مدخل منهجي لنظرية المعرفة في الفكر الإسلامي
1. مدخل :
“ المعرفة ” خاصية بشرية، ترافق الكائن البشري من المهد إلى اللحد، وهي تتعلق بكلٍ من : عالم الغيب، وعالم الشهادة ( الكون بكل ما ومن فيه ) ،واللذين ربط الوحي الإلهي بينهما ربطاً محكماً، عبر الكتب السماوية المنزلة التي ارتبطت بهذا الوحي السماوي، هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فق ارتبطت المعرفة أيضاً بتركيبة الكائن البشري، والمكوّن من ” جسم وروح ” مترابطان حياتباً ووظيفياً، عبر الحواس والعقل المسؤولين معاً عن العملية المعرفية بشقيها، الفيزيقي (عالم الشهادة ) والميتافيزيقي(عالم الغيب) . هذا مع العلم أن هذا الكائن البشري بكلتا آلتيه (الحواس والعقل) لم يستطع أن يعرف من أمر تلك الروح التي تسكن بدنه شيئاً، سوى أن حضورها إنما يعني بقاءه على قيد الحياة في هذه الدار(الدنيا)، وأن غيابها إنما يعني انتقاله إلى (الدار الأخرى) التي لايعرف أيضاً من أمرها ” عملياً ” شيئاً ، ذلك أن دفن الميت في القبر هو آخر معرفة الإنسان بكل من الدنيا والآخرة معاً. لقد ورد في القرآن الكريم حول إشكالية الروح قوله تعالى : ” يسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا ” (الإسراء 85) .وحول إشكالية اليوم الآخر، قوله : ” بل تؤثرون الحياة الدنيا وللآخرة خير وأبقى ” (الأعلى 17). واقع الحال إن الله وحده من يعرف أيضاً، من من عباده سيذهب بعد الموت إلى الجنة ومن سيذهب إلى النار .
وخلاصة القول، فإن نظرية المعرفة تدور حول محاولة الإنسان الدائمة والدائبة لمعرفة للمجهول، سواء أكان هذا المجهول مما لا تستطيع حواسّه إدراكه ومعرفة كنهه وأبعاده، أو كان مما لا يستطيع عقله أيضاً أن يصل إليه، وأن يقف على كنهه وأبعاده ، سواء أكان من عالم الغيب أومن عالم الشهادة. ففي عالم الشهادة – مثلاً – نرى العصا المغموسة في كأس ماء، بأعيننا (بحواسنا) معوجة، ولكن (عقلنا) يعرف أنها في حقيقة الأمر ليست معوجة (قد تعوج بالماء العصا ولكن عقلي يقوّمها). نعم لقد استطاع العقل تقويم رؤيتنا الحسيّة لاعوجاج العصا المغموسة في كوب الماء، ولكن لو أخذنا قطعة في منتهى الصغر من أي مكان في هذه العصا، قطعة تحاكي رأس الدبوس فقط، ووضعناها تحت المجهر الذي يكبّرها مئات المرات، على ما سنحصل وماذا سنرى يا ترى ؟! والسؤال موجه هنا للعقل، الذي عرف الشق الأول من المسألة، ولكنه وقف عاجزاً أمام معرفة الشق الآخر منها، وهو الشق الذي لا يعلمه إلا الله الذي خلق هذه العصا. الأمر الذي سننتقل معه إلى :
2. المعرفة في القرآن الكريم :
+ جاء في القرآن الكريم ” والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمن شيئاً ، وجعل لكم السمع والأيصار
والأفئدة لعلكم تشكرون ” ( النحل 78 ). إن ما يوجب شكر الله هنا، هو انه منحنا الأدوات الي يمكننا بها أن نعرف بعضاً من أسرار هذا الكون، ما ظهر منها وما بطن، وذلك، وبصورة خاصة، عبر ما ذكرته الآية الكريمة، من السمع والأبصار والأفئدة .
+ تمثل نظرية المعرفة في الإسلام – إذا ماجاز لنا التشبيه – مثلثاً متساوي الأضلاع، “قاعدته الوحي” الذي نزل على نبينا محمد (ص)، أي عملياً “ألقرآن الكريم“، وضلعاه الآخران هما، العقل والحواس. ولقد جعل الله سبحانه، الحس والعقل خاضعين وتابعين للوحي ” قل أي شيء أكبر شهادة، قل الله شهيد بيني وبينكم ” (الأنعام 19)، ” ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ” (النور 40). كما وربط بين مفهومي الحس والعقل ربطاً محكماً، حيث كانا يردان دائماً متلازمين: ” وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ماكنا من أصحاب السعير” (الملك 10) “أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم كالأنعام بل أضل سبيلا ” (الفرقان 44 ) .
+ يشكل الأنبياء في عملية المعرفة الإسلامية ، صلة الوصل بين الله والإنسان ، ولكن الله وحده هو من يعرف ويعلم أمر هذه الروح التي تسكن بدن هذا الإنسان ( من أين ؟ وكيف ؟ وإلى أين ؟)، والتي تمنحنا الحياة ، وبالتالي تعطينا القدرة على أن نعرف (المعرفة بشقيها : الفطرية والمكتسبة)، سواء أكنا من عامة الناس أو من الراسخين في العلم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه وحده يعرف ويعلم الأبعاد الحقيقية، الملموسة وغير الملموسة، الظاهرة والباطنة، المتعلقة بكل من عالمي الغيب والشهادة .
+ إن الرابط المشترك بين أضلاع المثلث المعرفي الإسلامي المذكور أعلاه، هو أن الموضوع الأساسي للمعرفة هنا هو ” الله ” من جهة، وهو ” التوحيد ” من جهة أخرى، ” قل هو الله احد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ” (الإخلاص). كما أن حقيقة الله وماهيته، وبعضاً من مخلوقاته (الروح، اليوم الآخر)، ليست في متناول إدراك البشر، سواء عبر آلات الحس المختلفة، أو عبر آلة العقل .
+ يشير محمد أركون فيما يتعلق بهذه النقطة، في كتابه “الفكر العربي” إلى أن في القرآن الكريم 49 استعمالاً مختلفاً لكلمة ” عقل ” منها على سبيل المثال لا الحصر: ( إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون . ( النحل 11 ) ، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون . ( النحل 65 ) ، إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (الأنعام 99 )، إن في ذلك لآيات لقوم يذكرون ،( النحل 13 )، إن في ذلك لآيات لقوم يتفقهون. (الأنعام 99 ) . ويوضح محمد أركون أن استخدام أفعال ( يتفكرون، يسمعون، يؤمنون، يذكرون، يتفقهون) قي قرينة واحدة، يدل على أن ” عقل ” تشير إلى فاعلية غير مجزأة، تستخدم نشاط الأذن والعين والعاطفة والذكرى والتعرف والاستبطان والنفاذ ( أنظر: محمد أركون، الفكر العربي، ترجمة عادل عوا، منشورات عويدات ، بيروت – باريس 1982، ص 98 / 99 ) .
+ وبحسب مكسيم ردنسون، فإذا كان القرآن يحكّم العقل دعماً للوحي، فمعنى ذلك أنه ( القرآن) يعتبر الوحي مؤلفاً من أقوال معقولة، في متناول العقل البشري، أو في غير تعارض معه على الأقل. ويشير رودنسون إلى أن السؤال الإستنكاري (أفلا تعقلون ؟) قد تكرر – كلازمة – في القرآن الكريم، ثلاث عشرة مرة، وهو ما يؤكد العلاقة التكاملية بين الحس والعقل في القرآن الكريم (أنظر: مكسيم ردنسون، الإسلام والرأسمالية، ترجمة نزيه الحكيم، بيروت 1979 ص 86 و 90 ) .
+ غاية المعرفة في القرآن الكريم ” اليقين “، واليقين القرآني مرادف للعلم والمعرفة، ومضاد للجهل والظن والريب، ” وما يتبع أكثرهم إلا ظناً، إن الظن لا يغني من الحق شيئاً … ” ( يونس 36 ). هذا وقد خص القرأن الكريم العلماء بدور متميز في معرفة هذا اليقين ( المعرفة البرهانية ) ، ” إنما يخشى الله من عباده العلماء ” ( فاطر 28) ” هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب” ( الزمر 9 )،” وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم “ ( آل عمران 7 ) .لقد أوجب القرآن الكريم على الناس جميعاً النظر في ملكوت السمواتوالأرض ، وهي دعوة لاستخدام الإنسان لكل من الحس والعقل معاً في محاولته معرفته قدرة الخالق فيما خلق ” قل سيروا في الأرض، فانظروا كيف بدأ الخلق ” (العنكبوت 20) .
+ لقد ربط القرآن الكريم بين الأسباب والمسببات، ” هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومن شجر فيه تسيمون ( النحل 10 ) ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ” ( النحل 11 ) . ( إنا مكنا له في الأرض، وأتيناه من كل شيء سببا) ( الكهف 84).( فاتبع سببا ) ( الكهف 85 ) إن تفسير بعض الفقهاء لمفهوم ” السبب ” هنا بأنه ” العلم ” ،لا يلغي – بتقديرنا – تأويل بعضهم الآخر لهذا المفهوم بكونه يعني العلاقة السببية بين الأشياء، لأن مفهوم العلم ( قديمه وحديثه ) كان مرتبطاً غالباً بهذا المفهوم ( السببية أو العلّية ) .
3. إشكالية التأويل والإجتهاد :
دخل العقل ممثلاً بالتأويل والاجتهاد ، ساحة العملية المعرفية، بداية مع بعض الصحابة الذين عاصروا الرسول وعايشوه، وتالياً مع المذاهب الأربعة (أو الخمسة حسب الدكتور المرحوم صبحي الصالح بعد إضافة المذهب الجعفري)، ثم مع عدد من الفقهاء المسلمين( من الراسخين في العلم)، وصولاً إلى المعتزلة في أواخر العصر الأموي (أوائل القرن الهجري الثاني)، والذين يشار إليهم عادة ب ” فرسان العقلانية العربية ” وذلك بسبب تقديمهم العقل على النقل في حالة الإلتباس. انطلاقاً من أن الشريعة ( النقل) إنما تعرف وتفهم ( بضم حرف التاء في الكلمتين ) بالعقل وليس العكس. وقد لجأت المعتزلة إلى التأويل والإجتهاد في تثبيت و توكيد مبادئهم الخمسة المعروفة ( التوحيد، العدل، المنزلة بين المنزلتين، الوعد والوعيد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وهو ما اعتبر توكيداً من المعتزلة لدور” العقل ” الذي أثبته القرآن الكريم في العملية المعرفية في أكثر من سورة ومن آية.
ثم تتابعت أدوار (العقل) بعد الفتوحات الإسلامية التي سمحت باختلاط العرب بغيرهم من الشعوب والامم ، سواء التي اعتنقت الدين الإسلامي ( الفرس ) أو التي لم تعتنقه ( الروم)، والتي كانت على درجة أعلى منهم في سلم التطور، والاستفادة بالتالي من المنجزات النظرية والعملية لهذه الشعوب والمجتمعات، والتي كان من بينها دخول افلاطون وأرسطو وأفلوطين ساحة الفكر الإسلامي، عبر عملية الترجمة الواسعة من اليونانية إلى العربية ، التي افتتحها خالد بن يزيد بن معاوية بتكليفه بعض من يعرف اللغتين بترجمة كتب الصنعة والطب اليونانية إلى العربية .ثم تتابعت هذه العملية (الترجمة) بقوة مع المأمون وخلفائه المباشرين ، وصولاً إلى المتكلمين والفلاسفة المسلمين .
إن اطلاع المفكرين العرب المسلمين (نستخدم صفة العرب هنا بالمعنى الثقافي وليس العرقي) على الفكر اليوناني، وتأثرهم بعدد من أطروحاته الفلسفية والعلمية، لم يكن – بطبيعة الحال – على حساب إسلامهم، وإنما كان على العكس من ذلك لحساب هذا الإسلام، حيث كان الهدف الرئيسي لهؤلاء الفلاسفة وعلماء الكلام المسلمين خاصة هو التوفيق بين الحكمة والشريعة ( الحكمة اليونانية والشريعة الإسلامية ) وليس تغليب إحداهما على الأخرى ، كما سنرى في الفقرات التالية التي سنتوقف فيها عند أبرز هؤلاء المتكلمين الفلاسفة الإسلاميين، الذين قرؤوا الفكر العلمي والفلسفي اليوناني، وتأثروا به، وخاصة أفلاطون وأرسطو، وقفة قصيرة، مرتبطة بموضوع هذه المقالة، حيث سنكتفي بإيراد بعض الشواهد، سواء التي وردت في كتبهم، أو في كتب من كتب عنهم .
4. الجاحظ ( 159 – 255 هج ) :
نقل الدكتور الياس فرح في كتابه ” الصراع الفكري عند الجاحظ “، قول الجاحظ في كتاب الحيوان، أنّ المعرفة العميقة، لا تدرك ” دقائق الحكمة، وكنوز الآداب، وينابيع العلم، إلاّ بالعقل الثاقب اللطيف وبالنظر التام النافذ، وبالأداة الكاملة، وبالأسباب الوافرة ، والصبر على مكروه الفكر، والإحتراس من وجوه الخدع، والتحفظ من دواعي الهوى” (عن : الياس فرح، الصراع الفكري عند الجاحظ، دار الجاحظ للنش، بغداد 1981 ص 17 )
إن سبر أبعاد الفكر يحتاج بنظر الجاحظ ، إلى أكثر من السماع أو القراءة العجول ، إنه يحتاج الى تلمس ذلك ” بالنظر والتفكير والتنقيب والتنقير والتثبت والتوقف، ووصل معارفهم بمواقع حاجاتهم إليها، وتشاعرهم بمواضع الحكم فيها بالبيان عنها.”. ويشير الياس فرح هنا إلى أن الجاحظ كان سابقاً بعشرة قرون لفولتير بموقفه هذا وبمنهج فكره (ص 14) . ويعتبر منهج الجاحظ منهجاً علمياً شمولياً ” يأخذ من طرف الفلسفة، ويجمع بين معرفة السماع وعلم التجربة، ويشرك بين علم الكتاب والسنة وبين وجدان الحاسة وإحساس الغريزة ” (نفس المصدر ص 18). ويستشهد الياس فرح بما ورد على لسان الجاحظ في كتاب الحيوان أيضاً قوله ” فالإنسان لا يعلم حتى يكثر سماعه، ولابد ان تكون كتبه أكثر من سماعه، … ” (نفس المرجع ص 21 ). وفي فقرة اقتطعناها من دراسة لإحدى طالبات الدراسات العليا في جامعة صنعاء عام 1993، حول العلاقة بين السبب والنتيجة ، يقول الجاحظ :
” إن التوحيد في الألوهية، وهو الذي يعني الإيمان بخلق هذا الكون ، لاينفي وجود الأسباب الفاعلة قي الأشياء (الطبائع) … قد يكون تصور هذا الأمر صعباً على غير أهله، لكنه حق ممكن التصور … والمصيب هو الذي يجمع تحقيق التوحيد وإعطاء الطبائع حقها من الأعمال. ومن زعم أن التوحيد لا يصلح إلاّ بإبطال حقائق الطبائع فقد حمل عجزه على الكلام في التوحيد، وكذلك إذا زعم أن الطبائع لا تصلح إذا قرنها بالتوحيد، ومن قال هذا فقد حمله عجزه عن الكلام في الطبائع، وإنما ييأس منك الملحد إذا لم يدعك التوفر على التوحيد الى بخس حقوق الطبائع، لأن من رفع أعمالها رفع أعيانها، وإذا كانت الأعيان هي الدالة على الله، فرفعت الدليل فقد أبطلت المدلول عليه .” ( أنظر : محمد عمارة، معالم المنهج الإسلامي، دار الشرق ، ص 47 )
5. الكندي ( 185 – 256 هج ) :
في كتاب له بعنوان ” الكندي – فلسفته ، منتخبات ” خصص المؤلف الدكتور محمد عبد الرحمن مرحبا ، قرابة نصف هذا الكتاب لعدد من النصوص المختارة و التي سنختار منها بدورنا ما يخدم أغراض هذه المقالة :
” إن أعلى الصناعات الإنسانية منزلة ، وأشرفها مرتبة ، صناعة الفلسفة ، التي حدها علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان، لأن غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق، وفي عمله العمل بالحق ” أنظر : محمد عبد الرحمن مرحا، الكندي، فلسفته – مختارات، بيروت 1985، منشورات عويدات ، ص 136 ) ، ” لأن في علم الأشياء بحقائقها ، علم الربوبية، وعلم الوحدانية، وعلم الفضيلة وجملة علم كل نافع والسبيل إليه والبعد عن كل صغار والإحتراس منه ” (ص 140) ” الوجود الإنساني وجودان أحدهما أقرب منّا وأبعد عن الطبيعة وهو وجود الحواس التي هي لنا منذ نشوئنا، وللجنس العام لنا ولكثير من غيرنا، أعني الحس العام لجميع الحيوانات … والمحسوس كله ذو هيولى أيداً، فالمحسوس أبداً جرم، والآخر من الطبيعة وأبعد عنا، وهو وجود العقل ” ( ص142 )، ” فقد تبين أن الواحد الحق ليس هو شيء من المعقولات، ولا هو عنصر، ولا جنس، ولا نوع ، ولا شخص، ولا فصل، ولا خاصة، ولا نفس ، ولا عقل، ولا كل ولا جزء ولا جميع ولا بعض ولا واحد بالإضافة إلى غيره، بل واحد مرسل … فالواحد الحق إذن لا ذو هيولى، ولا ذو صورة، ولا ذو كمية ،ولا ذو كيفية … فهو إذن وحدة فقط محض ، أعني لاشيء غير وحدة، وكل واحد غيره فمتكثر ( ص 142 – 143 ) … فكل واحد غير الواحد بالحقيقة فهو الواحد بالمجاز لا بالحقيقة . (ص 144) . ” إن الفعل الحقّيّ الأول تأييس الأيسات عن ليس، وهذا الفعل بين أنه خاصة لله تعالى الذي هو غاية كل علة ، فإن تأييس الأيسات عن ليس (وجود الموجودات بعد أن لم تكن : م. ز.)، ليس لغيره ” ( ص 154 ) ” فإذن الفاعل الحق الذي لا ينفعل بتة هو الباري، فاعل الكل ، جل ثناؤه . وأما مادونه ، أعني جميع خلقه فإنها تسمى فاعلات بالمجاز، لا بالحقيقة، أعني أنها كلها منفعلة بالحقيقة ” (ص 155). وتحت عنوان ( في القول في النفس – المختصر من كتاب أرسطو وافلاطون وسائر الفلاسفة) كتب ابو يوسف: ” إن النفس بسيطة ذات شرف وكمال، عظيمة الشأن جوهرها من جوهر الباري عز وجل ، كقياس ضياء الشمس من الشمس ( ص 182 ) . ” … فإذاً ليس كثيراً، بل واحد غير متكثر، سبحانه وتعالى عن صفات الملحدين علواً كبير، لا يشبه خلقه، لأن الكثرة في كل الخلق موجودة وليست فيه بتة، ولأنه مبدع وهم مبدعون، ولأنه دائم وهم غير دائمين، لأن ما تبدل تبدلت أحواله، وما تبدل فهو غير دائم ز (ص 163) . وفي كتابه ( الإبانة عن العلة الفاعلة القريبة للكون والفساد ) يقول الكندي : ” فإن في نظم هذا العالم وترتيبه ن وفعل بعضه في بعض، وانقياد بعضه لبعض، وتسخير بعضه لبعض، وإتقان هيئته على الأمر الأصلح في كون كل كائن، وفساد كل فاسد وثبات كل ثابت، وزوال كل زائل، لأعظم دلالة على اتقن تدبير، ومع كل تدبير مدبر، وعلى أحكم حكمة، ومع كل حكمة حكيم .” ( ص 165 )
6. الفارابي ( 259 – 339 هج ) :
في محاولته الجمع بين رأي الحكيمين (أفلاطون وأرسطو)، أضاف الفارابي (872 م – 950 م )” التجارب ” كرابط عملي بين الحس والعقل، حيث صور العملية المعرفية كما يلي: ” من البين الظاهر أن للطفل نفساً عالمة بالقوة، ولها الحواس ألات إدراك، وإدراك الحواس إنما يكون للجزئيات، وعن الجزئيات تحصل الكليات، والكليات هي التجارب على الحقيقة … وقد بين أرسطو في كتاب ” البرهان ” ، أن من فقد حساً ما، فقد علما ما ، فالمعارف إنما تحصل في النفس بطريق الحس …فإذا حصلت من هذه التجارب في النفس، صارت النفس عاقلة، إذ العقل ليس شيئاً غير التجارب ، ومهما كانت التجارب أكثر، كانت النفس أتم عقلاً ” (الجمع بين رأي الحكيمين ، ص 98/99 ) . ويقول في كتابه ( المدينة الفاضلة ) وتحت عنوان (القول في أن وحدته عين ذاته، وانه تعالى عالم وحكيم وأنه حق وحي وحيوة) : ” ولأنه ليس بمادة ولا مادة له بوجه من الوجوه، فإنه بجوهره عقل بالفعل … فمتى كان الشيء في وجوده غير محتاج إلى المادة كان ذلك الشيء بجوهره عقلاً بالفعل، وتلك حال الأول … لأن الذي هويته عقل ليس يحتاج في أن يكون معقولاً الى ذات أخرى خارجة عنه تعقله بل هو بنفسه يعقل ذاته ، فيصير بما يعقل من ذاته عاقلاً وعقلاً بالفعل وبأن ذاته تعقله، ( يصير ) معقولاً بالفعل … وكذلك الحال في أنه عالم ، فإنه ليس يحتاج في أن يعلم إلى ذات أخرى يستفيد بعلمها الفضيلة خارجه عن ذاته ، ولا في أن يكون معلوما إلى ذات أخرى تعلمه، بل هو مكتف بجوهره في أن يعلم ( بفتح الياء ) ويعلم (بضم الياء ) وليس علمه بذاته شيئاً سوى جوهره، فإنه يعلم، وإنه معلوم وأنه علم ، فهو ذات واحدة وجوهره واحد ” ( أنظر : آراء أهل المدينة الفاضلة، أبو نصر الفارابي، بيروت، دار المشرق ش م م ، ص 46 / 47 ، ط5 ). وحول كيف تعقل القوة الناطقة الأشياء يقول الفارابي في الصفحة 103 من الكتاب : ” وفعل هذا العقل المفارق في العقل الهيولاني شبيه فعل الشمس في البصر، فلذلك سمي العقل الفعال …ويسمى العقل الهيولاني بالمنفعل … “. ” ولما كان العقل مرشداً وهادياً فلابد أن يكون من مصدر إلهي (ص 17)، وفي تقديمه وتعليقه على القسم الفلسفي في كتاب الفارابي (كتاب أهل المدينة الفاضلة) ط5 يقول الدكتور البير نصري نادر: ” لا يحاول الفارابي أن يقدم براهين على وجود الله، بل يسلم بوجوده تسليماً بديهياً، ويسميه تعالى ” الأول ” أي سبب وجود باقي الكائنات كلها، والأول خال من كل نقص، هو قديم، موجود بذاته، لا بعلة خارجة عنه، وهو غير مادي، وليس قوامه بمادة ولا بشيء آخر … والأول لا يتحرك نحو غاية، وإلا أصبحت هذه الغاية علة له ولحركته والأول لا يوجد من ولا عن كائن سابق له … ” (ص 23) ويشير هنا البير نصار إلى وجه الشبه بين موقف الفارابي من ” الأول” وموقف المعتزلة من “التوحيد” ( ص 24 ) .
7. الغزالي (450 – 505 هج ):
سوف نورد هنا مقتطفات من النصوص المختارة التي وردت في مقال مطول ل أ.د. لطف الله عبد العظيم خوجة بعنوان (منهج الشك عند الغزالي، نصوص مختارة من كتابه المنقذ من الضلال) علماً أن منهج الشك عند الغزالي هو نفسه منهج اليقين. ” اعلموا أحسن الله تعالى إرشادكم، وألان للحق قيادكم، أن اختلاف الخلق في الأديان والملل ، ثم اختلاف الأئمة في المذاهب على كثرة الفرق وتباين الطرق ، بحر عميق غرق فيه الكثيرون ، وما نجا منه إلاّ الأقلّون، وكل فريق يزعم أنه الناجي و(كل حزب بما لديهم فرحون – الروم 32 ) … إذ رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلاّ على التنصر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلاّ على التهوّد وصبين المسلمين لا نشوء لهم إلاّ على الإسلام. وسمعت الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : ” كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ” فتحرك باطني الى طلب حقيقة الفطرة الأصلية، وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين … وفي تمييز الحق منها عن الباطل … فقلت في نفسي أولاّ: إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور ، فلابد من طلب ما هي حقيقة العلم ؟ … فظهر لي : أن العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب … فإنك إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة، فلو قال لي قائل: لا بل الثلاثة أكثر من العشرة، بدليل أنني أقلب هذه العصا ثعباناً، وقلبها وشاهدت ذلك منه لم أشك بسببه في معرفتي، ولم يحصل لي منه إلاّ التعجب من كيفية قدرته عليه !، فأما الشك فيما علمته فلا . ثم علمت أن كل مالا أعلمه على هذا الوجه ، ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني “. ” ثم فتشت عن علومي فوجدت نفسي عاطلاً من علم موصوف بهذه الصفة ، إلاّ في الحسيات والضروريات …فأقبلت بجد بليغ أتأمل المحسوسات والضروريات، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها، فانتهى بي طول التشكك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً .وأخذت تتسع للشك فيها وتقول: من أين الثقة بالمحسوسات واقواها حاسة البصر، وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً، غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة، ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة، تعرف أنه متحرك ، وأنه لم يتحرك دفعة واحدة بغتة، بل على التدريج ذرة ذرة حتى لم يكن له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب ، فتراه صغيراً في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية، تدل على أنه اكبر من الأرض في المقدار. وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه يكذبه حاكمالعقل ويخونه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته. فقلت قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً فلعله لاثقة إلاّ بالعقليات التي هي من الأوليات ، كقولنا العشرة أكثر من ثلاثة ،والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد والشيء الواحد لا يكون حدثاً قديماً موجوداً معدوماً، واجباً محالاً . فقالت المحسوسات : بم تامن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات وقد كنت واثقاً بي فجاء حاكم العقل فكذبني ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي فلعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر، إذا تجلّى كذب العقل في حكمه ، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه، وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته …” ” فأعضل هذا الداء ودام قريباَ من شهرين، أنا فيها على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال، حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والإعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين … ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف ، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة …” .
8. ابن رشد ( 1126 – 1198 م )
وتوقف ابن رشد عند العلاقة الجدلية بين الحكمة ( الفلسفة ) والشريعة ، فيما يعتبر رداً على كتاب الإمام الغزالي المعروف ب ” تهافت لا الفلاسفة “، والتدليل على (تهافت التهافت) ، مستنداً في رؤيته الفلسفية – الإسلامية على مقولات القياس العقلي والإجتهاد والتأويل ، التي تمثل برأيه ضرورة عقلية فلسفية لفهم البعد المعرفي العميق في القرآن الكريم . يقول ابن رشد موضحاً وجهة نظره في هذا الموضوع، في كتابه الموسوم ب ( فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الإتصال، القاهرة 1972 ). ” وإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الإعتبار ليس شيئاً أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه وهذا هو القياس أو بالقياس، فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي … وبين أن هذا النحو من النظر الذي دعا إليه الشرع وحث عليه، هو أتم أنواع النظر، بأتم أنواع القياس، وهو المسمى برهاناً ” (ص 23 ) .
” فإنا معشر المسلمين، نعلم علم القطع، أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع ، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد عليه ” ( ص 31 /32 ) . ” ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز ” ( ص 32 ) ” ونحن نقطع قطعاً أن كل ما أدى إليه البرهان ، وخالفه ظاهر الشرع ، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل ، على قانون التأويل العربي، وهذه القضية لا يشك فيها مسلم ” ( ص33) . ” …إن ههنا تأويلات لا يجب أن يفصح بها الا لمن هو من أهل التأويل وهم الراسخون في العلم … وإذا كان ذلك كذلك ، فلا يمكن أن يتقرر في التأويلات التي خص الله العلماء بها، إجماع مستفيض ، وهذا بين بنفسه عند من أنصف ” ( 37 / 38 ) . واستشهد ابن رشد ، فيما رواه البخاري عن علي ابن أبي طالب ما نصّه : ” روى البخاري عن على بن ابي طالب رضي الله عنه، انه قال ” حدثوا الناس بما يعرفون “، أتريدون أن يكذب الله ورسوله ” (ص 35) .
9. ابن خلدون ( 1332 – 1406 ) :
لابد من الإشارة بداية إلى أننا اعتمدنا في هذه الفقرة ،بصورة أساسية على ( مقدمة ابن خلدون، الطبعة الثانية ، مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني ، بيروت 1961). كما لابد من الإشارة بداية إلى أن قواعد المنهج المعرفي عند ابن خلدون، تبدأ بضرورة أن يشك الباحث والمؤرخ فيما يلقى إليه وأن يتأمل في الأخبار والروايات ويعرضها على القوانين الصحيحة، ” لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الإجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق ” ( ص 12 ) . ومن جهة أخرى ، فإن ابن خلدون يحذر من إمكانية تطرق الكذب إلى الخبر التاريخي ، ويحدد عدة أسباب لهذه الإمكانية أبرزها : ” التشيعات للآراء والمذاهب (العمى الأيديولوجي م. ز)، الثقة بالناقلين …الذهول عن المقاصد …توهم الصدق (بالناقلين) …الجهل بتطبيق الحوال على الوقائع ….تقرب الناس في الأكثر من ذوي التجلة والمراتب … ومن الأسباب المقتضية له (الكذب) أيضاً، وهي سابقة على جميع ما تقدم ، الجهل بطبائع الأحوال في العمران ”
( ص 12-13 ) وبعد أن حدد ابن خلدون المطبات التي يمكن أن ينزلق إليها بعض المؤرخين او الباحثين، وضع لهم السكة الآمنة التي تحول بينهم وبين الوقوع في تلك المطبات، ” فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار، بلإمكان والإستحالة، أن ننظر في الإجتماع البشري الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضاً لا يعتد به، وما لا يمكن أن يعرض له .” ( ص 61 – 62 ). وفي الفصل المتعلق بتفسير حقيقة النبوة، يقول ابن خلدون : ” اعلم أرشدنا الله وإياك، أنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام، وربط الأسباب بالمسببات …وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني، وأولاً عالم العناصر المشاهدة كيف تتدرج صاعداً من الأرض إلى الماء ثم إلى الهواء ثم إلى النار متصلاً بعضها ببعض (لاحظ أثر الفكر اليوناني ) ” ( ص 166 )، ” ثم إنا نجد في العوالم على اختلافها آثاراً متنوعة: ففي عالم الحس آثار من حركات الأفلاك، وفي عالم التكوين أثار من حركة النمو والإدراك …ولابد فوقها من وجود آخر يعطيها قوى الإدراك والحركة ويتصل بها أيضاً ويكون ذاته إدراكاً صرفاً وتعقلاً محضاً وهو عالم الملائكة ” (ص 167)، ويصل ابن خلدون عبر هذا التسلسل المنطقي إلى النفس ” فهي متصلة بالبدن من اسفل منها، ومكتسبة به المدارك الحسية، التي تستعد بها للحصول على التعقل بالفعل، ومتصلة من جهة الأعلى منها بافق الملائكة ومكتسبة به المدارك العلمية والغيبية” (ص 168) ” ثم إن هذه النفس الإنسانية غائبة عن العيان وآثارها ظاهرة في البدن، فكأنه وجميع أجزائه مجتمعة ومتفرقة آلات للنفس ولقواها ” ( 168 )، ” وذلك أن الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيته من الحس والحركة والغذاء والكنِّ وغير ذلك، وإنما تميز عنها بالفكر الذي يهتدي به لتحصيل معاشه ، والتعاون عليه مع أبناء جنسه …وقبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى، والعمل به، واتباع صلاح أخراه … وعن هذا الفكر تنشأ العلوم وما قدمناه من الصنائع ” ” وأما الذي للأنبياء فهو استعداد بالإنسلاخ من البشرية، إلى الملكية المحضة التي هي أعلى الروحانيات ” ( ص 179 )، ” إن كل صناعة مرتبة يرجع منها إلى النفس أثر يكسبها عقلاً جديداً، تستعد به لقبول صناعة اخرى، ويتهيأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف ” ( ص 776 )، ” اعلم أن العلوم … صنفين : صنف طبيعي يهتدي إليه الإنسان بفكره، وصنف نقلي يأخذه عمّن وضعه، والأول هي العلوم الحكمية الفلسفية … والثاني هي العلوم النقلية الوضعية، وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي ولا مجال فيها للعقل، إلاّ في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول. وأصل هذه العلوم النقلية كلها هي الشرعيات من الكتاب والسنة ” ( 77 – 780) (يحدد ابن خلدون هذه العلوم ب: علم التفسير، وعلم القراءات، وعلوم الحديث، علم الفقه، علم الفرائض)، أما علم الكلام فيعرفه ابن خلدون بانه ” هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبدعة المنحرفين في الإعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة (821) وفي إطار دور العقل في العملية المعرفية يشير ابن خلدون إلى: ” إن الحوادث في عالم الكائنات …فلابد لها من أسباب متقدمة عليها، بها تقع في مستقر العادة، وعنها يتم كونها، وكل واحد من هذه الأسباب حادث أيضاً، فلابد له من أسباب أخر ، ولا تزال تلك الأسباب مرتقية حتى تنتهي إلى مسبب الأسباب وموجدها وخالقها سبحانه لاإلاه إلاّ هو .” (ً 822 ).
10. جمال الدين الأفغاني (1838 -1897 ) و محمد عبده ( 1849 – 1905 )
لقد ورد في القرآن الكريم، قوله تعالى ” فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون – النحل 43 ، الأنبياء 7 ) ومن الطبيعي أن يدخل واحد مثل القاضي عياض تحت مفهوم أهل الذكر، الذين يمكن أن يتوجه إليهم الناس لمعرفة ما يجهلونه من الأحكام الشرعية . بيد أن هذا لا يلغي أن يكون لكل مرحلة تاريخية فقهاؤها وعلماؤها الذين هم أعرف بشؤونها ممن سبقهم، ولاسيما إذا كان باب الإجتهاد والتأويل مفتوحاً للجميع على مصراعيه. هذا وسنتوقف بالنسبة لهذه الفقرة فقط عند الشيخ الأفغاني وتلميذه الشيخ محمد عبده، في دفاعهما عن الإجتهاد والتأويل في الإسلام. ومرجعنا في هذه الفقرة كتاب علي المحافظة (الإتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة 1798– 1914 ، بيروت 1983) .
فقد ذكر في مجلسه مرة قولاً للقاضي عياض ( 476 – 544 هج ) وتعصب له بعضهم ، فقال الأفغاني ” يا سبحان الله، إن القاضي قال ما قاله على قدر ما وسعه عقله، وتناوله فهمه وناسب زمانه، فهل لا يحق لغيره أن يقول ما هو أقرب للحق وأوجه وأصح من قول القاضي عياض أو غيره من الأئمة ، وهل يجب الجمود والوقوف عند أقوال أناس (هم أنفسهم لم يقفوا عند حد أقوال من تقدمهم). فقد أطلقوا لعقولهم سراطها، فاستنبطوا وقالوا، وأدلوا دلوهم مع الدلاء في ذلك البحر المحيط من العلم، وأتوا بما يناسب زمانهم وتقارب مع عقولهم ” (ص 74). وقال في معرض الدعوة إلى فتح باب الإجتهاد والرد على القائلين بإغلاقه: “ ما معنى باب الإجتهاد مسدود ؟، وبأي نص سد باب الإجتهاد ؟ أو أي إمام قال لا ينبغي لأحد من المسلمين بعدي أن يجتهد ليتفقه في الدين ؟، أو أن يهتدي بهدي القرآن وصحيح الحديث ؟، او أن يجد ويجتهد لتوسيع مفهومه منهما، والاستنتاج بالقياس على ماي نطبق على العلوم العصرية، وحاجات الزمان وأحكامه ؟ ” (ص 74). وفي محاولته التوفيق بين العلم والإيمان، بواسطة اعتماد التأويل يقول ” إن الدين لا يصح أن يخالف الحقائق العلمية، فإن كان ظاهره المخالفة وجب تأويله. وقد عم الجهل وتفشى الجمود
في كثير من المتردين بردار العلماء ، حتى اتهم ( بضم التاء ) القرآن بأنه يخالف الحقائق العلمية الثابتة ، والقرآن بريء مما يقولون ” ( ص 75 ). أما تلميذ الأفغاني وزميله في العروة الوثقى بباريز الإمام محمد عبده، فيقول في نفس الإتجاه : ” لقد ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين : الأول، تحرير الفكر من قيد التقليد ، والثاني، فهم الدين على طريقة السلف قبل ظهور الخلاف ..” ( ص 82)، ” لا يجوز أن يقام الدين حاجزاً بين الأرواح وبين ما ميزها الله به من الاستعداد للعلم بحقائق الكائنات… بل يجب أن يكون الدين باعثاً لها على طلب العرفان مطالباً لها باحترام البرهان …” ( ص 84 ) .