حوار مع رسام الجداريات الإيراني مهدي جادانيو
ترك الفنان الإيراني الشهير مهدي جادانيو بصمته على مدينة ألميتيفسك (في تتارستان)، من خلال جدارية كبيرة (على شكل نقوش وكتابات كبيرة) على جدار منزل سكني بأسلوبه الفني الخاص. وهو أحد المشاركين في مشروع ألميتيفسك الفني “حكايات التفاحة الذهبية”، الذي يعمل في إطاره الفنانون على تخليد العام الثقافي للمدينة. تحدث مهدي عن إبداعه وعن استيعاب أعماله الفنية في إيران وروسيا والعالم وذلك في مقابلة مع مجلة “الزمان الحقيقي”.
“في مدينة ألميتيفسك، تبيَّنَ أنَّ اللغة الفارسية أكثر فائدة من اللغة الإنجليزية”.
– حدِّثنا عن نفسك، كيف وصلتَ إلى ما أنت عليه الآن؟
– – عمري الآن 37 سنة، بدأت الرسم تقريباً منذ 20 سنة. وقبل ذلك كنت راعياً، ثم فلاحاً، أعمل في البستنة. ثم فجأة بدأت أرسم. عندما انتقلتُ إلى طهران صرتُ أشعر بالشوق الشديد إلى القرية والريف المليء بالألوان. أثناء دراسة الرسم، جعلتُ أفكر لماذا تبدو المدن رمادية وغير معبِّرة، وماذا يمكنني أن أفعل مع هذه الحالة وكيف يمكنني تغييرها. في البداية، درستُ في جامعة طهران للحصول على شهادة البكالوريوس، ثم حصلتُ على درجة الماجستير في الفن والسينما. وقبل 14 عاماً أعلِنَ في طهران عن مسابقة بين الفنانين – مَن سيقوم بتزيين المدينة. شاركت في تلك المسابقة وفزت. كان ذلك أفضل وقت تمكنت فيه من الخروج من الاستوديو وبدأت العمل بين الناس. وبقيتُ لمدة ست سنوات أرسم في طهران على الجدران فقط، توقفت عن العمل في الاستوديو. أدركت الآن أنني متعب وأنَّ ليس لدي شيء آخر كي أقدمه الناس. قمتُ آنذاك، مع المساعدين، بإنشاء 150 جدارية في طهران، لكني الآن أرسم لوحة جدارية واحدة أو اثنتين في السنة، لهذا يمكنني أن أُركِّز في عملي أكثر.
وخلال محاضرة مفتوحة، قال مهدي إنه عمِلَ مع فريق مكون من 14 شخصًا: “لا يمكنني أبداً أن أعمل كل هذا العمل الكثير وحدي. هذا كله شاركني في عمله المساعدون. أنا مسرور جداً لأنهم من بين أكثر الناس انضباطاً. عادة ما يعاني الرسامون من هذا الجانب كثيراً”. ويرى مهدي أنّ أصعب أعماله الفنية هي جدارية “مساحة الأمل” في بوسطن.
– لقد ذهبتُ إلى بوسطن، لأني أردت أن أظهر لهم أن الشرق الأوسط ليس عدوانيًا كما تصوره وسائل الإعلام. في البداية رُفِضَ طلبي وطلب مساعديّ للحصول على تأشيرة الدخول. وكان لدي شعور كامل بأنَّ نوعاً من الممانعة ينتظرني هناك. كانت تلك الجدارية التي نفذتها ليست عن الدين، بل عن الإنسانية. فصورة البالونات هي رمز للأمل. وقد شاع في شبكات التواصل الاجتماعية ثمة تعليق من أحد سكان المدينة ذكر فيه أنَّ والده المصاب بمرض الزهايمر، كان في كل مرة يمر من جانب جدارية يستلهم منها القوة والعزيمة. وهذا الأمر مهم جداً بالنسبة لي.
وقال مهدي في محاضرته المفتوحة: كانت الرحلة إلى ألميتيفسك هي الأكثر راحة. إذ اشترينا الفواكه والخضروات من السكان المحليين. وذات مرة ركبنا في سيارة أجرة وحاولنا أن نشرح باللغة الإنجليزية أننا نريد الذهاب إلى صيدلية، لم يفهم السائق تمامًا. ثم جعلنا نقول فيما بيننا باللغة الفارسية – “ داروخانه، داروخانه “. سمعها السائق وفهم كل شيء على الفور. فقد تبيَّن أن اللغة الفارسية في مدينة الميتيفسك أكثر فائدة من اللغة الإنجليزية. وسنأخذ معنا الكثير من الذكريات الرائعة والودية عنها.
– كيف كانت ردة فعل أهالي طهران في البداية؟
– بالنسبة لهم، كان الأمر غير اعتيادي للغاية، لأنهم اعتادوا في السابق على رؤية لوحات دينية أو صورًا شخصية لأشخاص قتلوا في الحرب. ربما أصبحت أعمالي شائعة للغاية بسبب وجود تباين بين عملي وما شاهده الناس من قبل. قبلي، كانت الجداريات موجودة في طهران، ولكنها نُفِّذَتْ تحت تأثير فن الجداريات المكسيكي الذي تلى فن الجداريات السوفييتي. وكانت تلك، بالطبع، أعمالاً دعائية. فبعد 25 سنة على نهاية الحرب، كانت طهران مستعدة للموجة الجديدة. ونظراً للأخطاء في التخطيط الحضري، فقد بُنيَت المدينة بشكل كثيف جدًا، وكان هناك عدد كبير من الجدران الفارغة.
آنذاك لم يكن ثمة “انستغرام”، ولكني رأيت أن الناس يقومون باستمرار بالتقاط الصور على خلفية أعمالي، بالنسبة لي كان ذلك يمثل علامة جيدة للغاية. عندما جئت لأول مرة إلى أوروبا وبدأت في ألتقط صور الأعمال الفنية في الأماكن العامة، فهمت لماذا يفعل الناس ذلك في بلادي. فلو كنت قد رسمت مثل هذه الأعمال قبل سنوات، لكانت أكثر شعبية، لأن “إنستغرام” صار موجوداً.
لقد بدأت في طهران في عام 2004. في المرحلة الأولى، قمنا بعمل 15 عملاً فنياً في غضون ثلاثة أشهر. وقد شاركني وساعدني بارديز واسماعيل، اللذان بدأت العمل معهما وهما الآن معي. كانت هناك أربعة فرق نفَّذت رسومات في الوقت نفسه، فطرحتُ نفسي بصفة الموجِّه الفكري للمجموعة الفنية. لذلك، بدأنا بسرعة وبقوة.
“إنَّ ذلك بمثابة مسكن للألم في المدينة.”
– كم يتطلب من الوقت والطلاء لتنفيذ لوحة جدارية واحدة؟
– نفذنا عملاً على جدار عمارة تتكون من ثمانية طوابق في ألميتيفسك في أقل من عشرة أيام (استند موضوع اللوحة الجدارية إلى قصة عن المستقبل كتبها تلامذة الصف العاشر في إحدى المدارس في المدينة)، واستعملنا مئة كيلوغرام من الطلاء وهذا شيء قليل. الفرح الذي نمنحه للناس هو ببساطة غير قابل للمقارنة مع هذا. لسوء الحظ، لا يمكنك تدمير جميع المباني البشعة بين عشية وضحاها، ولكن يمكنك أن تغير بالكامل وجه المدينة أو المبنى. وهذا بمثابة مسكن للألم بالنسبة للمدينة. ومع مرور الوقت، تصبح مثل هذه الأعمال أكثر أهمية، لأنها تعزز بعض الذكريات والحكايات في أذهان الناس، وبالتالي تعمل على توحيدهم. أنا مطَّلعٌ نوعاً ما على تاريخ العمارة السوفيتي. أعتقد أن منازل الخمسينيات والستينيات تحتاج إلى شيء منعش، إلى نوع من التحديث، وليس مجرد تكرار للأشكال.
– أنت لأول في روسيا. ما الذي أثار إعجابك أكثر؟
– – في الواقع، إني عملتُ في هذا المكان فقط. وتعجبني حقاً ردة فعل الناس – هناك الكثير من ردود الفعل الإيجابية، إذ رأيتُ أنَّ جميع مَن يسكنون في هذا المنزل والناس في الحي يقومون باستمرار بالتقاط صور لعملنا، ويضعونها على “انستغرام”، وينزلون هاشتاغ عنه. الآن أنا أعرف المشجعين كلهم بالاسم. بالطبع، لا يمكن التواصل معهم بشكل صحيح، لكني أرى عدداً كبيراً من الصور.
– كيف تولد فكرة اللوحة الجدارية؟
– في البداية ألقي نظرة على الجدار وأدرس المدينة بشكل أو آخر لفهم الميزات المحلية. لم أقم مطلقاً بعمل رسوم تخطيطية لمكان معين. كل موضوعاتي متشابهة فيما بينها، أنا دائماً وفي كل مكان استعمل موضوعاتي الخاصة بي. ومع ذلك، لا أرغب في استعمال الرموز التي قد تبدو سلبية لبعض الناس، مما يتسبب في ردة فعل سلبية.
– كيف نشأت فكرة الجدارية في مدينة ألميتيفسك؟ وما هو المغزى الذي يحمله هذا العمل؟
– استعملتُ السماء كرمز للحرية والمستقبل والحلم، ورسمتها صافية جداً. اللون الأزرق له تأثير مهدئ على الناس، خاصة عندما يتغير التدرج من اللون الفاتح إلى اللون الغامق. وحتى لو كان الشخص ضعيف البصر، يمكنه أن يرى أن هناك بقعة زرقاء جميلة. واستعملتُ الدرج والدائرة – كثقب في السقف والفضاء، لإظهار أن هناك تحول وأمل وأنه توجد ثمة طريقة للخروج من المأزق دائماً.
إني لا أشرح إلى النهاية كل المعاني التي أدخلتها، يجب أن يكون هناك دائماً نوع من الغموض حتى يتمكن الناس أنفسهم أيضاً من التفكير. وحتى بعد سنوات عديدة، لكي تظل الأعمال مثيرة للاهتمام، ولكي يسأل الناس أنفسهم كيف شعرتُ، عندما كان الأمر حزيناً، وعندما كان الأمر مبهجاً. بفضل دراستي للسينما، أعرف أن القصص البسيطة تصيب الناس بالضجر بسرعة كبيرة. ويبدؤون في كرههم لها، وينتهي كل هذا السحر. هذا يمكن مقارنته بعلاقات الحب التي تتطور على مر السنين؛ فهي لا تدوم لساعة واحدة.
– إنكّ لا تقوم بعمل جداريات مبنية على موضوع ديني. لماذا؟
– هذا يُضيِّق الجمهور. أود الحصول على آفاق أوسع. جميع الأديان تتحدث عن الصداقة بين الناس، ولكنها في الواقع ليست ناجحة في هذا. لذلك، استعمل لغة أكثر عالمية. وحتى عندما كنت أعمل في طهران، وهي، كما تعرفون، مدينة مسلمة، كنت أفكر في جمهور أوسع، أفكر بالناس كلهم.
– هل واجهت صعوبات في تنسيق العمل، على سبيل المثال ، مع سلطات المدينة؟ – لم أعد أعمل في طهران، وذلك بسبب التخصيصات المالية للمدينة. ولكني قمت بتنفيذ الجداريات لمدة ست سنوات ثم توقفت عن العمل من جراء الاختلاف مع الإدارة حول الأمور المالية. وخلال السنوات الست أو السبع الماضية صرت أعمل على تنفيذ العديد من الأعمال الزخرفية التجريدية.
– ما هو موقفك من بانكسي رسام الجداريات المجهول؟
– من الصعب المقارنة بيننا، على الرغم من أنهم يدعونني أيضاً بانكسي الإيراني. ومع ذلك، فنحن نعمل على الجانب نفسه، لهذا أنا وبانكسي نريد تحسين صورة العالم وتغييره نحو الأفضل. يقوم بانكسي بذلك بمساعدة أعمال الاحتجاج السياسي، أما أنا فأرسم نوعاً من الحلم الطوباوي. لكننا نريد تحقيق الشيء نفسه.
– من كان له أكبر تأثير عليك؟
– رينيه ماغريت والمهندس المعماري تاداو أندو. لكنني لا استلهم أعمالي من الفن المرئي فحسب، بل أيضاً من الأدب. وأكثر ما يساعدني هي التجربة الحياتية.