حماية القدسية في العراق أم حماية المسؤولين الفاشلين؟
لا شك أن الهلع قد وصل بالأحزاب المتشدقة بالدين إلى درجة أنها تسعى لتشريع قوانين «لحماية المقدسات» من الشباب المتمرد الذي لم يعد يصدق بأي شيء تقوله! ولكن هل يمكن القانون أن يحمى القدسية؟ وكم مدينةٍ في العراق تحتاج إلى قانون يحمي قدسيتها من غضب الناس! وكم شرطيٍ ومحققٍ وقاضٍ تحتاج هذه القوانين لتفعيلها إن كانت الناس قد جزعت فعلا من استخدام المتنفذين الدين للقمع والقتل والخطف والسرقة وإهانة الآخرين وتهديدهم؟!
الفيديو الذي وضعه شاب في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي لم يكن يقصد به الإساءة للإمام الكاظم الذي هو محل احترام الجميع، والدليل أن الناس من مختلف الطوائف تزور مرقده وتتسمى باسمه، لكنه كان يتحدى أدعياء الدين، الذين يربكون حياة الناس بحجة الطقوس ويغلقون الشوارع وينصبون الخيم وسط مراكز المدن، ويدخلون الجِمال والخيول في شوارع بغداد والمدن الأخرى، مستفزين الناس ومعطلين الأعمال والنشاطات، في وقت تبتعد أفعالهم عن التقوى.
منذ عام 2003 وحتى الآن، يحتدم السباق بين الشخصيات والأحزاب باسم الدين والمذهب والفضيلة من أجل الوصول إلى المناصب ونهب المال العام والتمترس بالقدسية الدينية والزي الديني وأماكن العبادة ضد أي ملاحقة قانونية أو محاسبة شعبية. معظم الأحزاب والشخصيات السياسية والدينية والأمنية والعسكرية والاقتصادية استولى على ما استطاع من المال أو الممتلكات العامة إما بالقوة أو الرشى أو الاحتيال أو الشراء أو الإيجار (الرسمي) بأبخس الأثمان، أي بالتواطؤ المتبادل، بينما بقي الإنسان العادي يقاسي شظف العيش وسوء الخدمات وهشاشة الأمن وتبعات تفكك الدولة وضعف الالتزام بالقانون.
لقد استغل السياسيون الإسلاميون الدين أبشع استغلال دون خوف من الله أو القانون ودون حياء من الناس، وفي كل انتخابات تغير الأحزاب الدينية لونها وأسماءها وشعاراتها وخطابها كي تخدع الناس من جديد، لقد بلغت «الصفاقة» حدودا بعيدة جدا بحيث أصبح الإنسان العادي يكتشف زيف الادعاءات بسهولة حتى وإن كان مطلقوها يدعون الفضيلة ويرتدون الزي الديني والانتساب إلى النبي.
عندما اعتدى «داعش» على المسيحيين والإيزيديين، بالقتل والسبي والاغتصاب، لم يكن ذلك مستغربا من تنظيم إرهابي متطرف، لكن أن يُهاجَم المسيحيون ويُحرَّم تقديم التهاني لهم في عيد الميلاد من قبل رجال دين (سنة وشيعة)، بعضهم يحمل صفة رسمية، فإن الأمر أصبح أكثر من مستهجن وسكوت الحكومة عنه أكثر من معيب. عندما يهاجِم مسؤول في الدولة أبناء شريحة مهمة من شرائح المجتمع العراقي ويتهمهم بأنهم يرتكبون الفظائع والرذائل في احتفالات عيد الميلاد، ولا يُساءل عن هذا التحريض، فعلينا أن نتوقع من الناس أن تتجاوز على القانون. كيف يتوقع هؤلاء (الروحانيون) أن يقتنع الناس بكلامهم إن كانوا يحرضون بعضها ضد بعض؟ وكيف عرف هذا (العالِم) أن المسيحيين يرتكبون (الفظائع والرذائل) في احتفالات أعياد الميلاد وهو لم يحضرها، بل ويتوهم أن تأريخ ميلاد السيد المسيح هو الأول من يناير، والسؤال الأهم هو: لماذا تتمسك الحكومة بشخص متطرف وتكلفه بمسؤولية مهمة في الدولة؟
يقول عالم الاجتماع السياسي جون رولز إن المجتمع الحديث يرفض الاضطهاد وإن سعت مجموعة سياسية أو اجتماعية لممارسة الاضطهاد ضد مجموعة أخرى فإن المجتمع بأجمعه سيقف ضد هذا الاضطهاد. وها هم العراقيون اليوم يقفون صفا واحدا ضد الاضطهاد، خصوصا وأنه يمارس باسم الدين والمذهب.
من المشاكل التي تعاني منها مجتمعاتنا هي جهل السياسيين في الشؤون السياسية والاقتصادية والدينية وعدم اطِّلاعهم على تجارب الشعوب الأخرى في التعايش السلمي والنهوض الاقتصادي، كم من سياسيينا اطلع على التجارب الناجحة في المصالحة الوطنية أو التحول الديموقراطي أو الإصلاح الاقتصادي؟ للأسف، هدف السياسي عندنا هو الوصول إلى المنصب، وعندما يجلس على الكرسي، فإنه يتوهم بأنه حقق «المُنى» وبلغ غاية الطموح، بينما الوصول إلى المنصب ليس إنجازا، وقد يحصل لأسباب كثيرة لا تتعلق بالخبرة أو الكفاءة أو القدرة، كما حصل في الحكومات المتعاقبة، خصوصا الحكومة الأخيرة، ولو استعرضنا عدد الرؤساء والوزراء والوكلاء والسفراء في العراق منذ 2003 لوجدنا أن عدد المؤهلين منهم قليل جدا، بلوغ المنصب ليس إنجاز بقدر ما هو فرصة للنجاح، والأخير يعتمد على التصميم والخبرة والمعرفة بالتجارب الناجحة للاستفادة منها في التجربة الجديدة.
قليلون هم الذين يقاومون سحر المنصب، وحتى مثقفون كبار مثل جابر عصفور، تلقفوا المنصب الوزاري من دون تفكير عميق، لكن ما يسجل لجابر عصفور أنه غادره راكلاً إياه بقدميه بعد أسبوع واحد، عندما أدرك خطأه.
فاكلاف هافل، مثقف تشيكي قفز إلى الرئاسة في لحظة الثورة، لكنه تمسك بالرئاسة ولم يقدم أي إنجاز، بل عاش في أحلامه وأوهامه ولم يخدم تشيخيا مطلقاً لعدم إلمامه بما تتطلبه الرئاسة من معرفة سياسية واجتماعية واقتصادية وإدارية. ليخ فاليسا، نقابي بولندي قفز إلى الرئاسة في بولندا في لحظة هيجان عاطفية، ولكن بعد فترة رئاسية واحدة، لفظه البولنديون لجهله في السياسة والإدارة.
هناك حاجة ماسة لأن يتحلى السياسيون، ومن يتولون المناصب العامة، بقدر من الثقافة والمعرفة في شؤون المجتمعات الحديثة كي يبقوا على تماس مع حياة الناس المعاصرة ويبتعدوا عن الحقب الزمنية الغابرة. أفكار الناس ومزاجها في حالة تغير مستمر، وهذه طبيعة الحياة، ومن يتحجر وهو في دفة المسؤولية، سيلحق أضرارا ببلده، وسيتجاوزه الزمن وينتهي به الأمر خارج التأريخ والجغرافية.
لقد تعرض العراق إلى أبشع عملية نهب في التأريخ، شارك فيها (صائمون مصلون مزكون حاجون مجاهدون)! وكل أربع سنوات يقدم هؤلاء (المؤمنون الأتقياء) الوعود بالجملة للشعب العراقي، فتذهب الناس إلى صناديق الاقتراع وتصوت لهم على أمل أن تتغير الأوضاع، لكن العكس حصل، فكل شيء سار نحو الأسوأ بالنسبة للشعب، بينما تحسنت أوضاع القادة الأتقياء الذين بنوا القصور وامتلكوا الأراضي وكسبوا الأتباع ووظفوا الأقارب وافتتحوا أبواقاً للتطبيل لأنفسهم وتبرير مواقفهم أو تغييرها بحسب المزاج. الحلقة المفرغة التي تطورت عبر هذه الممارسات هي أنهم كلما تمددوا، ازدادت حاجتهم إلى المال وازداد جشعهم وتعديهم على المال العام.
القوانين لن تحميكم يا سادة. فقد تماديتم في استغلال الدين حتى أبعدتم الناس عنه ولم يعد هناك من يصدق بأقوالكم ووعودكم ومدعياتكم، لستم بأحرص على المقدسات من أي فرد عراقي، متدينا كان أم غير متدين، فالعقائد محترمة وهي جزء من ثقافة الناس ولا أحد يعارض أداء الطقوس، إن كانت تُؤدى دون تعطيل لعجلة الحياة والإضرار بمصالح الناس. المطلوب بإلحاح من المسؤولين جميعا، قبل أن تجتاحهم موجة الغضب الشعبي وتقذف بهم في مهاوي الردى، هو ترك الناس يعبّرون عن آرائهم ومشاعرهم بحرية، كل على طريقته الخاصة، حتى وإن كانت تعابيرهم غاضبة أو بدت مسيئة أحيانا، فهذا هو الحد الأدنى للعيش الكريم في بلد منكوب بالفساد والجهل.