الدال والمدلول وما يمكث ومايزول
عنوان الكتاب الأخير في قمة إنجازات الباحث العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان , الذي صدر في بغداد العباسية عن دار نشر ( ميزوبتاميا ) . ومنذ اليوم الاول في الاعلان عن صدوره في معرض الكتاب في بغداد ٢٠١٩ واحتفالية نادي العلوية بهذا المنجز الفكري والتاريخي وبحضور شخصي من الدكتور عبد الحسين شعبان . كنت متأملاً أن أحصل على نسخه من الكتاب في وقت مبكر بعد أن حدثني الرفيق أبو ياسر حول أهمية الكتاب في مرحلة تاريخية مهمة من تاريخ العراق السياسي في قراءات جديدة ومفصلية بمسيرة الشيوعيين العراقيين من خلال سيرة ومواقف واستشهاد حسين أحمد الرضي (سلام عادل) حدثني عن تفاصيل ومآثر ومواقف الشهيد سلام عادل , ربما أسمعها لأول مرة ونحن عائدين من زيارة الرفيق باقر أبراهيم ( أبو خولة ) طول العمر له في منفاه بمدينة ( هلسنبوري ) الى مدينة مالمو في نهائيات العام ٢٠١٨ .
لم يمر يوماً , الا وأطلع على مقال جديد حول صدور الكتاب وتداعياته عبر الصحف والمواقع الإلكترونية من كتاب وقراء وسياسيين ومناضلين سابقين , وفي مداعبة مع العزيز أبو ياسر قلت له أنهم لم يعطوا لي فرصة في الكتابة عن منجزك التاريخي , والذي أعتبره مهماً بالنسبة لي لأنه عن حياة سلام عادل رمزاً وطنياً وتاريخياً حيث تسنى لي الاطلاع على أهم تفاصيل الكتاب قبل الحصول عليه وقراءته لكثرة المهتمين حوله من قراءات وhشادات ومقالات وردود أفعال واسعة .
تعرض حزب الشيوعيين العراقيين بعد استشهاد قادته ومؤسسيه يوسف سلمان يوسف ورفاقه زكي بسيم وحسين الشبيبي وساسون دلال عام ١٩٤٩ على يد المستعمرين الانكليز وأعوانهم من عملاء ومتعاوني مع الاحتلال وبسبب الوضع الداخلي للحزب والظروف التي يمر بها, ووضع البلد بشكل عام . مر على قيادة الحزب قادة لا يحملون تلك المؤهلات بقيادة حزب الشيوعيين العراقيين من حميد عثمان الى بهاء الدين نوري وسبقهم عاصم فليح , بسبب الوضع الاستثنائي للحزب والحملة الحكومية ( الملكية ) ضد تنظيماته وكوادره , كان تنظيماً متشظياً تنخر به الصراعات والانشقاقات والتكتلات .
تبوأ سلام عادل قيادة الحزب الشيوعي في العام ١٩٥٦وأخذ على عاتقه منذ اليوم الاول لتسلمه قيادة الحزب مهمة توحيده ورص صفوفه ولملمة أعضائه على أسس تنظيمية صحيحة، فدعا الى اجتماع حزبي ثاني جمع به كل كوادر الحزب وملكاته والهيئات المنشقة عنه ( راية الشغيلة ) وغيرها تحت راية الحزب وألغى أسلوب التعيين في الهيئات الحزبية وأتبع أسلوب الانتخاب الحزبي المباشر عبر الاسس التنظيمية الصحيحة . وحدد موقف الشيوعيين من القضية الكردية , وعبأ جماهير باتجاه جبهة الاتحاد الوطني والتي تأتلف تحت عباءتها ثمة أحزاب وطنية وقومية وقوى إسلامية نحو ناصية الوطن وبناء نظام ديمقراطي تعددي , وصدر كتاب البرجوازية الوطنية في العراق رد على مفاهيم برجوازية قومية “تصفوية” وكان للشيوعيين دوراً وحضوراً متميزاً في انطلاق الشرارة الاولى لثورة ١٤ تموز الوطنية , لكن بعد فترة زمنية لم تحسب في حياة الشعوب أخذ قادة الثورة منحاً آخراً بعيداً عن أهداف الثورة ومكاسبها وتطلعات الشعب .
أدت تلك الاخفاقات والتناحرات في مسيرة الثورة الى تعطيل مسيرتها الوطنية والديمقراطية يتحمل الزعيم الاوحد عبد الكريم قاسم الوزر الأكبر في نهايتها .
أن ردة ٨ شباط ١٩٦٣ جاءت لعدة عوامل موضوعية تحمل الشيوعيين عبئها الأكبر من خلال مقاومتهم للانقلابين والدفاع عن منجزات الثورة , كان للشهيد سلام عادل وقفته البطولية في تصديه للانقلابين فبات هدفاً لهم في استهداف حياته .
أعتقل يوم ١٩ شباط بوشايه من رفيقه هادي هاشم الاعظمي الشخص الثاني في سكرتارية الحزب في بيت حزبي مع عدد من الرفاق له مع عائلة بعد طوقوا المنطقة بالكامل وسيطروا على منافذ فروعها اقتحموا البيت ووسط الصراخ والضجيج تحت حراب بنادقهم وزعيقهم نزل الشهيد سلام عادل من الطابق الثاني يرتدي بدلة مع ربطة عنق وحقيبة صغيرة وصرخ بهم أنا حسين أحمد الرضي ( سلام عادل ) زعيم حزب الشيوعيين العراقيين , نقلوه في البداية معصوب العينين مقيد الأيادي الى مركز المأمون للاعتقال ومن ثم الى قصر النهاية وتعرض الى تعذيب وحشي . وهناك عدة روايات متضاربة حول يوم وتاريخ استشهاده بعضها تقول أن الانقلابين أجهزوا عليه يوم ٢٣ شباط وأخرى ترجح الى يوم ٧ أذار .
حدث استشهاده مازال الى يومنا هذا فخراً للشيوعيين ورمزاً لنضالهم , في موقفه البطولي بتحديه للجلادين أعطى للشيوعيين دماءً جديدة من النضال والتمسك بقيم ومعاني حزبهم , وهو لم يكن أسطورة الشيوعيين الوحيدة وانما هناك آلاف من الشهداء الشيوعيين الذي سطروا ملاحم بطولية في الاستشهاد دفاعاً عن حزبهم , لكن تبقى أسطورة سلام عادل هي الريادية باعتباره سكرتيراً عاماً لحزب الشيوعيين العراقيين .
في اعتراف متأخر لاحد قادة البعث ومن المساهمين في تعذيب الشيوعيين يقول … في دمشق، منتصف الثمانينيات، وفي مكتب مجلة (دنيا العرب) جمعتني جلسة مع الكاتب والروائي الفلسطيني (محمد ابو عزة) سكرتير تحرير المجلة. وفي خضم الكلام اكتست ملامحه مظهر التأمل والشرود، ثم قال فجأة: في ضميري (مشهد) لم يغب عنه، ولابد ان أرويه، ولكن ليس في سورية، لأن الأمر يتعلق بحقبة من تاريخ البعث، وان كان الأمر يتعلق بالبعث العراقي، ولكني سأرويه لك، وعدني بأن ترويه أنت حين تغادر سورية فيما بعد. المشهد يعود الى العام 1963 وتحديداً في الأيام الأولى بعد انقلاب 8 شباط، كنت ضمن طاقم الحرس القومي في مديرية الأمن العامة، ومن بيننا مجموعة من العرب والفلسطينيين تحديداً، ولاسيما بعض ممن أصبح في الخط الأول من قيادات منظمة التحرير ضمن حركة القوميين العرب، كأبي علي مصطفى الذي قال يوماً، بأنه يود لو يقطع يده التي ساهمت في تعذيب الشيوعيين والمناضلين العراقيين في تلك الفترة. وفي نهار يوم كان لدينا ضيف (دسم) أقمنا له وليمة دسمة هي الأخرى من صنوف التعذيب والهتك الجسدي والنفسي على مدى ساعات. (الضيف) كان سلام عادل السكرتير العام للحزب الشيوعي العراقي. كانت طاقتنا على الإبداع في التعذيب والقهر لا توصف، وكانت طاقته هو على الصمود والتماسك لا توصف ايضاً، وحين بدأ ان الرجل في طريقه الى النهاية الأكيدة، جاءتنا أوامر بالإبقاء على الرجل، لأن شخصية مهمة في الطريق الينا. ولم تكن تلك الشخصية سوى علي صالح السعدي وزير الداخلية والأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي، وفي (صالون أبداعنا) بدأ المشهد طويلا، حين وقف السعدي يحدق في سلام عادل الذي لم يبد أنه على وشك الانطفاء بعد، ثم قال السعدي مقربا فمه من عادل: (انت منتهٍ وليس عليك الا الاعتراف). ثم كرر طلبه غير مرة، وفجأة رفع سلام رأسه وحدق في وجه السعدي طويلا، ثم قال بكلمات متقطعة ولكن واضحة ومفهومة “انت سكرتير حزب يفترض أنه من ضمن احزاب التحرر الوطني، وتطلب مني أنا سكرتير حزب شيوعي أن أعترف؟.. أنت لست أكثر من شرطي من هؤلاء”. ثم سكت سلام لحظات، وبدأ وكأنه يستجمع قواه مرة أخرى، ثم فجأة بصق في وجه سعدي بصقة يخالطها الدم، لم يبد من سعدي للحظات أي رد فعل سوى أن يمسح البصقة، وبدت منه حركة واشارات عصبية فهمنا المقصود منها؛ أجهزوا على الرجل.. ولا اريد ان أسهب في كيفية اجهازنا عليه، ولكن الأمر بدأ وكأنه قريب من نهاية واستشهاد الكثير من الرموز التاريخية العظيمة. وأكثر من اعتراف تفوه به قادة البعث بعد سنوات طويلة حول أسطورة سلام عادل ومواجهته لهم بعد أن فقأوا عينيه وقطعوا أطراف يديه.