نخشى العسكر ونلوذ بهم
أليست ثمة مفارقة حين نخشى من شيء، ثم نشعر بالحاجة
إليه لتدارك ما هو أخطر؟
استعدت تلك الصورة الدرامية وأنا أتابع ما يحصل في الجزائر والسودان وليبيا، وكأن
لسان حالي يقول: «كالمستجير من الرمضاء بالنار». وقد كان الاعتقاد السائد لدى
أوساط عديدة في الخمسينات والستينات أن الجيش في العالم الثالث أداة تغيير بحكم
تنظيمه وانضباطه وتمثيله لعموم السكان، فضلاً عن قدرته على حسم المعركة مع النظام
السائد.
لكن ذلك الاعتقاد أخذ في التبدّد والانحسار بحكم التجارب المختلفة التي قادها أو
شارك فيها الجيش بدور فعال منذ أول انقلاب عسكري حصل في العراق العام 1936 (انقلاب
بكر صدقي)، مروراً بثورة 23 يوليو/تموز 1952 في مصر، وثورة 14 يوليو/تموز 1958 في
العراق، إلى سلسلة الانقلابات والثورات الناجحة والفاشلة في سوريا وليبيا والسودان
واليمن والجزائر وموريتانيا والمغرب والأردن والصومال، وصولاً إلى جيران العرب في
إثيوبيا وتركيا وإيران.
ويمكن القول استناداً إلى ما تقدّم، إن تجربة الجيش في الحكم في جميع دول العالم
الثالث في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، لم تكن ناجحة، وقد عطّلت التراكم
الضروري لإحداث التغيير المنشود في بنية النظام السياسي ما بعد «الاستقلالات»
لتحقيق التنمية والتوجه في طريق الإصلاح نحو الديمقراطية.
وإذا كان ثمة نمو اقتصادي واجتماعي وثقافي وتعليمي وصحي قد تحقق في بعض تلك
التجارب بما فيه منجز الاستقرار النسبي، فإن تلك التجارب بقضّها وقضيضها وصلت إلى
طريق مسدود، بسبب شح الحريات وانسداد الآفاق، وذهبت المبادئ والأهداف التي قال
القادة إنهم جاؤوا لتحقيقها بما فيها تحرير فلسطين أدراج الرياح، خصوصاً في بلدان
المواجهة مع العدو الصهيوني.
فهل يمكن بعد ذلك التعويل على الجيش أم إن للضرورة أحكاماً، خوفاً من انفلات
الأوضاع لما هو أسوأ بما يؤدي إلى التشظي والتفتت؟ وهو ما حصل بعد موجة ما يسمى
«الربيع العربي» في عدد من البلدان، كما في ليبيا واليمن وسوريا.
لقد دفع إصرار الحكام على التشبث بمواقعهم، وعدم الإصغاء إلى صوت الجمهور الهادر
خارج قصورهم، اضطراراً، الجيش إلى التدخل خوفاً من حصول ما لا تحمد عقباه، فضلاً
عن محاولته الإمساك بمقدرات البلاد كي لا تفلت من بين يديه، ففي الجزائر وبسبب
«الولاية الخامسة» للرئيس عبد العزيز بوتفليقة حسم الجيش الموقف، وفي السودان
وبسبب تمسك الرئيس المعتّق عمر حسن البشير لنحو ثلاثة عقود من الزمن حسم الجيش
الموقف ايضا.
وقبل ذلك سبقت التجربة المصرية العالم العربي بالتخلص من حكم «الإخوان» بواسطة
الجيش مع الشعب.
وفي تونس التي لم يتدخل فيها الجيش يوماً في السياسة بحكمة الرئيس الحبيب بورقيبة،
اختار الجيش «اللحظة التاريخية» ليُجبر زين العابدين بن علي على الفرار استجابة
لإرادة الشعب.
وفي سوريا طالما جأرت بعض القوى بالشكوى من الجيش، فإذا به يبقى متماسكاً ليحمي
وحدة البلاد حتى الآن. أما في ليبيا، حيث انتهك الزعيم معمر القذافي حرمة الجيش
وجرّده من عقيدته الوطنية العسكرية، فإذا بنا أمام تجمعات عسكرية وميليشيات مسلحة
كل منها يريد حسم المعركة لصالحه، وقد تجلى ذلك في تحرك قوات اللواء خليفة حفتر من
الشرق الليبي وصولاً إلى العاصمة طرابلس لحسم الأمر مع الميليشيات.
وفي العراق وبسبب قرار بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي بحل الجيش تفشت الفوضى في
البلاد واستشرت أعمال العنف والإرهاب لدرجة أن الحكومات المتعاقبة صرفت مليارات
الدولارات على إعادة تأهيل الجيش لمواجهة «داعش» والقوى الإرهابية.
فهل يصبح الجيش اليوم رديفاً للدولة كظاهرة «عالمثالثية» بسبب غياب حكم القانون
وضعف المؤسسات وهشاشة الشرعية الدستورية، أم إن ثمة خشية من مسلسل جديد لانهيارات
أكثر احتداماً لما حصل ما بعد «الربيع العربي»؟ ثم ما السبيل لإعادة الأمور إلى
نصابها لتحقيق السلم المجتمعي والتعايش بين الفئات المختلفة، وحفظ وحدة البلاد
والحيلولة دون اندلاع احترابات أهلية؟
وإذا كان ذلك من مسؤولية النخب الحاكمة والمعارضة في السابق والحاضر، فإنه أيضاً
من مسؤولية المجتمع الدولي، خصوصاً أن البلدان التي ذكرناها عانت تشوّهات عديدة
وعزلة واستشرى فيها الفساد وتبدّدت الموارد، وانتشر التعصب والتطرف والإرهاب؛
الأمر الذي يحتاج المرور بمرحلة انتقالية يتعاون فيها الجيش مع المجتمع المدني
والقوى الحاملة لواء التغيير، وإلا فإن نتائجها ستكون وخيمة على الجميع، بما فيها
المجتمع الدولي، خصوصاً في ظل العولمة وثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا
الإعلام.