استجابة لضغط الشيوعيين بعض الشيء ولتوليد دعم شعبي لشخصه إلى حد ما، كان قاسم قد أعلن في الذكرى السنوية الأولى للثورة في عام 1959 أن دستوراً دائمياً ستجري صياغته بحلول كانون الثاني من عام 1960. لم يتحقق الوعد بسن الدستور، لكن الوعد بمنح تراخيص للأحزاب قد تحقق. ففي الأول من كانون الثاني من عام 1960، جرى الاعلان عن قانون جديد للجمعيات. وبموجبه سيكون للأحزاب السياسية الحق بالعمل في حالة عدم تهديدها للوحدة الوطنية أو للجمهورية، غير أن ضباط الجيش، ومسؤولي الحكومة، والطلبة كان محظوراً عليهم الانضمام الى الأحزاب. وأنيطت بوزير الداخلية صلاحيات واسعة لمنح التراخيص أو منعها. ومع ذلك، كان بالامكان تقديم استئناف إلى محكمة التمييز عند رفض الطلب بتأسيس حزب ما. وكان هذا الاجراء موضع ترحيب لكونه عودة مطلوبة للغاية للحالة الطبيعية، وخطوة نحو الحرية الموعودة التي انحرفت كثيراً عن مسارها جراء الصراع المروع على السلطة، غير أن هذا الأمر كان بعيداً عن الحقيقة. فسرعان ما أظهر قاسم عدم رغبته بـإنعاش حياة سياسية حقيقية، وعدم رغبته أيضاً بتأسيس أي حزب يمكن أن يتحدى زعامته. وبالإفادة من الانقسامات بين الساسة المدنيين، بدأ يؤلب حزباً على آخر، بطريقة لم يحصل سوى نوري السعيد على الإعجاب بها , كان ثمة حزبان من بين أوائل المتقدمين للحصول على تراخيص بالعمل، وكلاهما شيوعيان يؤيدان مبادئ متشابهة , أحدهما يمثل الحزب الشيوعي العراقي ولجنته المركزية، والآخر، بلا شك، تحريض من قاسم، يرأسه عضو منشق عن الحزب الشيوعي جرى إبعاده في وقت سابق عن الحزب، وسرعان ما حصل الحزب الثاني على الترخيص، بينما كان الرفض مصير طلب الحزب الشيوعي الحقيقي، على الرغم من استعداده للقيام بتنازلات في برنامجه. وكان الحزب الوطني الديمقراطي منقسماً أيضاً، ولكن لأسباب مختلفة. فمع أن الجادرجي كان يعرف بانقلاب 14 تموز مسبقاً، وكان يبدو أنه مرحب به، فانه سرعان ما خاب أمله جراء الديكتاتورية العسكرية التي تمخضت عن الانقلاب، ولذا اتخذ موقفاً معارضاً لقاسم , غير أن محمد حديد، وزير مالية قاسم ومستشاره، لم يشاطر الجادرجي الرأي، وسرعان ما ظهر اختلاف حاد في الرأي بين الرجلين نجم عنه حصول انقسام في الحزب. ففي مؤتمر الحزب الوطني الديمقراطي المنعقد في أيار من عام 1960، أصر الجادرجي على استقالة حديد من الحكومة وعلى معارضة الحزب لقاسم، وقد رفض حديد ذلك. آنئد استمال الجادرجي قيادة الحزب لموقفه، تاركاً حديد في عزلة. وقد حصل الحزب بزعامة الجادرجي على ترخيص، فاستقال حديد بسبب ذلك من الحزب والحكومة، ليؤلف حزباً خاصاً به، أطلق عليه الحزب الوطني التقدمي، وقد حصل الحزب على ترخيص في تموز من عام 1960 , ولم يكن حزب حديد يختلف في أهدافه عن الحزب الوطني الديمقراطي سوى في موقفه من قاسم، غير أنه شأنه شأن الحزب الشيوعي غير الحقيقي المرخص، لم يكن يحظى بدعم فعلي. وتقدم العديد من الأحزاب الأخرى بطلب ترخيص. فقد حصل الحزب الديمقراطي الكردستاني على ترخيص بسبب موقفه المحابي لقاسم، لكن سرعان ما تعرض للمضايقة حين اتخذ موقفاً معارضاً. وتقدمت مجموعة يسارية أخرى، بزعامة عبد الفتاح إبراهيم، وعزيز شريف، بطلب جرى رفضه. وعلى الجانب المحافظ، انضم حزبان إسلاميان إلى الميدان: الحزب الإسلامي، وحزب التحرير. وقد رفضت السلطات منح تراخيص لكليهما، غير أن الحزب الأول، الذي كان يحظى بدعم المجتهد الشيعي المتنفذ السيد محسن الحكيم، قدم استئنافاً إلى محكمة التمييز وكسب القضية. واتخذ الحزب الاسلامي نهجاً معادياً للشيوعية بحدة، وكان معادياً على نحو متزايد لقاسم. وجرى سحب ترخيصه في 1961 فضلاً عن إيداع بعض من قادته في السجن. أصدرت الأحزاب في مستهل الأمر برامج وانغمست في أنشطة سياسية، غير أن الأمر سرعان ما أصبح واضحاً أنه لم يكن ثمة أمل في الوصول إلى السلطة مع بقاء قاسم. ومع مرور الوقت، لم يظهر الدستور المزمع، مع تشريعه الوطني المفترض، واختفت الأحزاب تدريجياً , وفي ربيع 1961، توقف الحزب الديمقراطي الكردستاني عن العمل (حيث اودع العديد من أعضاء لجنته المركزية في السجن)، ولم يكن الحزب الشيوعي الرديف قد مارس نشاطاً فعلياً قط. وفي تشرين الثاني من عام 1961، أغلق الجادرجي الحزب الوطني الديمقراطي وأوقف نشر صحيفة الأهالي، بادعاء أن الأحزاب لا يمكن أن تعمل مع وجود حكومة عسكرية. وبحلول أواخر عام 1961، أصبح واضحاً أن التجربة القصيرة الأمد للنشاط الحزبي قد أشرفت على نهايتها، مع أن حديداً قد واصل أنشطته حتى تموز من عام 1962 حين توقف نشاط حزبه في نهاية الأمر. رافق انهيار الأحزاب السياسية انسحاب كل الساسة المدنيين من مجلس الوزراء. وكان اخر المغادرين مصطفى علي، وزير العدل وصديق قاسم الشخصي الذي استقال في الخامس عشر من أيار من عام 1961 , ومنذ ذلك الحين، لجأ قاسم إلى تعيين اما ضباط موالين له أو من السلسلة التقليدية من التكنوقراط والموظفين المدنيين ممن لا يحوزون على انتماءات سياسية، وهو أمر سائد في كل الأنظمة العسكرية على امتداد الشرق الأوسط. وقد هدأ العراق لأول مرة في حقبة دكتاتورية خالصة. أن الانقلاب، الذي كان قبل ثلاث سنوات محط ترحيب كل شرائح الشعب لكونه بداية عهد جديد في تاريخ العراق، لم يجلب حتى الآن سوى التمزق، والفوضى، وإراقة الدماء. وشأنه شأن كل التغييرات العنيفة، فقد أطلق كل القوى المقموعة منذ مدة طويلة في المجتمع العراقي – النزاعات القديمة بين المجموعات الطائفية، والعرقية، والقبلية التي تفجرت في كركوك والموصل. ويتمثل العامل الآخر في انبثاق قوى جديدة كانت منذ حقبة طويلة قيد التشكيل، غير أنها تفتقر للتنظيم كي تؤدي دوراً فاعلاً. أما سكان الصرائف وفقراء المدن، الذين يشكلون في الغالب (الشارع) فكان بالامكان تعبئتهم في المظاهرات. وكانت الطبقة الوسطى، التي ورثت الثورة، منقسمة سياسياً فضلاً عن محدودية تجربتها الفعلية في الحكم , كان الانقلاب هزيل التنظيم وقاده الجيش على نحو رديء ولو تحقق بعض الاجماع على الأهداف والتنظيم مسبقاً، ولو اشترك الضباط الأحرار على نحو أكثر فاعلية في صنع السياسة بعد الثورة، لأمكن تفادي بعض الانقسام – والأسوأ، أن بطلي الانقلاب افتقرا إلى الخبرة والحنكة المطلوبة لأداء المهام التي القيت على كاهلهما فوراً، فلم يكونا قادرين على كبح تنافسهما في الشأن العام , ونتيجة لكل هذه العوامل، انغمس الجيش في حقبة طويلة من عدم الاستقرار الذي أصبح سمة العقد الثوري التالي. د. فيبي مار ترجمة : مصطفى نعمان أحمد |