات القبلية والجهوية، حيث لم يمسّ التغيير سوى قشرة فوقية.
ذهب الجواهري إلى عدن وهو محمّل بانطباعات أقلّها إيجابي، وإذا كان ثمة سلبيات، فتعود إلى المناخ والطبيعة وقسوة الحياة، لكن المحذور قد حصل، فلم يكن أحد من المسؤولين باستقباله، واكتفى العراقيون (المنظمة الشيوعية) باستقبال بسيط له من المسؤولين هناك، وعندما أجريت الاتصالات، كانت المبررات تتعلّق ببعض الإشكالات داخل اليمن وبالتحديد في اتحاد الكتابآنذاك، ويبدو أن النار كانت تتّقد تحت الرماد كما يقال، حتى اندلعت أحداث 13 كانون الثاني (يناير) 1986 وراح ضحيتها نحو 10 (عشرة) آلاف قتيل بصراع “القبائل الماركسية” كما أطلق عليه في حينها.
ورغم أن الجواهري خلّد عدن بقصيدة رائعة، لكن مرارته وانطباعاته ظهرت فيما بعد وقد نشرت القصيدة في صحيفة ” الثوري” العدنية بتاريخ 6/3/1982.
من مَوطن الثلجِ زحّافاً إلى عدن/ خَبَّتْبي الريحُ في مهر بلا رسنِ/
كأسي على صهوة منه يصفقها/ ما قيّضَ الله لي من خلقهِ الحسن/
من موطن الثلج من خضر العيون به/لموطن السمرِ من سمراء ذي يزن/
من كل ملتفة الكشحين ناعمةٍ/ميادةٍ مثل غصن البانةِ اللدن/
يا للتصابي.. ألا ينفكُّ يجذبني/على الثمانين جذب النوق بالعَطن/
عندما عاد الجواهري من رحلة عدن، بادرني بالسؤال بطريقته: أهذه عدن جنّتكم “الموعودة”؟ أهي اليمن السعيد؟ أهو حلمكم الثوري؟ كونوا إذن حالمين.. ربّما بكوابيس أو سعالي قد تطلع من البحر.. لا أدري، فلست أريد مثل هذا الحلم. وأضاف أنا حلمي أخضر وليس رمادياً.. إنه عشقي في براغ. قلت له في “موطن الثلج”.. من “خضر العيون” قال نعم. فأكملت “لموطن السمر من سمراء ذي يزن” قال “خليّها إلك” أي أنها من حصتك!!..
فهمت أن الزيارة لم تكن موفقة، ومن ثم تداعيات الاستقبال الأول وبعدها، علمت أن الرئيس السابق علي ناصر محمد لم يستقبله، لأنه كان في زيارة خارج اليمن، لكنه عاد قبل يومين من سفر الجواهري إلى دمشق عبر صنعاء التي احتفت به، دون أن يحدد موعداً للقاء.وصادف حين سأل عن جار الله عمر لم يكن موجوداً، وكنت قد كتبت له رسالة خاصة.
وبغض النظر عن بعض الملابسات، فقد كان الجواهري يقرأ الأحداث قبل الآخرين.. أهي فراسة شاعر، أم نباهة متوجّس عركته التجربة وصقلته الحياة أم شكوك مثقف يريد أن تُدقّق كلماته وخطواته وقائع وحقائق وليس مجرد شعارات؟
حين أصبح جار الله عمر وزيراً للثقافة العام 1993 كان ذلك إقراراً من جانب النخب الحاكمة وغير الحاكمة،بل والجميع بالقدرات النظرية والعملية التي يمتلكها والمؤهلات الكبيرة التي حملته إلى هذه المسؤولية، لاسيّما سعة أفقه وعمق معرفته وعلو ثقافته، إضافة إلى انفتاحه وتقبّله للرأي الآخر واعترافه بالحق في الاختلاف، وتلك المؤهلات جعلته يتولّى أعلى المسؤوليات بجدارة مثل الدائرة السياسية والدائرة الآيديولوجية في الحزب، وكان محاوراً من الطراز الأول، فبالإضافة إلى السياسة العامة، كان يحتفظ دائماً بصوته الخاص.
كان جار الله عمر منفتحاً على التيارات والمجموعات الدينية ويتعامل معها باحترام، لأنه هو نفسه كان متديّناً داخل الحزب الاشتراكي، فقد كان يقيم الصلوات في أوقاتها، وأتذكّر حادثة ذات دلالة مهمة حيث دعاني إلى المشاركة بمناسبة اجتماعية لـ “حفل ختان“ جماعي في قرية قرب صنعاء، وذهبنا إلى القريةسويّة بعد أن جاء لاصطحابي من فندق “حدّة” الذي كنت أقيم فيه، وجلسنا على الأرض مع الناس وأخبرهم بأنني من المثقفين الشيوعيين العراقيين واهتمّ الناس بيكثيراً، ولكن بعد حوالي ساعة اختفى جار الله وكان قد قال لي لديّ ارتباط لمدة ساعة وسيعود بعدها لمواصلة مشوارنا ولحضور جلسة “قات”، وقد ذهب بالفعل ولا أعرف إلى أين ذهب، وبقيت لوحدي في الغرفة التي فيها مجموعة من الناس، وجيء بالأكل وأكلنا واستمعتُ إليهم واستمعوا إليّ.
وبعدها جاء جارالله وكان مبتسماً، وخطر على بالي بأن لديه موعداً حزبياً أو موعداً شخصياً أو حتى موعداً عاطفياً، فكل الأمور ممكنة فقال لي: لا تصدّقإذا أخبرتك. قلت له: أين كنت؟ قال لي: كنت في الجامع، إنني أصلّي في هذا الجامع كل يوم جمعة ولم أنقطع عن الصلاة طيلة حياتي منذ أن كنت فتى. وأضاف: أنا ماركسي لكنني مؤمن بالله، وإيماني حقيقي ولديّ علاقة خاصة بالسماء. وتذكّرت هنا ما أعرفه عن الحزب الشيوعي السوداني الذي ضم الكثير من المؤمنين بمن فيهم قيادات عليا كانت تقوم بتأدية الصلوات في أوقاتها .
احترمته كثيراً وقدّرت باعتزاز نزاهته الأخلاقية، فالمؤمن الحقيقي والمسلم الصادق، يهمّه مثلما يهم الماركسي واليساري والاشتراكي، إلغاء استغلال الإنسان للإنسان ويمكنهما أن يلتقيا على احتياجات الأرض وقيم البشر وليس على قيم السماء، وبسلوكه هذا أراد أن يفضح بعض المتدينين الذين يستخدمون الدين وظيفة ووسيلة لتحقيق غاياتهم ومآربهم الأنانية الضيقة ويسخرونه سياسياً لأغراض خاصة، ناهيك عن اتهام الاشتراكيين بالكفر والإلحاد بهدف قطع صلتهم بمجتمعاتهم المتديّنة أصلاً على نحو عفوي وتلقائي وليس تديّناً آيديولوجياً على طريقة الأحزاب الدينية المتعصّبة في الغالب.
ولم يكن جارالله يتظاهر بتديّنه يوماً ما. قال لي هذا سرٌ لك حتى وإن شاهدني الناس إنني أقف في الجامع مع المصلين وهم يشاهدونني أسبوعياً، ولكن إن سُئِلتُسوف لا أجيب، لكنني أعرف أنك من أسرة دينية ومن بيئة دينية ومن مدينة دينية، وأعرف أنك من المتنورين القادرين على استيعاب مثل هذا التناقض “المحبّب”، قلت له: نحن نعيش في تجاور الأضداد، وقد حدّثته عن عشرات من الشيوعيين العراقيين المتدينين، بل إن قسماً منهم كان يصلي ويصوم وهو في المعتقل معنا العام 1963، على الرغم من تندّرات بعض الرفاق، وشخصياً أعرف العديد من أبناء العوائل الدينية الذين انتموا إلى الحركة الشيوعية، دون أن يغادروا معتقداتهم الدينية المتأصّلة.
ومثل هذا التجاور والهارموني أراه منسجماً، فعلاقة الإنسان بالسماء شخصية، والنزاع ليس على قيمها، بل على ما يحصل في الأرض، والأمر يتعلّق بكفاح الإنسان من أجل الخير والسلام والحرية والعدل والمساواة، والهدف هو الوصول إلى سعادة بني البشر بإلغاء استغلال الإنسان للإنسان، وذلك ما كان يؤمن به جارالله عمر، مثلما آمن أيضاً بالحرية باعتبارها القيمة العليا،وكان ضد كل أنواع التمييز، ولذلك سعى للتكامل بين صنعاء وعدن وكان يريد مساواة حقيقية، وتشاركاً ومشاركة وشراكة، وأظن أن هذه القيّم الأساسية التي آمن بها جار الله ينبغي أن تكون ملهمة للشباب المتطلّع لاستعادة وطنها موحداً في إطار الحريّات والمواطنة السليمة والمتكافئة التي تقوم على المساواة والعدالة والشراكة.
كما آمن جارالله عمر بمساواة المرأة بالرجل كجزء من إيمانه بمبادئ المساواة، وكان حريصاً أن يكون للمرأة دوراً متميّزاً وأن تحصل على حقوقها، وأن القانون الذي تم وضعه لليمن العام 1974، حول موضوع الأحوال الشخصية اعتبره خطوة مهمة على صعيد تحرير المرأة .
وكان قد سألني عن القانون رقم 188 لعام 1959 الذي صدر في العراق بشأن الأحوال الشخصيةوالذي ساوى بالإرث بين المرأة والرجل ومنع تعدّد الزوجات إلّا باستثناءات قليلة وحدّد سن الزواج بـ 18 عام واعتبر عقد الزواج وغايته إنشاء رابطة مشتركة للحياة ويتحقق بالإيجاب والقبول ورفض أي شكل من أشكال الإكراه الذي اعتبره “جريمة” يحاسب عليها القانون بالحبس لثلاث سنوات وقد تصل إلى عشر سنوات ومنح الزوجة الحق في طلب الطلاق، كما فرض تسجيل الزواج في المحاكم المدنية وإلّا فسوف لا يعترف به ويتعرض من ينتهك ذلك للمساءلة القانونية.
وانصبّ سؤاله مرّة أخرى حول: كيف شرّع هذا القانون وما هو دور اليسار فيه وما هي ردود القوى المحافظة والدينية، لاسيّما الإقطاعيين وغير الإقطاعيين وردود فعل السكان بشرائحهم المختلفة منه وذكرت له دور “رابطة المرأة العراقية“ في حينها برئاسة الدكتورة نزيهة الدليمي والحزب الشيوعي، وذكرت له أن واحداً من أسباب الإطاحة بنظام عبد الكريم قاسم كان هو إصدار قانون الأحوال الشخصية الذي استفزّ جميع القوى المحافظة في العراق وفي محيطه العربي والإقليمي.
هكذا كان جار الله عمر يفكّر في ردود الفعل المحتملة إزاء قانون الأسرة في اليمن، ويخشى من تداعياته السياسية مثلما هي ردود الأفعال العراقية والإقليمية حينها. وكان قد ناقش هذا الموضوع كذلك مع الرفيق ماجد عبد الرضا حين كان يلقي محاضرات في المدرسة الحزبية، في عدن أواخر العام 1971 في إحدى زيارته، وهو ما أخبرني به “أبو دنيا” كذلك. وقد تخرّج على يده العديد من الكوادر الحزبية والحكومية اليمنية.
كان لجارالله علاقات واسعة مع حركات التحرر الوطني، والحركة القومية العربية ويعتبر أحد مؤسسي المؤتمر القومي العربي (1990) الذي كان بمبادرة من خير الدين حسيب وعدد من الشخصيات الفكرية والثقافية والسياسية العربية من اتجاهات عروبية وإسلامية ويسارية، وقد حضرت معه العديد من المؤتمرات العربية بما فيها الفكرية والحقوقية في بيروت ودمشق والقاهرة وصنعاء وكان دائماً رصيناً، وإذا تحدّث كان بتكثيف عال وبوضوح كاف ، وكان حديثه شائقاً وبلهجة يمنية شمالية محببة.
من أقواله التي أتذكّرها أيام حكم اليسار في الجنوب اليمني ” البندق في يد والكَلمْ في يد” أي “البندقية في يد والقلم في اليد الأخرى”. وكان له علاقات خاصة مع ثورة (ظفار) في أواسط السبعينات،ولعلّ علاقته الأكثر اكتمالاً واستمرارية كانت مع فلسطينوالثورة الفلسطينية، فقد كان عقله مبرمجاً على فلسطين وبوصلته موجّهة إليها دائماً، وربّما أراد أن تتوجّه جميع الجهود العربية نحوها، لأنه كان يدرك أن قضية الحرية والاستقلال والتنمية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والانبعاث الحضاري والوحدة العربية سوف لا تتحقّق بدون فلسطين وهزيمة المشروع العنصري الصهيوني.
العروبة وفلسطين والعدالة الاجتماعية مضمون كفاح جارالله عمر وهي رسالته القائمة إلى الشباب، لذلك على الشباب أن يضعوها نصب أعينهم دائماً.
أتذكّر أغنى وأعمق حواراتي مع جار الله عمروأكثرها صراحة وشفافية كان في القاهرة في التسعينات وبعد انهيار التحالف بين الحزب الاشتراكي وحزب المؤتمر الوطني وتصدّع العلاقة مع الرئيس علي عبدالله صالح، لاسيّما حين اندلع القتال في العام 1994 وقد التبس على الكثيرين وأنا منهم موقف الحزب الاشتراكي أو بعض أطرافه وأجنحته التي تباينت في تقديراتها على أقل تقدير، لاسيّما العلاقة بين المبدئي والتكتيكي وبين الصلابة الفكرية والمرونة العملية، سواء قبيل اندلاع القتال أو خلاله أو ما بعده .
كنت دائماً أريد استطلاع مواقفه من عدد من المحطات في اليمن منها: هل هناك علاقة له أو معرفة باغتيال الرئيس أحمد الغشمي التي جرت في 24 حزيران/يونيو 1978 باعتباره مسؤولاً عن ملف الشطر الشمالي حسب علمي، وقد نفى ذلك بالكامل، وقال إن القرار كان بيد سالمين وصالح مصلح اللذان تعرّضا للمساءلة وعلى أثرها نحّي سالمين واضطرّ تقديم استقالته، لكنه تحصّن بالقصر الذي اقتحم وقتل فيه، وكان منفذ عملية اغتيال الغشمي قد تطوّع للقيام بها وهي عملية انتحارية، وربما من العمليات الانتحارية الأولى في المنطقة، لأنه كان مدركاً أنه سيموت أيضاً، وهكذا تطوّع مهدي أحمد صالح بحمل حقيبة المتفجرات لتنفيذ العملية مبعوثاً عن الرئيس سالمين، وهو ما دققته في كتاب فوّاز طرابلسي المشار إليه، أيضاً.
وسألته عن أحداث 13 يناير هل كان يمكن تفاديها؟فقال إن الصدام بدا لا مفرّ منه بسبب تمترس الفريقين وتمسّكهما بمواقفهما، ولمّح إلى أن من أسباب انهيار التجربة هو الصراع على السلطة بين سالمين وعبد الفتاح في المرحلة الأولى، وبين علي ناصر محمد وعبد الفتاح اسماعيل في المرحلة الثانية، وحين طلبت منه استعادة صورة تلك الأحداث خلال زيارتي لعدن في العام 1987 روى لي ما حصل من صراع المكتب السياسي وكان مقرراً أن يكون الاجتماع الذي تفجّر به الموقف هو حضور الرئيس علي ناصر محمد، الذي جاء سكرتيره بحقيبته، ثم فوجئ الجميع باندلاع الرصاص، وحين سألته أين كنت أنت؟ قال أنه تأخر في الوصولبمحض الصدفة ومعه صالح منصر ووصلا إلى الاجتماع بعد نحو 20 دقيقة، وكان كل شيء قد انتهى فسمع إطلاق الرصاص وشهد جزءً من الصداماتودونت تلك الملاحظات في ” الإثنين الدامي في عدن”.
وبالعودة إلى أحداث ما بعد الوحدة والصراع المسلّح الذي تفجّر في العام 1994 قال: لقد تدهورت الأمور وساءت الأوضاع، خصوصاً بتفكيك منجزات الجنوب، بما فيها القضاء المدني الذي تسلّم حقيبة وزارة العدل فيه عبد الواسع سلّام (من الاشتراكيين) وتم الضغط عليه لمنع النساء القاضيات من مزاولة عملهن، وحين رفض وتمسّك بهن وبالكفاءات كما كان في الجنوب، تعرّض إلى محاولة اغتيال واضطرّ إلى تقديم استقالته.
وهكذا سارت أمور الدولة وضاقت قاعدتها الاجتماعية وتم تهميش الحزب الاشتراكي وفشل المطالبات بتصحيح المسار، فاعتكف البيض في منزله وقدّم برنامجاً من 18 نقطة، وحاول الضغط عبر المجتمع الدولي، فقام بزيارة واشنطن والتقى آل غور نائب الرئيس الأمريكي حينها، واعْتقدَ أن واشنطن والرياض يؤيدانه في هذا المسعى.
وبُذلت محاولات للاتفاق كان آخرها في عمان عشية الصدام حيث تم توقيع ما سمّي ” اتفاق العهد والوفاق” الذي كان جارالله أحد الموقعين عليه ، لكن هذا الإعلان ولِدَ كسيحاً، وسرعان ما تم تجاوزه حيث اندلعت الحرب في 21 أيار/مايو/ 1994 باستعادة المحافظات الجنوبية، وجرت محاولات لاستعادة اسم “جمهورية اليمن الديمقراطية” بشطب كلمة “الشعبية” ، وقد رفض عدد من القيادات الاشتراكية الانفصال من الناحية المبدئية وفي مقدمتهم جارلله عمر، وأعرب عن موقفه هذا غير مكترث بالاتهامات والتشويهات والضغوط، وقد اضطرّ إلى مغادرة عدن متوجهاً إلى القاهرة، وهناك كانت حزمة أخرى من المراجعات والاستعادات قد جرت معه.
كانت نظرة الفريقين إلى الوحدة خاطئة، ولكل منهما هدفه منها، فعلي عبدالله صالح نظر إلى الوحدة مع الجنوب كونها عودة “الفرع إلى الأصل“،(هكذا جاءوا صاغرين وبشروطنا) وعلي سالم البيض اعتقد أن ثمن الوحدة سيكون مشاركة حقيقية ومساواة في الحقوق والواجبات، والتخلّص من الأزمة الطاحنة التي لفّت الجنوب عشية الوحدة، ولكن الأمور سارت بغير ما تشتهي سفن البيض منذ البداية، فتألف مجلس الرئاسة من خمسة أعضاء، ثلاثة من الشمال واثنان من الجنوب.وكانت الغلبة فيه للشمال، ناهيك عن الجيش وأجهزة الدولة، وتحصّنت مؤسسة الرئاسة بحمايات وحراسات خارج المألوف.
ويذكر فواز طرابلسي إن حيدر أبو بكر العطاس، وهو أول رئيس وزراء بعد الوحدة اليمنية، حين سُئل أين تذهب عائدات النفط؟ أجاب إلى خزينة الدولة بالطبع، فما كان من الرئيس إلّا أن قال له: تذهب إلى الرئاسة وتوضع تحت تصرفها، إسوة بالملوك والأمراء في دول الخليج.
وإذا كانت المملكة العربية السعودية ضد حكم الاشتراكيين في جنوب اليمن، لكن قيام وحدة على حدودها ليمن واحدة موحدة، لم يكن ليروق لها، ولذلك كانت تميل إلى بقاء الحال على ما هو عليه، وحسب جار الله عمر، فإنها دعمت علي سالم البيض مادياً، وقد ساعد هذا على الافتراق ، ناهيك عن ارتداد علي عبدالله صالح عن اتفاقية الوحدة وإضعاف الحزب الاشتراكي وتبهيت صورته، واستبعاد علي سالم البيض من دائرة القرار، أي إنه انقلب على شراكة الحزبين وعلى المشاركة في القرار بين الرئيس ونائبه (البيض).
وفي العام 1995 و1996 وما بعده كنّا نلتقي لقاءات متواصلة في القاهرة وكان يتّصل به الرئيس علي عبدالله صالح على نحو متكرّر، وأحياناً يومياً ويدعوه للعودة، خصوصاً بعد أن استتبت له الأمور، فسألني ما هو رأيك بالعودة إلى اليمن بعد وعود وتطمينات من جانب الرئيس؟ وهناك ضمانات لعودتي ومن الرئيسمباشرة ووعود بعدم التعرّض لي، ومع كل هاتف كان يعيد عرض شروطه وشروط الحزب الاشتراكي لتطبيع الحياة السياسية مثل إطفاء قضايا التعقيبات والملاحقات وإصدار عفو عام والتمهيد لعودة المنفيين الآمنة وإعادة ممتلكات الحزب الاشتراكي وإجراء إصلاحات سياسية وإقرار التعددية.
قلتُ له شخصياً أنا مع العودة، لكن الأمر متروك لك وأنت تقدّر ظروفك على المستوى الشخصي والسياسي، خصوصاً موضوع الثقة الذي هو ضروري ولا غنى عنه في أي عمل أو تحالف، وبما أن الرئيس هو من يتصل بك وهو الذي يدعوك، فلعلّها فرصة جيدة وإيجابية لفتح صفحة جديدة ومعالجة آثار الماضي، بتوسيع دائرة الحريات، وقد تسهّل هذه العودة فتح حوار وطني عام وشامل ، ومثل هذا الدور لا يستطيع أحد أن يلعبه أفضل منك، ومع احترامي ومحبتي وتقديري لجميع الرفاق من قيادة الحزب الاشتراكي، إلّا أن دور جار الله كان متميّزاً لشخصيته المحورية الجامعة، وبقدر ما يتّصف بصلابة مبدئية فلديه مرونة عالية وقدرة كبيرة على مدّالجسور مع الآخرين، لاسيّما بتواضعه الجم وتهذيبه وحنكته السياسية وخبرته العملية. ويعرف الرفيق ياسين نعمان (الأمين العام السابق) ود. محمد المخلافينائب الأمين العام الحالي للحزب الاشتراكي رأيي هذا كما يعرفه آخرون أيضاً بمن فيهم محمد عبد الملكالمتوكل وعبد الملك المخلافي وعبد العزيز المقالحوعز الدين سعيد الأصبحي.
كنت واثقاً أن جار الله عمر يستطيع أن ينهض بمثل تلك المهمة، فهو قادر على تعظيم الجوامع وتقليص الفوارق وتحجيم الخلافات وإيجاد الحلول والمعالجات وتقديم التنازلات والوصول إلى اتفاقات، بحكم شخصيته الكارزمية والتي تحظى باحترام الفرقاء المختلفين، وهو يتصرّف بعفوية ولباقة في الآن.
وقد سألني ماذا لو اتصلّ بك الرئيس صدامحسين وطلب منك العودة بنفس الضمانات التي قدّمها لي الرئيس علي عبدالله صالح، فهل ستعود؟ قلت له كلّا،فسألني لماذا؟ فقلت له لقد طرحنا عليه مشروع عودة جماعية أساسها تطبيع الحياة السياسية بعد انتهاء الحرب العراقية- الإيرانية العام 1988 التي كان موقفنا منها معروفاً، خصوصاً بعد توغّل القوات الإيرانية في الأراضي العراقية، ولكنه تصرّف بعدم مسؤولية وغرور، ولم يكن مستعداً لقبول الرأي الآخر، وحصل ما حصل بعد غزو القوات العراقية للكويت في 2 آب (أغسطس) 1990، فأجهز على ما تبقى من هوامش، محتكراً العمل السياسي والنقابي والاجتماعي والثقافي والرياضيغالقاً جميع المنافذ، علماً بأن دائرة الحكم وقاعدته الاجتماعية أصبحت أضيق من قبل بكثير، ولاسيّما بعد اشتداد تأثير الحصار الدولي الجائر.
فالمسألة بالنسبة لي ليست عودة شخصية بقدر ما هي توجّه وطني عام بعد أن عانت البلاد من حروب ومغامرات وهي تعاني حالياً (آنذاك) من حصار دولي وهدر سافر وصارخ لحقوق الإنسان، يضاف إلى ذلك إن نظرتي تمايزت اليوم عن البارحة، وبالنسبة لي ومن منظور حقوقي لست ضد حاكم بعينه، بل ضد الاستبداد والطغيان من أي أتى، في حين إن المعارضات ضد الحاكم وليست ضد الاستبداد، بل إن بعضها يستسيغ التعاون مع قوى أجنبية أو استبدادية تحت ذرائع أو مبررات التخلص من الحاكم، وبعضها لا يقل سوءًا عن الحاكم نفسه، وحسب أدونيس ” السلطة في مناوئيها” أو “قفا السلطة“ حيث يتناوب هؤلاء: الوجه والقفا. وبقدر ما تذهب النظرة الحقوقية لانتقاد الحكم وتدعوه للالتزام بشرعة حقوق الإنسان، فإنها تدعو المعارضة كذلك، وتلك مهمة مزدوجة ومركبة وحسّاسة وقد لا ترضي الطرفين.
لقد أخذت أتعاطى السياسة من زاويتها الثقافية والحقوقية والفكرية، وأتعامل مع الجميع من نفس المنظور، وأضع مسافة واحدة من الجميع (السلطة والمعارضة) ومعياري هو مدى القرب أو البعد من احترام الإنسان وحقوقه الأساسية والشخصية، ناهيك عن المصالح الوطنية والقومية العليا، وبالنسبة لي الحساسية الإنسانية هي الأساس، وليس الموقف المنحاز سلفاً لاعتبار سياسي أو آيديولوجي أو إثني أو ديني.
قلت له إن عودتك مؤشر لانفتاح سياسي وليس شخصي، وكنّا نقلّب الأمور حيث كنت أقيم في فندق Hilton القاهرة وهو يسكن في الدقي، فكنت أوصله إلى منزله مشياً على الأقدام ويستمر حوارنا ولكن حديثنا لم ينتهِ، فيعود هو لإيصالي إلى الفندق، وأعود أنا لإيصاله مرّة أخرى إلى منزله، وهكذا حدث ذلك لأكثر من مرة ولأكثر من سفرة لي للقاهرة.
وقد هاتفني عشية قراره بالعودة لليمن ليبلغني بأنه سيعود، وفعلاً عندما عاد لليمن أصبح محطة استقطاب للعائدين من جهة ونواة للقاء الوطني بين مختلف الأطراف السياسية الأخرى، وتدريجياً احتلّ مكانة متميّزة في علاقته مع الحزب الحاكم (المؤتمر) ومع شريكه حزب التجمع اليمني للإصلاح ومع التنظيم الناصري وبعض القوى القومية الأخرى، بما فيها جناحي البعث العراقي والسوري، وكنت كلما أزوره في منزله في جلسة (قات) أرى عشرات من الأصدقاء يجتمعون في بيته، سواء من قيادات الأحزاب أو من قيادات المجتمع المدني ونخبة من الأكاديميينوالمثقفين والأدباء، وأحياناً بعض الشخصيات الأجنبية التي تزور اليمن.
وكم من مرّة كلّفته لمساعدة عراقيين فارّين من القمع والحصار، سواءً لإيجاد عمل أو للحصول على إقامة أو لتسوية بعض أمورهم، كان آخرهم على ما أتذكّر د. فدوى محمود وفاضل العكّام وجهاد زاير.
لم يكن اغتيال جار الله عمر شخصياً، فلم يكن له عدو واحد حسب معرفتي المتواضعة، وحتى لو كان له خصوم كثيرون لكنهم دون استثناء يعترفون بفضله على اليمن وعلمه وحلمه ومعرفته ووسطيته واعتداله كما أعتقد، ولذلك فالقاتل لم يكن فرداً يمتلئ قلبه بالحقد والكراهية والتعصّب والتطرّف، أو مجرماً عادياً، بل كان مركباً منمجموعة من العوامل ساهمت في اغتياله، سواء من بعض أجنحة الحزب الحاكم أم ذيوله، ناهيك عن تداخلات أخرى، لدق إسفين بين الحزب الاشتراكي وحزب الإصلاح الذي كان يحضر مؤتمره وفرِغ لتوّه من إلقاء كلمته، فتقدّم منه القاتل وأطلق النار عليه، وقد كان اغتياله اغتيالاً للوحدة اليمنية وللتسامح اليمني وللاعتدال والثقافة والتحوّل الديمقراطي ولكبرياء التواضع.