مجموعة رماد
قصة للكاتب الروسي المعاصر أناتولي كوروليوف
ترجمة: د. تحسين رزاق عزيز
من المؤلف: كتبت مسودة هذه القصة في عام 1995. انتهت القصة بحرق مسودات نابوكوف بالنار.
كنت اعتقد الى وقت قريب اني ألَّفت خيالات محضة، وهم، لا توجد فيها كلمة حقيقة… ويمكن أن تتصور باي اندهاش قرأت مقابلة مع دميتري نابوكوف (في 14 أذار 2006) عن كونه يستعد لإحراق المسودة الأخيرة لأبيه «منشأ لارا». والإحراق وفقاً لوصية الكاتب نفسه.
أثار الخبر صدمة في عالم الثقافة.
ورداً على سؤال مشروع عن أسباب هذه النية أجاب الابن، ان هذه إرادة والده، أما ما يتعلق به، فإن دميتري مستاء من التأويلات السخيفة لرواية «لوليتا» وأقتبس من كلامه. «أردت أن لا تتعرض مخطوطة «منشأ لارا» الى هجوم من التحقيقات الصحفية، إنها عمل رقيق لا يتحمل مثل هذه المعاملة».
أقول ببساطة، حسب رأي الأب والابن كليهما، ربما، تتعرض للأذى من جراء النشر سمعة نابوكوف الكاتب.
والحاصل، بعد 11 سنة أعرض على القراء قصتي القصيرة الخيالية القديمة (أضفت 25 سطراً فقط حول بحث الديّوث)، كإقرار بعدم وجود كذبة متكاملة من حيث المبدأ.
رنّ هاتفي.
– من المتكلم؟
لم يكن صوت المتصل مألوفاً لي.
– اسمي لا يعني لك شيئاً. على الرغم من أنك كتبت عني ذات مرّة ثلاثة أسطر.
– أين؟
– في رواية عن رأس غوغول في الصفحة التاسعة اقرأ لك الاقتباس (سمعت حفيف الأوراق).. هنا، وغد غير معروف من هواة جمع التذكارات اشترى جمجمة غوغول وخزنها على رف الكتب عنده بين مجلدات مجموعة أعمال غوغول… هذا الكلام عني. أنا هاوي جمع التذكارات!.
– يعني، هذا صحيح؟ . قلت منوهاً – جمجمة غوغول سُرقت من القبر! وهي لديك؟ .
– نعم ، للأسف، هذه الحقيقة.
– أنت وريث المهموس باخروشين؟
– ليس مهماً من أنا. أنا هاوي جمع – جمجمة غوغول في مجموعتي.
– مبروك! اعد الجمجمة ثانية الى القبر. وتب.
– لن أتوب أبداً. وأنت لست بكاهن. واتصالي بك ليس من أجل الاعتراف. عندي اليوم عيد. زادت مجموعتي قطعة أخرى. واصبح عددها الف قطعة بالضبط. لقد حان الوقت، حان من زمان بعيد الوقت لأن اعرض مقتنياتي التي جمعتها على متذوق حقيقي… أدعوك لزيارتي. شمبانيا بروت وأناناس، وجبن الروكوفور. وكعكة من بير غانير: هرم من البسكويت والشوكولاتة البيضاء. زيَّنها بير بزهور الثالوت الحية، بالإضافة الى الأطباق الأكثر حرارة من مجموعتي الفريدة.
اعترف ان الفضول انتابني، – لكني شاهدت من النافذة عتمة الشتاء، وكنت ناوياً الذهاب الى السرير.
الوقت هو الساعة الحادية عشرة.
– ستكون أول زائر، – اغراني الغريب.
– اللعنة عليك. متى؟
– بعد ساعة بالضبط. في منتصف الليل. قرب أعمدة مسرح البولشوي سيكون بانتظارك سائق سيارة «مرسيديس» سوداء.
– لكن كيف سيعرفني؟
تناهت الىّ ضحكات من الطرف الأخر للسماعة: « من عيونك»
ووضعت السماعة.
أمم… على الرغم من أني لم أكن مرتاحاً، كما ترى، عزيزي القارئ، فالبقاء في المنزل بعد هذا العرض، بالنسبة للكاتب حماقة لا تغتفر.
باختصار، بعد ساعة كنت واقفاً عند رواق مسرح البولشوي.
هطل ثلج خفيف وكأنه اصطناعي من أوبرا «ملكة البستوني». وكان القمر في السماء الليلية ينير بعذوبة. وكان صوت ساعة برج سباسكايا في الكرملين يقرع ضرباته إيذاناً – بانتصاف الليل. ولم تكد الدقة الثانية عشرة حتى وصلت بغطرسة سيارة «مرسيدس» غرابية اللون. نزلت زجاجة السيارة الجانبية، ولوح لي السائق بيده ذات القفاز الأبيض، دق قلبي بوجل.
نزلت المدرج راكضاً نحو السيارة وجلست في المقعد الخلفي. ومن دون ان ينظر (أها، يخفي وجهه!) إليَّ السائق، ناولني كيساً من المخمل الأسود وقال بصوت مألوف.
– أرجو أن تغطي به وجهك.
– يا لها من لعبة! أنت نفسك، ذلك الشخص اذاَ.
– البسه، أو نلغي كل شيء.
– لكني سأختنق! .
– لن تختنق.
ما العمل؟ طالما فاح العمل الروائي برائحة الجريمة، والكاتب يتبع البطل دائماَ بهوس القاتل، – دسست رأسي في العتمة وأنا أكيل اللعنات.
انسابت المرسيدس بسلاسة من مكانها الى مكان ما باتجاه لوبيانكا («مقر المخابرات – م») محدثة عدة التفافات لصرف انتباهي عن معرفة اتجاه الحركة، وتوقفت. وأغلق باب السيارة بعنف. واقتادت يد قوية الأسير الى الرصيف. «انتبه، هناك سلالم!» أغلق خلفي باب المدخل (استناداً الى الصوت فهمت أنهم يقتادونني في ممر بناية واسعة وها هو المصعد. (تفوح من الشخص الذي يرافقني رائحة عبقة لغسول «تيتانيوم» الرجالي). ثم ممر ثان، لكنه مفروش بالسجاد. وصوت باب يفتح بمفتاح…
– انزع العطاء!
وجدت نفسي أمام شخص غريب قصير صلب ذي ملامح وجه سلطوية. حدقت في عينيه دارساً مظهره الخارجي.
– اترك ألاعيب شارلوك هولمز! – قال الغريب ساخراً، – انا ارتدي شعراً مستعاراً. والأنف صمغي والشارب واللحية ملصوقين. وشكل الرأس ليس شكل رأسي. لن تعرفني أبداً.
كان لباس الرجل رسمياً ا- بدلة ثلاث قطع رسمية وقميص نصع البياض، بربطة عنق على شكل فراشة، وقرنفلة بيضاء في عروة السترة، وقفازات جلدية بيضاء ناعمة ( مفهوم، لكي لا يترك بصمات الأصابع…).
تطلعت في المكان:
إننا في بناية حكومية واسعة بلا نوافذ: مكاتب وخزانات كتب على طول الجدران، ورفوف حديدية عليها مجلدات أضابير مائلة ولا شيء يدل على الحداثة سوى أمارتين – جهاز استنساخ كبير وتالفة أوراق أمريكية الصنع.
– شمبانيا؟- فتح الغريب الثلاجة.
– اللعنة أي شمبانيا! ألا يوجد قدح صغير من الماء البارد؟
كانت بيننا طاولة حديدية عرضية من ذلك النوع الذي يوجد في مكتب البريد في قسم الطرود، فارغة وعارية من أي شيء سوى شمعدان من الطراز القديم بشموع دهنية من النوع الحديث.
– لا تلعن. الله يسمع كل شيء. هل تريد فودكا؟ عندنا كل شيء، – صبَّ الفودكا واخرج طبقاَ كبيراً فيه مزات كثيرة ومتنوعة.
وأنا أدير بصري على المائدة وكنت أبحث بين الشرائح عن جبن الروكفور وقطع الخبز المفروشة بالكافيار الأسود وعن الخيار المخلل.
أثناء هذا وضع الشخص المقابل لي على الطاولة بشكل مهيب صندوقاً اسوداً مبهماً وأومضت عيناه بشرارة السيجارة.
– إذن نبدأ… هس… توقّف عن المضغ. لنحني رؤوسنا حزناً.
أثار امتعاضي رثائه المصطنع، وفتح الغطاء وقال:
– هذه جمجمة غوغول.
تراجعت لا إرادياً الى الوراء… ولكن العلبة كانت فارغة.
– مهلاً ، يا هذا ، لا شيء هناك!
«لا بد أنه مجنون»، – فكرت مع نفسي.
– ها هو. وضع المجهول يده داخل العلبة وأخرج من هناك صورة بالأبيض والأسود لجمجمة من الأمام ومن الجانب.
ألصقت بالصورة ورقة مطبوعة على الآلة الكاتبة.
– الرقم ثلاثة عشر، – تنهد وقرأ بسرعة ما مكتوب.-جمجمة نيكولاي فاسيليفيتش غوغول. سرقها من القبر في عام 1904 المهموس باخروشين.
أعاد الصورة مرّة أخرى الى العلبة وقال موضحاً:
– الوغد قدّم رشوة للعاملين على تجديد القبر عشية الذكرى المئوية للكاتب. اكتُشِف التخريب قبل عشرين سنة فقط، عندما أغلق رجال الأمن المقبرة التي في ديردانيلوف. وجرى آنذاك بناءً على أوامر الكرملين نقل قبرين الى مقبرة نوفوديفيتشي – هما قبر الشاعر يازيكوف والكاتب الساخر غوغول.
– هذا كله ذكرته في روايتي، قاطعته بضجر.
– ذكرته كله أو لم تذكره. أمر ستالين أن يجدوا ما فقد ولو من تحت الأرض. وكان باخروشين في ذلك الوقت قد توفي. واتضح أنه خبأ الجمجمة في حقيبة طبيب شرعي. ووضع الحقيبة في معهد الطب النفسي. لا داعي أن أحكي لك كم كلفت البلاد هذه الجمجمة: على كل حال لن تصدق.
– إذاً، أنت أعدتها للقبر؟ قلت بشكل لا يخلو من الارتياح.
– ماذا تقول! أنا دمرتها.
– كيف!
– بسيطة جداً. في محلول حامض الهيدروليك. صدّق ان الاحتفاظ بمثل هذه الأشياء في أي مجموعة – مهمة خطرة. لاسيما جمجمة غوغول. أوه، كانت لحظة مثيرة.. ذاب العظم ببطء ككرة من السكر في الخمر، ثم قمت بتحريك المحلول بمدقة من الخزف.
– يا له من كفر… ومع ذلك، أنا لا أصدق. ليس لديك اي دليل!.
– صدق ما أقوله والدليل موجود. وموثوقيته عالية. أجريت عشرات الاختبارات…لا، إنها جمجمته بالذات.
وهنا ضرب غطاء العلبة الفارغة.
– ولكن لماذا ؟! قلت متحيراً من هذه الروح العبثية.
– آثار مثل هذه الجرائم يجب أن تُدَمَّر بأكثر الطرق ضماناً. وبخلاف ذلك، ماذا سيقال عن روسيا، عندما يمكن للقراء ببساطة أن يهينوا رفات كاتب كلاسيكي؟ .
ظهرت على الطاولة علبة جديدة.
– وهنا، – تحول صاحبي المجهول الى الكلام بهمس حماسي، – مجموعتي الخاصة ببوشكين. صدّقني، إنها رسائل نتاليا لزوجها. وباللغة الفرنسية لم تبق كما تعرف ولا رسالة واحدة! سوى اثنين من الإضافات الى رسائل الآخرين لبوشكين كتبتها بيدها. وهذا ليس كل شيء. هنا أيضاً مذكرات أسطورية من سيرة ذاتية! تلك التي يزعم ان الشاعر أحرقها في قرية ميخائيلوفسكويه، بعد أن عرف بموت الإمبراطور الكساندر… لا، إنها سليمة! ونحن وجدناها! قرأت المذكرات مئات المرات. أي كنز من الأفكار هي! وأي شعر للروح! وهذا أيضاً ليس كل شيء. أقول ذلك؟ سوف لن تصدق. مراسلات بوشكين مع دانتيس رسالتان كاملتان للشاعر وجواب من القاتل المقبل. وكلها مؤرخة في كانون الثاني المشؤوم عام 1837. والمتخصصون ببوشكين لا يشكون بوجودها.
– لا يمكن!- ارتجفت من الهلع.
– أنظر، يا توما الشكاك!- فتح هاوي الجمع الغطاء، واخرج بحركة استعراضية غلاية زجاجية، مملوءة الى نصفها بنتف خفيفة سوداء.
– ما هذا؟ وتراجعت الى الخلف.
– رماد! على كل حال أحرقها قبل سنتين. صحة كتابة يد بوشكين مؤكدة بأشد أشكال الصرامة من طرف خبراء الورق والحبر والعلامات المائية… وخلاصة خبراء الخط.
– يا إلهي! لكن قل لي، لماذا؟ فعلت ذلك؟ – تحيرت تماماً أمام حماقة مثل هذا الحريق.
توقف هنيئة، ثم انحنى على أذني، كما لو أن شخصاً يتنصت علينا، وهمس.
– السيرة الذاتية ومراسلاته مع زوجته، وخصوصاً رسالته الى دانتيس تعطي عن الشاعر صورة غير صالحة.
بعد ذلك صاح بصوت عال وكأنه يُسمع شهوداً خفيين:
– وبوشكين-هو كل ما عندنا. إنه إله الأمة. ولا يُسمح لأحد أن يشوّه صورة بوشكين، حتى بوشكين نفسه! وإن كان هذا جنون، تذكرت مقطعاً من هاملت، لكن فيه شيء من الترتيب.
– لكنك تتذكر ولو شيئاً منها؟ انخفض صوتي.
– شيئاً ! – ضحك الغريب.- أتذكر كل شيء عن ظهر قلب وكل شيء سيموت معي. سيدخل معي قبري. هذا هو مثال الجامع الحقيقي .
-هل أنت مريض نفسي؟ – تشجعت بعد الرزمة الثانية.
– على مهلك – هددني مضيفي بسبابته. – أنا من هواة الجمع! وأقوم بجمع ما لا يعرفه الأخرون فقط . أأجعل التحف في متناول الجميع؟ كف عن هذا! إنها كلفتني كثيراً.
– ماذا دمرت بعد، أيها الرجل التعيس؟ .
لقد وثقت بكل ما قال.
– اترك هذه اللهجة، – خمدت عيناه، – توجد في مجموعتي أشياء بقيت سالمة.
قال ذلك وهو يضرب بحديدة علبة جديدة بنوع من التهيج.
أخرج صورة على شكل نصف دائرة والقى بها إليّ على الطاولة.
يا إلهي! حتى أبسط نظرة سطحية تكفي لتقييم ما رأيته. شيء لم أره من قبل. إنه بولغاكوف في شبابه في بدلة الحرس الأبيض بين ضباط الجنرال دينيكين في القوقاز. وهذا نيكولاي غوميليوف وهو معتقل في زنزانة الحبس الانفرادي. وهذه … يا للهول… ماريا تسفيتايفا مشنوقة في سقف منزل ريفي (الصورة غير واضحة، لكن المشنوق يمكن التعرف عليه تماماً).
أردت الاستيلاء على صورة واحدة على الأقل اختطفها ولا أعطيها، وضحكت ساخراً كالمجنون، مهدداً بتمرد صغير.
– هذه نسخ مصورة، النسخ الأصلية تنتظر دورها – وهدد بإصبعه ثانيةً، بعد أن وضع الصورة في الدرج بحركة خاطفة.
– استسلم،- قلت وأنا احرك يدي علامة الاندهاش، – لا أفهم شيء. تجمعها على مدى سنين لتحرقها في لحظة ؟ لماذا؟.
– الأمر بسيط جداً، – فتح الثلاجة واخرج زجاجة من الشمبانيا، – هدفي ليس جمع الوثائق الأصلية، بل جمع الاستثناءات أنا استبعد الحقائق. أني أنظف التاريخ من الاستثناءات. أنا نفسي الذي أقرر ما الذي يجب أن يغدو حقيقة تاريخية صحيحة، وما الذي احرمه من الأصالة. فالتاريخ مسألة مهمة للغاية، يجب ان لا يترك بلا رقيب. ولا تظن اني أحدد دائرة نشاطي في مجال الفن وحده. كلا، بطبيعة الحال ولأنك كاتب، فعلت لك معروفاً وأظهرت لك الجزء الأدبي من المجموعة. الهدف ليس الأدب. إنما اسمى من الأدب بكثير! الهدف الحقيقي – تاريخ الزمان. وعملياً نحن جعلنا القرن العشرين أنقى واسمى وأنصع…
– من نحن؟ أمسكت بزلة لسان صاحبي المجهول.
هنا هاوي الجمع تردد لأول مرّة.
– نحن – رابطة جامعي الحقيقة المصححة، – أجاب بعد أن سكت وهو يشعل سيجارة.
اللهب الضئيل لامس ثلاث مرات فتائل الشموع، وأضاءَ الشمعدانُ الطاولةَ بضوءٍ خافتٍ غير حقيقي.
وقال:- بالمناسبة ، استطيع أن اقدم لك فرصة.
– أي فرصة؟
– فرصة اتخاذ القرار بنفسك.
– اشرح بوضوح.
– لقد كتبت قبل مدة مقالاً زعمتَ فيه أن بوشكين نفسه كتب وثيقة الدياثة (رسالة باللغة الفرنسية وزعها مجهول في 4 تشرين الثانيمن عام 183 ذكر فيها أسماء من خانتهم زوجاتهم – من بينهم الشاعر بوشكين – م) وأرسلها الى عدد من أصدقاءه لكي يكون لديه حجة ظاهرية للمبارزة وقتل دانتيس، ألم تكتب؟!
– إني أعدت النظر في ما اعتقدت. وهذا خطأ. بوشكين نقي.
– كلا، أنت مصيب في وجهة نظرك تلك. لدي رسالة بوشكين الى القيصر نيكولاي التي يعترف فيها بهذه الخسة.
– وهاك، – وضع المجهول الأدلة على الطاولة.
وكانت استنساخ لصفحتين.
تسمرت في مكاني لأني عرفت خط بوشكين السريع المائل (باللغة الفرنسية) وسحبت الورقة بشراهة متوقفاً عند أدوات التعريف والتنكير قرأت فيها اعتراف بوشكين لصاحب الجلالة أحيطكم علماً بالتفاصيل المشينة لشرفي في دعوة السيد غيكيرن..(الخ).
«يا إلهي»، قلت مع نفسي.
– لا حاجة للكلمات، – سخر مني خصمي. – هل تتفق معي على ان هذه الأوراق كان من الأفضل ان لا يعُثّر عليها أبداً؟
لقد انكشفتُ: انخدش قلبي.
– ربما، نعم .- تمتمت شيئاً غير مفهوم في أنفي.
– احرق كل شيء بالنار، – قهقه الشيطان وفتح زجاجة الشمبانيا وأردف قائلاً:- اني لسعيد لأنك، في نهاية المطاف تبنيت وجهة نظري. وأخبرك، يا زميلي، أن النسخة الأصلية أتلِفت.
رأيت الورقة التي ضغطتها بيدي قبل قليل، تتلوىّ على الطاولة الحديدية. في إناء الحامض وتتقلص كالجلد المسحور ( قطعة الجلد في رواية بلزاك “الجلد المستور” – م) حتى تغدو حفنة من رماد. وكانت تلك النسخة الأصلية.
بعد أن نفخ صاحبي الرماد وضع على أثر اللهب قعر كأس.
– ومن تكون أنت في نهاية المطاف؟ – قلت وأنا يائس من القبضة الحديدية لعبثية الصفوة.
تدفق تيار الرغوة في الكأس.
قال: – أنا جزء من تلك القوة التي دائماً تريد الشر، ولا تفعل دائماً إلا الخير،- استشهد بمقطع من غوته، بشكل لا يخلو من المكر، – وأتم كلامهن – وإذا أردت بصراحة أكثر، اعتبرني مدير احدى دوائر الأرشيف الأكثر سرية. وها أنا بعد عشر سنوات من انهيار الاتحاد السوفيتي أقوم، تأديةً لواجبي، بتدمير ما أراه مناسباً من الأرشيف.
أدار هاوي الجمع الكأس مستمتعاً بكريات الغاز ذات اللون الأشقر في الشمبانيا.
سحبت منديلاً من التل الغامض الذي بدا تحته هرم غارنيه من البسكويت والشكولاتة البيضاء الذي تزينه الزهور الطبيعية.
إنها زهور الثالوث: عين صفراء وسط رموش طويلة مصبوغة بدهان رمادي بألوان مائية دامعة على أساس أبيض.
– إذن، لنشرب أخيراً نخب الذكرة اليوبيلية! ألف بالتمام والكمال! الواحد مع الأصفار الثلاثة يتطلب تضحية من نوع خاص اليوم على مكتبي أحد الأشياء المدهشة.
وهنا اخرج الهاوي للجمع من العلبة الأخيرة مسودة كبيرة مطبوعة على آلة كاتبة.
-هل تعرف هذا الاسم – نابوكوف؟
فتشت في ذاكرتي.
– كلا، لا أعرفه.
– ولكنه كاتب موهوب. وكان جدير تماماً بجائزة نوبل. وإن إتاحة المجال للجهلة بتدنيس هذا الحجم من الجمال يعد ضرباً من الجنون المحض! كلا، كلا. تمكنّا الآن من الإشراف على جميع مخطوطاته. «دعوة الى الإعدام»! «دفاع لوجين»! «الشواطئ الأخرى»…
وأغمض عينيه قليلاً وقال متذكراً:
بالقرب من مقعد حديقة بمسند ظهر، أبيض وزلق من الرطوبة، وضعت فطرها على شكل حلقات متراصة فوق طاولة حديدية مستديرة في وسطها ثقب للتصريف. إنها تعد الفطر وتفرزه، ترمي القديمة الرخوة من الجزء السفلي، وتولي عناية خاصة بالحبات القوية والحديثة القطف. بعد لحظة سيأخذ الخادم الفطر الى مكان لم تره ولم تهتم به، ولكن الآن يمكنها أن تقف وتستمتع به. صارت الشمس في كتلة قرمزية من الغيوم الممطرة قبل الغروب وأخذت تلقي شعاعها الأحمر على الحديقة، وتلألأت حبات الفطر على الطاولة: تعلقت عشبة برأس أحمر لحبة فطر، أو بني قهرماني، والتصق بساقِ محنيةٍ مكسورةٍ طحلبٌ بهيٌ، ويسروع صغير من فصيلة الغيموتريد، عندما يمشي على حافة الطاولة كأنه يقيس دوماً بإصبعين من يد طفل شيئاً ما، وينسحب في بعض الأحيان نحو الأعلى باحثاً عن شجيرة لا يعرفها أحد أسقطوه عنها.
تجمدت من جمال ما سمعت.
– أليس هذا رائعاً حقاً؟
(وشغلّ آلة لتقطيع الورق)
– لدى نابوكوف جوهرة من الدرجة الأولى، أنها «لوليتا». وهي أكثر شيء مفضل لدىّ. إنها معجزة! أسلوب رباني. إيقاع ساحر. ومضمون لا يُدرَك كنهه. زينة المجموعة كلها. ولكن! هل يجب السماح بتدنيس تاريخ الأدب العالمي بصفحات الشذوذ الجنسي؟ لا، أبداً!.
هددني للمرّة الثالثة بإصبع القفاز الأبيض أن لا أصر على الحماقة. ثم اقتطع بنشوة الصفحة الأولى من المخطوطة وألقى بالباقي كله بلا رحمة في الفوهة المميتة لتالفة الورق.
فقرقرت بطن الآلة.
بقيت واقفاً بين الحياة والموت من الذهول.
– يا لها من لحظة ساحرة … ، – قال ذلك وأهتز منخراه، – يا له من ضجر، أن ترتجف طوال الحياة أمام مجموعة المقتنيات! يا لها من صعقة – أن تدمر بدفعة واحدة نادرتك العزيزة.
قرّب هاوي الجمع الصفحة الأولى من نار الشمعة. ارتدَّت الورقة في البداية، وكأنها حية، وارتعدت أطراف الورقة، ثم صارت داكنة، وسرعان ما احترقت بقوة من الحرارة بحيث كوت القفاز الخفيف.
فتح المتعصب أصابعه، وصار مربع اللهب يسقط على الطاولة، ولكن فجأة هب تيار هواء ودفعه جانباً، مباشرة نحو قدمَيّ.
وتمكنت! تمكنت من أن أطأ على قطعة النار بباطن حذائي وأن انقذ من الهلاك مقطع الورقة الضيق.
خفض كاهن الصفائية في ذلك الوقت رأسه وهو يشرب الشمبانيا. ثم انحنى على كعكة بير غارنييه عند زهور الثالوث وعبّا بشهوة في فمه الضيق وريقة من الزهرة.
لقد رفعت خلسةَ، قطعة الورقة المحترقة.
وبعد دقيقتين وِضِعَ الكيس في رأسي من جديد ثم قادني الحرس الى الأسفل وأجلسني في سيارة.
نقلوني بعيداً جداً، الى أطراف موسكو، حيث عدت الى البيت من هناك بسيارة أجرة.
هطل الثلج، نُتفاً بيضاء، الحمد لله لم يعد بمقدور أحد أن يُحرِّق.
وعندما غدا صالون السيارة أوسع وأكثر إنارة من جراء نور المصابيح، صرت مرة بعد أخرى أقرأ، بلا انقطاع، مع نفسي السطور التي أنقذتها من قطعة الورقة الأولى من الصفحة المطبوعة على الآلة الكاتبة:
لوليتا يا نور حياتي … يا نار متوقدة في خاصرتي… يا خطيئتي، يا روحي. لوليتا: طرف اللسان يمضي في طريق من ثلاث خطوات عبر الحلق الى الأسفل ليدق ثلاثاً فوق الأسنان: لو – لي – تا.
أما ما تبقى من نص نابوكوف فأحرقه الطرف المتفحم من الصفحة المحترقة الشبيهة بحافة جناح حبري لفراشة حزينة.