حوار الكرد والعرب.. «القوة الناعمة»
حظيت مبادرة جامعتي بغداد وكويسنجق
للحوار العربي – الكردي باهتمام كبير، ولا سيّما أنها جاءت بعد عام ونصف العام
تقريباً من توتر العلاقات بين بغداد وأربيل إثر الاستفتاء الكردي (25 سبتمبر /
أيلول 2017)، خصوصاً في ظلّ التباسات وألغام احتواها الدستور، منها المادة 140
المرحّلة من المادة 58 من «قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية»، والمناطق
المتنازع عليها وقضايا النفط، والمركز القانوني للبيشمركة، والمنافذ الحدودية
وغيرها.
ولذلك، فإن فتح قناة حوارية جديدة من خلال الوسط الأكاديمي الذي استضافته أربيل
ومدينة كويسنجق التاريخية العريقة، مسألة مهمة لأن الاستثمار في الحوار أجدى وأكثر
نفعاً لحل القضايا الخلافية، فقتال نصف ساعة أسوأ بكثير من حوار عقدين من الزمان
على حد تعبير مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان السابق. وأظن أن ذلك أحد دروس
التاريخ وعِبَر الحياة التي ينبغي أن يعيها الكرد والعرب ويدركوا معانيها جيداً،
ليس على صعيد الحاضر، بل على صعيد المستقبل، فضلاً عن تمثّلها فعلياً، لأن الصراع،
ولا سيما المسلح، ما إن يبدأ، لا يستطيع أي من المتحاربين أن يحدّد نهاية له.
لقد فشلت الحكومات المتعاقبة في العهدين الملكي والجمهوري في القضاء على الحركة
الكردية المسلّحة، لأنها تعبّر عن مطالب عادلة ومشروعة، أساسها حق تقرير المصير
للشعب الكردي. ولذلك كانت تضطر بين فترة وأخرى للجوء إلى المفاوضات والحوار وتوقيع
اتفاقيات هدنة أو سلام. وإذا كانت الحلول والمعالجات التي وضعتها الحكومات لم تلبِ
حقوق الكرد التي تطورت مع تطور القمع والاستبداد الذي عاشه العراق، ولا سيّما في
ظلّ النظام السابق، ولم تتمكن من إرساء قاعدة سليمة وأمينة للعلاقات على أساس
الثقة والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، فإن الحركات الكردية لم تستطع أن
تحقّق أهدافها عبر السلاح أيضاً، وأخفقت في نيل مطالبها العادلة والمشروعة في ظل
الاحتراب والاقتتال.
وإذا كان اللجوء إلى السلاح دفاعاً عن النفس اضطراراً، فقد انتهت تلك المرحلة، ولم
يعد الاستثمار فيها ممكناً، ولا سيّما في ظلّ التوجّه العالمي للإقرار بالحقوق
والحرّيات والاعتراف بالتنوّع والتعدّدية، بل أصبح الاستثمار في قضايا السلام
والتسامح وحقوق الإنسان هو الأساس بما يساعد في تعزيز دور ومكانة الحوار للوصول
إلى تحقيق الأهداف.
الحوار إحدى وسائل «القوة الناعمة»، فما بالك إذا كان أكاديمياً يشمل تيارات
وأنشطة وفاعليات متنوعة، فبإمكانه حينئذ أن يتحوّل إلى «قوة اقتراح» مؤثرة وفاعلة
تُضاف إلى الدور الذي يمكن أن يضطلع به المجتمع المدني والإعلام، بما يعزّز روح
التفاهم والتعاون والمشترك الإنساني. وتتأتّى أهمية «قوة الاقتراح» من خلال تقديم
«مشاريع قوانين» و«اقتراح لوائح وأنظمة»، فضلاً عن رصد ومراقبة تنفيذ الخطط
والمشاريع، بما يساعد في مأسسة الحوار وإيجاد منصّات لتبادل الآراء والأفكار على
نحو منظم ومستمر بين أصحاب القرار والأكاديميين.
كان واحداً من الاقتراحات التي تلقاها مؤتمر الحوار الأكاديمي، تأسيس معهد للحوار
العربي – الكردي، يبحث في قضايا التعاون والعمل المشترك بما «يعظّم الجوامع»
و«يقلّص الفوارق» التي ستظل قائمة لا يمكن إلغاؤها، ولكن لا بدّ من احترامها
ومراعاتها استناداً إلى تعبيراتها عن هويّة خاصة.
وكان مثل هذا الحوار قد انطلق بعد نحو عام أيضاً في عمان بمبادرة من الأمير الحسن
بن طلال، حين دعا نخبة من المثقفين العرب والكرد لحوار معرفي وثقافي، أساسه
المشترك الإنساني، وأعقبه بعد خمسة أشهر بحوار لأعمدة الأمة الأربعة ضم: عرباً
وتركاً وفرساً وكرداً، وقد تواصل الحوار في عواصم عربية أخرى مثل تونس وبيروت،
الأمر الذي يؤكد أن الحوار أصبح ضرورة لا غنى عنها، وحاجة ماسّة بقدر ما هو خيار
إيجابي أيضاً، يُسهم في التقارب والتواصل والتفاعل على أساس الأخوة العربية –
الكردية التي رفع اليسار العراقي لواءها منذ الثلاثينات من القرن الماضي، حيث كان
شعاره «على صخرة الأخوة العربية – الكردية تتحطّم مؤامرات الاستعمار والرجعية».
لم يكن الحوار في كويسنجق بين فريقين متناحرين هدفه التغالب والتكاسب، بل البحث في
المشاكل الحقيقية ببعدها الأكاديمي والثقافي والأدبي والفني والتاريخي، فهو حوار
مفتوح بين أكاديميين تجمعهم هموم مشتركة دون أن يعني ذلك عدم وجود خلافات
واختلافات بينهم حول التاريخ واللحظة الراهنة وحول المستقبل، وهو أمر طبيعي، ولا
سيّما إذا أُريدت الاستفادة من دروس التاريخ، والبحث عن قيم التحرّر والحرية
والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة، ذلك أن الأمتين العربية والكردية عانتا من
التقسيم الذي استهدف تفتيتهما وتوزيعهما على دول وكيانات، ولذلك يبقى حق تقرير
المصير، بصفته مبدأ قانونياً وسياسياً معترفاً به من الأمم المتحدة، هدفاً مشروعاً
للأمتين العريقتين، ويبقى لنا أن نعرف ماذا يريد العرب من الكرد؟ وماذا يريد الكرد
من العرب؟ ومَن أصدقاء الكرد؟ ومَن أعداؤهم؟ وهو سؤال كان قد تردّد في أول حوار
عربي – كردي انطلق في لندن في رحاب المنظمة العربية لحقوق الإنسان قبل 27 عاماً،
ولا يزال صداه مستمراً حتى الآن.