الفن التشكيلي الإيراني المعاصر من أصالة المنمنمات إلى الحداثة
ترجمة: د. تحسين رزاق عزيز، عن موقع تبيان باللغة الروسية.
بدايات تيار الحداثة في الفن التشكيلي في إيران
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت الأمة الإيرانية، التي كادت أن تغرق في غياهب النسيان، تشعر بنهضة حماسية قوية، وكان لا بد أن ينعكس ذلك بشكل كبير على الفنون. وعلى الرغم من أن الفنانين الإيرانيين استمروا في ذلك الوقت في إتقان أنماط مختلفة من الرسم الأوروبي الغربي المعاصر لهم، إلا أنه بعد الأربعينيات أصبحت مُحَاكاة الأشكال الغربية أكثر أصالة بكثير.
وقد استُبدِلَت الصيغ الأكاديمية للواقعية الغربية، الأكثر تحفظاً وتجمداً، باتجاهات فنية أكثر حداثوية وتجريدية. مع بعض التساهل، يمكننا أن نقول أن ما يسمى “بمذهب الطليعية” يمتلك الكثير من أوجه التشابه في الفن التقليدي لجميع دول العالم، وبالتالي فهو يحمل طبيعة عمومية وعالمية أكثر من غيره. وإلى جانب الحداثة، لا يزال يتطور كذلك النمط التقليدي، الذي انْبَثَقَ أصله من منمنمات الكُتُب، ولكنه في كثير من الأحيان يتشابك ويختلط بشكل غير مألوف ومبتكر مع الاتجاهات الطليعية.
بدأت عملية الابتعاد عن النزعة الواقعية للحقبة القاجارية بعد وفاة كمال المُلك بنشوء حلقة صغيرة من الفنانين الذين يسعون إلى تطوير مذهب فني مبتكر وطني حديث.
كانت دعامة الاتجاهات الجديدة في الفن هي كلية الفنون. وقد بدأ مدرسوها الذين أعلنوا أنفسهم “مبادرين وليسوا ناسخين” تعليم الطلاب بطريقة مختلفة تماماً عن أسلوب كمال المُلك. وصار أتباع المعلِّم، الذي كان يُبَجَّل سابقاً على مراعاته لمعايير الرسم الإيراني، يُنتَقَدون الآن على الجمود الأكاديمي الأكثر من اللازم.
في عام 1948 شكلت مجموعة من الفنانين المتعلمين أكاديمياً – جليل زيابور وجواد حميدي ومحمود جافادبور وآخرين، جماعة حداثية هي “جمعية ديك القتال”. وكان لا بد للحداثويين من النزال على جبهتين: ضد تأثير فناني المنمنمات وتلامذة كمال المُلك وضد تحامُل عامة الناس وحُكمُهم المُسبَق. ومن بين مؤسسي مذهب الحداثة الإيرانية منصور حسيني وبهجة صدر المشهورون على نطاق واسع.
ماركوس غريغوريان والنزعة الحداثوية
في عام 1949 افتُتِحت غاليري “أبادان” في طهران وبدأ يعرض فيها لوحاتَهم فنانون بارزون مثل ماركوس غريغوريان (من مواليد 1925). كان غريغوريان يؤيد بشدة “أسلوب قهوة خانة” الذي كان مزدهراً في ذلك الوقت بشكل كبير، ولكنه شخصياً اشتغل على موضوع مختلف تماماً: الصحراء المُسْتَعِرة والأرض المُتغَضَّنة التي أَيْبَسَتها الشمس والسر المكنون فيها.
وفي الوقت نفسه تطوَّر الرسم الرمزي بشكل فعّال. وعلى الرغم من أنَّ الرمزية بوصفها مدرسة فنية ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر، وأنَّ الرموز والاستعارات استُعمِلَت في الفن بشكل عام وفي الرسم بشكل خاص منذ مدة طويلة. فعالم الرسم هو عالم الأسرار والرموز. وهذا ينطبق في المقام الأول على الفن الإيراني الرمزي في جوهره. فالمجاز والاستعارة هما جوهر الشرق، وفي بعض الأحيان يُحسب هذا الأمر خطأً على الازدواجية. ومن الناحية التقليدية لم يحاول الفنانون الإيرانيون البحث عن التفاصيل المحدَّدة والوقائع الملموسة. وبدلاً من ذلك، صوروا العالم الخيالي الذي اكتسبت فيه الأشياء المادية معنى كونياً أبدياً، وبدا فيه العالم الروحي للناظِر من خلال اللون ومُزاوَجَته ومن خلال إيقاع مكونات العمل الفني من خلال مسار الخط. هذا الإرث الروحي موجود في الرسم الإيراني الحداثوي المعاصر.
إنَّ ميل الفنانين الإيرانيين إلى الحداثة هو جزئياً نتيجة للسعي الدائم للشرق لتجنب النزعة الطبيعية. نشأ هذا الاتجاه كردة فعل على الولع المفرط بالنزعة الطبيعية لفن الرسم في العهد القاجاري المتأخِّر.
تأثير فن المنمنمات على الرسم الحديث
كما تطوّر كذلك فن المنمنمات التقليدي. وقد اشتغل على هذا النوع فنانون إيرانيون مشهورون من أمثال فارشتشيان وأكاميري وبادروساما وسوسان آبادي وتجويدي ومهريغان. أثرت تقاليد المنمنمات وأعمال الخطاطين على اتجاهات أخرى في الرسم. على سبيل المثال، في لوحات يوسف حسيني يمكن أن نجد تشابك للأساليب الفنية المختلفة: إذ تتناقض طريقة وضع الألوان ورشاقة الخط وجمع الألوان في اللوحة والتعلق الصوفي بالبيئة المحيطة مع المظهر العادي للصِبْيان والصَبايا وملابسهم البسيطة. ويمكن أن نجد تأثير فن المنمنمات في أعمال معصومي، بما في ذلك منمنمات أيدين أغداشلو في لوحاته. واستمر فن القهوة خان في التطور بنشاط.
حسين بهزاد هو واحد من أفضل رسامي المنمنمات الإيرانيين في القرن العشرين، ولد في 1894 في طهران. وأظهرَ منذ طفولة المبكرة موهبة غير عادية في الرسم. وقد قال عن نفسه: “إحساسٌ لا يمكن وصفه جذبني نحو الرسم وشعرتُ بنفسي وكأني عطشان تمكَّن من الوصول إلى ينبوع صافٍ”. وعندما بلغ بهزاد سبع سنوات من عمره توفي والده بسبب الكوليرا. أصبح تلميذاً في استوديو الرسام الشهير حسين بيكار نيكارا وأثناء عمله معه على مدى 12 عاماً استطاع تطوير مهاراته وكسب لقمة العيش. وعندما بلغ سن الثامنة عشرة بدأ العمل بشكل مستقل ينسخُ حسب الطلبات المنمنمات من العهدين الصفوي والتيموري. وقد ساعده هذا العمل على إتقان قواعد وأسلوب المعلمين المَهَرة القدامى، بما في ذلك أعمال الفنانين الذين أَحبَّهم من أمثال كمال الدين بخداد ورضا عباسي: “إن دراستي للأنماط المختلفة من المنمنمات كانت تهدف إلى خلق أسلوب إيراني جديد يفي بمتطلبات الفن الحديث. فقد بدأت المنمنمات بالاختفاء بالتدريج وكنت أسعى لإنقاذها من النسيان”.
في عام 1953 أُقيمَ معرض لأعمال بهزاد في المتحف الإيراني للآثار، مخصص للذكرى الألفية لابن سينا. جذب المعرض الانتباه إلى إبداع هذا الفنان، وأصبح بداية لشهرته في جميع أنحاء العالم. كتب عنه رسام المنمنمات التركي سهيل أنور في جريدة “الوطن” التي تصدر في اسطنبول: “إنَّ حسين بهزاد، هذا الفنان الرائع، لا ينتمي إلى إيران فحسب، بل للعالم بأسره”. وقد نُشرت العديد من كلمات المديح عنه في الصحف الفرنسية. ثم بعد ذلك أُقيم له معرض في متحف باريس للفن الحديث، والعديد من المعارض في الولايات المتحدة.
رسم بهزاد أكثر من 400 لوحة فنية وأسس ثلاثة أنماط فنية، وتلقى العديد من الجوائز الإيرانية والدولية. وعلى الرغم من هذا عانى في سن الشيخوخة كثيراً من الفاقة والفقر المدقع وقد نسيه الجميع وتُرِك مريضاً طريح الفراش. وقال هذا الفنان الحاذق يبثُّ شكواه لأحد أصدقائه: “ولكن مع ذلك بعد أن أموت، سترى مقدار الضجيج الذي سيحدث، وكثرة المشيّعين الذين سيرافقون جنازتي إلى قبري لكي يكرِّموا ذِكْراي”. توفي في عام 1968. ودفن في مقبرة بالقرب من إمام زاده عبد الله في مدينة ريا القريبة من طهران.
أبو الحسن خان صادقي الرسام والنحات الأصيل
أبو الحسن خان صادقي – رسام ونحات إيراني شهير، ولد في عام 1894. بدأ الرسم وهو لا يزال تلميذاً في المدرسة على الرغم من اعتراضات والديه ومعلميه. قاد حب الرسم صادقي إلى مدرسة الفنون الحِرَفية الجميلة، حيث تتلمذ على يد الرسام الشهير كمال المُلك وسرعان ما أصبح واحداً من أفضل طلابه. وبعد حصوله على الشهادة، قام كمال المُلك، بعد أن رأى موهبة الفنان الشاب التي لا يمكن إنكاره ، بتعيينه مدرساً للرسم في المدرسة نفسها.
وسرعان ما أخذ صادقي يهتم بالنحت. وابتدع أول أعماله – تمثال نصفي من لطفل. وفي ذلك الوقت، لم تكن التماثيل مشهورة تقريباً في إيران، لذلك أصبح صادقي رائداً في هذا النوع من الفن. وأول تمثال رخامي لـصادقي، وهو نسخة من تمثال فينوس دي ميلو، نال الكثير من الثناء الأمر الذي جعل كمال المُلك يقدم تلميذه وعمله إلى قصر الشاه أحمد القاجاري (أحمد شاه قاجار). أُعجِبَ الشاه بتمثال فينوس وخصص راتباً شهرياً للنحات، وبدأ يطلب منه تنفيذ أعمال نحتية وسرعان ما عين صادقي مديراً لمدرسة الفنون الحرفية الجميلة. ومنذ ذلك الوقت كرَّس صادقي نفسه بصورة كاملة لأعمال النحت. ومن أكثر أعمال هذا الفنان البارع شهرة – تمثال فردوسي وتمثال أمير كبير وأشهرها حاجي مُقبل، عازف الناي الأسود.
لسوء الحظ، كان عام 1928 هو عام نفي كمال المُلك إلى مدينة حسين آباد بالقرب من نيسابور، ففقد جميع تلامذته المقربين وأصدقائه حظوتهم.
كانت هذه الأحداث بمثابة ضربة قوية لـصادقي، فهاجر إلى أوربا من دون أي مورد مالي تقريباً. وهناك زار العديد من البلدان وعلى مدى أربع سنوات درس النحت في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة في فرنسا. وكان معلمه النحات الشهير أنجي ألبرت. خلال هذا الوقت، رسم عدة أعمال بالزيت والألوان المائية، انعكس فيها التأثير الأوروبي عليه.
في عام 1932، بعد عودته إلى إيران، وجَّه هو وعدد من الفنانين المشهورين الآخرين عريضة طالبوا فيها بفتح مدرسة الفنون الحِرَفية الجميلة من جديد. ومرة أخرى أصبحت هذه المدرسة مركزاً لتدريب الفنانين الموهوبين، وقد أدّى العديد منهم دوراً هاماً في تطوير الفن الإيراني.
بقيت مدرسة الفنون الحِرَفية الجميلة تعمل حتى وفاة كمال المُلك، ثم أغلقت إلى الأبد. وفي وقت لاحق تأسست مدرسة فنية جديدة، تسمى مدرسة الفنون. وظلَّ صادقي يُدَرِّس هناك حتى عام 1967.
خلال تلك المدة عملَ صادقي على نُصبٍ ضخم لملاك العدل، وهو واحد من روائع الفن المعروفة ليس في إيران فقط بل في جميع أنحاء العالم، وقام بإبداع منحوتات لوجوه شخصيات بارزة من الشرق: الشيخ سعدي الشيرازي ، الفردوسي الطوسي، الفيلسوف والطبيب علي ابن سينا، نادر شاه. والنصب التذكاري للفردوسي الذي أقيم في حدائق فيلا بورغيزي في روما جعله مشهوراً في الأوساط الفنية الأوروبية. آخر أعمال صادقي النحات هو تمثال عمر الخيام.
للأسف، هذا الفنان الموهوب، مؤسس النحت الإيراني، لم يعترف به معاصروه. وقد قال هو نفسه بحزن عن أعماله بأنَّ الآخرين يرونها مثل حفنة من الغبار على الورق أو كومة من الحجارة غير اللازمة لأي أحد. واليوم جدير بالأجيال القادمة أن تُقدِّر إبداع أبي الحسن خان صادقي وموهبته التي لا شك فيها ومساهمته في تطوير الفن الإيراني والعالمي.
علي أكبر صنعتي والتوفيق بين الثقافة الوطنية والفن الحديث
علي أكبر صنعتي (1916 – 2006) رسام ونحات جمع هذا الفن الذي نُسي طويلاً في بلده مع الثقافة الإيرانية الوطنية بشكل فاق ما قام أبو الحسن خان صادقي بكثير. ولد في عام 1916 في كرمان. وكان يبلغ من العمر ستة أشهر فقط عندما توفي والده، وكانت والدته غير قادرة على رعاية طفلها، فأودعته إلى ملجأ حاجي صنعتي للأيتام. وعندما كان الصبي في الثامنة من عمره التفتَ مؤسس الملجأ سيد صنعتي إلى موهبته الفنية، وعندما أنهى تعليمه الابتدائي أرسله إلى طهران، إلى مدرسة كمال المُلك، التي كان آنذاك يقوم بالتدريس فيها أفضل رسّاميّ ذلك الوقت: عبد الحسين خان سيداي وحسين خان شيخي وعلي روهساز. وبعد حصوله على شهادة البكالوريوس في الفن في عام 1940، عاد الرسام الشاب إلى كرمان، راغباً في دفع الدين الذي في رقبته إلى دار الأيتام التي ترعرع فيها. وظلَّ يعلِّم الأيتام الرسم حتى عام 1945، ثم ذهب مرة أخرى إلى طهران. وفي عام 1951 أسس متحفاً في طهران في ميدان توبخانه (ساحة المدفعية المعروفة الآن باسم ساحة الإمام الخميني)، وتبرع به لجمعية الأسد والشمس الحمراء (الآن تسمى جمعية الهلال الأحمر). وفي عام 1977، وخلال أعمال شغب ضد حكومة مصدَّق في طهران اقتحمت مجموعة من الأشخاص المجهولين بناية المتحف وحطَّمت وسرقت جزءاً كبيراً من أعمال الفنان. استغرق صنعتي عامين كاملين لكي يتمكن من إعادة تأهيل المتحف بالكامل.
أبدع هذا الفنان ما يقرب مجموعه من ستة آلاف لوحة ومئات من المنحوتات. كان صنعتي يفهم الناس العاديين في وقته بشكل جيد ويسعى لإظهار الحياة والحياة اليومية للفقراء. لقد كان بارعاً في رسم اللوحات السيكولوجية الحيوية وقادراً أن يلاحظ بحدة طبيعة شخصية الفرد ومزاجه ومشاعره وينقل ذلك كله بعدّة ضربات تعبيرية بريشته. وقد كرَّمه الرئيس خاتمي على خدماته في مجال الثقافة والفنون ومنحه جائزة مرموقة.
في عام 2003 تعرَّض الفنان صنعتي إلى جلطة أفقدته القدرة على الكلام وأصيب بالشلل شبه الكامل. وتوفي في نيسان من عام 2006 بعد مرض عضال.
منصورة حسيني مؤسسة مدرسة الحداثة الفارسية في الفن
منصورة حسيني – فنانة تشكيلة، أحد مؤسسي الحداثة الفارسية، ولدت عام 1925 في طهران. ذات مرة في نهار يوم شتوي، عندما كانت صبية في العاشرة من عمرها، رسمت إحدى أشجار الصنوبر المزروعة في الحديقة بالقرب من منزلها في دفتر ملاحظات والدها. وبعد أن رأى الوالد هذا الرسم استدعى أحد المدرسين لكي يعلمها فن الرسم في المنزل. وبعد أن أكملت منصورة المدرسة التحقت بكلية الفن التشكيلي في جامعة طهران. وقد جلب لها معرضها الأول، الذي أُقيمَ في عام 1949 في الجمعية الثقافية الأنجلو- إيرانية، شهرةً كبيرة في عالم الفن. وبعد تخرجها في الجامعة درست منصورة حسيني في إيطاليا، حيث كانت ترتاد استوديو أميريكو بارتولي التابع لأكاديمية الفنون الجميلة في روما، وعرضت أعمالها في غاليري ديل فانتاجيو، وشاركت في معرض البندقية الدولي للرسم، وهو معرض للرسامين الآسيويين في روما.
تميزت بداية عمل منصورة حسيني بحب عاطفي للانطباعية ولأعمال الرسام الانطباعي الفرنسي بول سيزان، لكنها تحولت فيما بعد إلى تقاليد الرسم الوطني الفارسي. وكانت نقطة التحول في عملها تتمثّل بتعرّفها على خبير الفن الإيطالي والناقد الشهير ليونيلو فنتوري الذي كان شديد الانتقاد لأعمال الفنانة الشابة، لكنه دعم شغفها بالخط الشرقي واستخدام عناصر منه في الرسم التجريدي. ومن ذلك الوقت ظهرت في لوحات منصورة حسيني الألوان الزاهية والخطوط الرائعة لنقوش الحروف المكتوبة. وكما تقول حسيني نفسها: “بدأ فن الخط في الرسم الإيراني الحديث بملاحظة فينتوري”.
وبعد أن عادت إلى طهران في عام 1959 جعلت تعرض أعمالها في العديد من المعارض الفردية والجماعية في إيران وبلدان أخرى، بما في ذلك قاعة رضا عباسي وفي معارض طهران حيث نالت أعمالها جوائز مرموقة. وجلبت لها لوحاتها التجريدية، التي تستخدم فيها عناصر من الخط الإيراني التقليدي وخاصة أسلوب الخط الكوفي، شهرةَ بِعَدِّها مؤسِّساً لهذا النمط في إيران. في ذلك الوقت كان عدد كبير من الفنانين الإيرانيين الشباب مغرمين بالخط العربي، ولكنه لأول مرة ظهر بهذا الشكل الواضح والجلي في لوحات منصورة حسيني بالذات: “لقد استوعبتُ الكثير من تقاليد الخط الكوفي، لكن لوحاتي لا تحمل رسم الكلمات ولا حتى محاكاة الخط… أردتُ أن أجعل حركة الحرف وسكونه ولونه تُشير إلى سكون الأبدية، أو، على العكس، إلى الهروب من اكتشاف الأسرار العميقة أو إلى العوم في أثير الضباب والنار، أو إلى الانقطاع إلى الله والتوجه إليه بالدعاء. أنا لست فنانة تجريدية، إنّي ببساطة أحاول تغيير جوهري عن طريق الرسم”.
ومع ذلك، فإن لوحات منصورة حسيني أكثر تعبيراً من الخط، واستطاعت لوحاتها الوصول إلى القمة الحقيقية للفن من خلال الجمع بين اللون والخط لإيصال ظلال المعنى. والخاصية المميزة لأسلوبها هي مزج التجريدية مع الدينامية. والتعبير عن عناصر الخط في استخدام الخطوط المميزة المنحنية بشكل سلس تارة، والخطوط المنكسرة تارة أخرى. وتتميز لوحاتها بالألوان المشبعة الصارخة وبشدة التركيب وبتبسيط شكل الأجسام (متأثرة بإبداع الرسام الإيطالي ريناتو غوتوسو) وباستخدام فرشاة كبيرة. كتب الرسام والناقد فوساني عن أعمالها: “وسائل التعبير الفنية عندها غنية جداً. رسمت لوحاتها مرسومة بفرشاة خشنة حساسة، وتنقل في الأصل أحاسيس الرسام الشعرية بمساعدة اللون. إن موضوعات أعمالها دائماً غريبة، والصورة متناغمة”.
منمنمات محمود فرشتشيان المستوحاة من الشعر الكلاسيكي
الأستاذ محمود فرشتشيان يُعتبر من رواد فن المنمنمة، وهو الفنان الإيراني الأكثر شهرة في الغرب. ولد في 1929 في مدينة أصفهان في عائلة من محبي الفن. تعرَّف منذ نعومة أضفاره على أنواع مختلفة من الفن الإيراني، لا سيما فن حياكة السجاد، فقد كان والده يعمل بتجارة السِّجاد. تتلمذ محمود فرشتشيان لعدة سنوات على يد أشهر الرسامين في ذلك الوقت: حاجي آغا ميرزا آقا إمامي وعيسى بهادري. بعد تخرجه في أكاديمية اصفهان للفنون الجميلة توجَّهَ إلى أوروبا لدراسة أعمال الفنانين الغربيين العظماء. وعلى الرغم من أنه تعلم الكثير من الأساتذة الأوروبيين المشهورين في الماضي، إلا أنَّ عمله نابع في المقام الأول من التقاليد الوطنية لفن المنمنمات الفارسية والتصوف الشرقي الذي من دونه، حسب رأي الفنان، لن يحقق الفن التشكيلي الإيراني التطور الحقيقي.
عُرضت منمنمات فارشتشيان في 37 معرض فردي و 62 معرض جماعي في العديد من المتاحف في أوروبا وآسيا وأمريكا، ونال جوائز مرموقة في جميع أنحاء العالم.
حالياً، يعمل الفنان محمود فرشتشيان على إصدار موسوعة للفن الإيراني والإسلامي. وتثميناً لخدمات هذا الفنان الرائع فقد منحه الرئيس الإيراني الأسبق علي أكبر هاشمي في عام 1995ميدالية من الدرجة الأولى على الإنجازات في مجال الفن والثقافة.
إن مضامين لوحات الأستاذ محمود فرشتشيان، المشبَّعَة بالموروث الغني لفن المنمنمات الإيراني القديم، مستوحاةٌ من الشعر الكلاسيكي والفلسفة والتصوف التي اشتهر بها الشرق منذ العصور القديمة.
يعتقد محمود فرشتشيان بأن فن الرسم الايراني، ضربٌ من الخيال يعود منشأه الى مخيلة الرسام وفكره وليس وجهة نظر معينية كما في رسومات باقي البلدان والشعوب. تتميز أعمال الفنان فرشتشيان عن غيره من الفنانين التشكيليين بوجود حركات مدورة جذابة في لوحاته.
حسين محجوبي – ولد في مدينة لاهيجان (شمال إيران) في عام 1930. تخرج في جامعة طهران. على مدار 50 عاماً من المهنة الإبداعية للفنان عُرِضَت لوحاته في 40 معرضاً فردياً وعشرات المعارض الجماعية الإيرانية والدولية. أنتجت فرشاته ما يقارب من 3000 عمل. عمل الفنان أيضاً في مجال الخط وأبدع مشاريع معمارية. إنَّ النقاء المؤثر للطبيعة ووهًن الجمال هو ما يأسر المشاهد في لوحات حسين محجوبي.
برويز كلانتري – فنان تشكيلي وكاتب وأديب ولد في عام 1931. يرتبط عمله ارتباطاً وثيقاً لا انفصام له مع الجمال البسيط للأرض الإيرانية. الصحاري التي يخيِّم عليها السكون الأبدي، وجدران القلاع والمساجد القديمة التي تَشَامَخَت في صمت طوال ألف عام، والقرى النائمة التائهة في الرمال التي تَكَوَّمَت حول الواحات القليلة النادرة، ووجوه الرعاة الرحَّل الهادئة والفخورة كالأرض التي يعيشون عليها – كل هذا يبدو لنا من لوحات هذا الفنان.
علي أشهَر معصومي – ولد في 1933 تخرج في كلية الآداب جامعة طهران، لكنه يعيش في الخارج منذ 20 عاماً.
يمكن أن نميِّز في أعمال معصومي خمس فترات مختلفة بوضوح بالأسلوب الشخصي وبالمضامين وبالموضوعات وبتفاعل الألوان وبغيرها من الميزات. لكن أعمال معصومي كلها يجمعها جانب واحد يتمثّل بفن المنمنمات: إذ تركت تقاليد المنمنمات الفارسية الكلاسيكية بصمتها على عمل الفنان بأكمله.
ومثالاً على الجمع بين التقاليد الكلاسيكية والرسم الحديث، يمكننا أن نستشهد بسلسلة “الزهور”، التي تمثل واحدة من فترات عمله. فموضوع منمنمة “الزهور والطيور” التي تطورت بنشاط من الحقبة الصفوية حتى نهاية سلالة القاجاريين، نجد لها في لوحات هذا الفنان تعبيراً وصوتاً جديداً. إنه يُقحِمُ فيها العديد من الأشياء الجديدة من حيث التركيبة والشكل. وبعبارة أخرى، في الوقت الذي يظل فيه معصومي مخلصاً للمضامين التقليدية، فإنه ينحرف عن النمط الكلاسيكي: عدم وجود الآفاق، واستخدام الألوان القياسية.
تظهر في لوحات معصومي مواضيع جديدة ليست من سمات المنمنمات الكلاسيكية، فالرسام يستخدم الأفق وظلال الألوان الخفيفة غير العادية وما إلى ذلك. ومع ذلك نجد تقاليد المنمنمات موجودة في لوحاته.
يمزج معصومي بين الأسلوب القديم والابتكارات، ويستعرض ثبات التقاليد وتغيّرها وصلتها بالحداثة.
جلالي سوسن آبادي (1934 – 2004) – يتمثل إبداع هذا الفنان بربط الأسلوب الوطني التقليدي للمنمنمات بالفهم الواضح والدقيق للحداثة. أبطال منمنماته هم أبطال مجيدون، إنهم الحكماء والفلاسفة. إن الكمال الاحترافي للمسة ودقة كل خط تترك تأثيراً يكاد يكون مغناطيسياً على المتفرِّج مما يجذبه إلى لعبة الألوان الأنيقة والتعبيرية.
سهراب سبهري – شاعر ورسام، ولِد في عام 1938 في كاشان. بعد تخرجه في المدرسة الثانوية ذهب إلى طهران ودرس في كلية الفنون الجميلة جامعة طهران وحصل على درجة البكالوريوس في الآداب. بعد مرور 12 سنة على التخرج عمل في المكاتب الحكومية، وظل الرسم والشعر هواية له فقط. خلال هذه السنوات سافر كثيراً متجولاً في أوروبا وأفريقيا.
في عام 1964 ترك الخدمة الوظيفية البيروقراطية وكرس نفسه بالكامل للأدب والرسم. أمضى سنة واحدة في أمريكا، ثم قضى عامين في باريس. وفي هذا الوقت أبدع العديد من أعماله التي تميَّزت مثل شعره بالنعومة والحساسية نفسها.
أصيب في عام 1979 بسرطان الدم وتلقى علاجاً في إنكلترا لمدة عام. وفي عام 1980 عاد إلى كاشان وتوفي هناك.
ايدين اغداشلو فنان جمع بين الرسم والأدب والعمل الأكاديمي
ايدين اغداشلو – فنان وكاتب ومنظِّر فني ومؤرخ فني ومُصمّم إيراني ولِدَ في 30 أكتوبر 1940 في مدينة ريشت. يعيش حالياً في طهران ، بالإضافة إلى اشتغله الأساسي في الرسم يحاضر في مختلف الجامعات الإيرانية.
في الفترة المبكرة من ابداعه انجذب أغداشلو إلى فن عصر النهضة وأصبحت لوحات الرسام الإيطالي ساندرو بُوتِتْشِيلِّي معياراً جمالياً له. وحتى أنه تعلم حرفة الرسم من خلال نسخ أعماله. وقد دفعه إعجابه بالفنانين المتميزين في عصر النهضة إلى أن يُبدِع في أوائل السبعينيات سلسلة “ذكريات الدمار” التي جلبت له شهرة واسعة. يصور اغداشلو في هذه السلسلة تدمير الهوية والجمال برسم تحفة كاملة من روائع عصر النهضة ومن ثم تدميرها أو تشويهها جزئياً.
عمل الفنان على هذه السلسة حتى عام 1979، لكن بالتدريج بدأت الموضوعات الإسلامية بدأت تهيمن في عمله. بعد عام 1979 احتلت المنمنمات الفارسية مكاناً مهماً في أعمال أغداشو.
محمد علي ترقي جاه – ولد في طهران عام 1943. واشتغل منذ الطفولة بالرسم.
في عام 1968 حصل على ميدالية ذهبية في مسابقة الفن الإيراني. أُقيم المعرض الأول لمُنَمنماته في عام 1968 في إحدى قاعات العرض المهمة في طهران. عمل لمدة عامين بصفة مهندس في مدينة كرمان الواقعة على حافة الصحراء والتي تتميّز بالطريقة الإيرانية التقليدية في الحياة. وبعد أن عاد إلى طهران ترك المهنة التقنية وبدأ يشتغل بالرسم. تختلف لوحات محمد علي ترقي جاه عن أعمال الفنانين الإيرانيين الآخرين بأسلوبها الفريد من نوعه الذي لا مثيل له والذي ظهر في أعماله منذ عام 1980. إنها النغمات المسالمة والهادئة، والخلفية البُنّية، والصور الظلية للخيول والديكة الطائرة المُقَلَّدة في الأسلوب، وصور أشخاص يرتدون ملابس تقليدية على أرض الصحراء الأسطورية. لوحات الفنان المشبَّعَة بأسرار الشرق تنقل المُشاهد إلى أرض جميلة وهادئة، ولكنها لا تزال غير مفهومة. وأجساد الأشخاص والحيوانات غير مثبَّتَة على الأرض، فهي عديمة الوزن وشفافة ومستعدة في أي لحظة للارتقاء نحو الأعلى في رحلتها إلى الجنة، والتي جاءت منها ذات مرة في وقت مضى. إنَّ انعدام الوزن هذا والشفافية يبرز من خلال دقة الخطوط ووسائل التعبير الشفافة والنقية. يرمز اللون الأبيض في أعمال الفنان إلى الله، الذي يشعر محمد علي ترقي جاه بوجوده في كل مكان.
عُرِضَت أعماله في السنوات الأخيرة في مدريد ولشبونة ودكا وباريس وشيكاغو وطوكيو وبكين وغيرها من المدن. اختار متحف القرن 21 الدولي للفنون في الولايات المتحدة محمد علي ترقي جاه ممثلاً للفن الإيراني المعاصر.
يقول الفنان محمد علي ترقي جاه: “إن رغبتي الصادقة هي أن يعيش جميع الناس، بغض النظر عن الانتماء الثقافي والديني والإقليمي وغيرها من الاختلافات، في سلام ووئام”.
طه بهبهاني – هو رسام ونحات أصيل ومصمّم ديكورات ومُخرج مسرحي وتلفزيوني وأستاذ في الجامعة، ولد في عام 1948. بدأ الرسم في سن الثالثة عشرة تحت رعاية الفنان الأستاذ علي أكبر نجم آبادي، وهو أحد تلامذة الرسام الكبير كمال المُلك. بعد تخرجه في مدرسة كمال المُلك للفنون انتقل للدراسة في كلية باريس للفنون المسرحية في قسم “مسرح العرائس”. بعد عودته إلى إيران، شغل لعدة سنوات منصب مدير مسرح العرائس، وكان عضواً في اللجنة الوطنية الإيرانية للفنون وعضواً في لجنة تحكيم اليونسكو في العديد من المعارض الدولية. وقد أسس في منتصف الستينيات، تحت تأثير السريالية، مدرسته الخاصة في الرسم، التي سميت “السريالية الميتافيزيقية”. تعكس أعماله النضج الفني والثقة في التصوير وحُضُور الأسلوب الخاص، التي بالإضافة إلى الصِبغة الممَيِّزة والإحساس باللون تعبِّر عن شخصية الرسام المُميَّزة. أسلوبه هو توليفة من الأشكال السريالية والموضوعات الشرقية الصوفية.