طيب تيزيني.. التنوير عبر تثوير التراث
يُعد البحاثة السُّوري طَّيب تيزيني(1934-2019) أحد أبرز الكبار ممَن سعوا إلى التَّنوير عبر تثوير التُّراث، وقدم مسعاه في «مشروع رؤية جديدة للفكر العربي من العصر الجاهلي وحتى المرحلة المعاصرة». نشره العام 1974، على أن يصدر باثني عشر مجلداً. تزامن جُهد تيزيني مع جهد حسين مروة(قُتل1987) «النَّزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية»(1978)، كذلك بذل عابد الجابري (ت2010) جهداً قيماً في هذا الموضوع، مع اختلاف التوجه، ولهادي العلوي(ت1998) بحوث في العمق لإبراز التُّراث التَّنويري، ولجورج طرابيشي(ت2016) أسفار غنية، ولنصر حامد أبوزيد(ت2010) جهده الذي كُفر بسببه، وغيرهم ممَن يصعب ذكرهم جميعاً. صبت تلك الجهود مجتمعةً في تأسيس عصر التَّنوير عبر تثوير ونقد التُّراث، الذي ترتكز عليه الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة.
مِن المعلوم، أن التُّراث الإسلامي لم يقتصر على المجال الدِّيني والفقهي، إنما هناك التُّراث الفلسفي والفكري والأدبي المتنوع، وهذا لا تريد القوى الدينية الاعتراف به، لذا اعتبروا مبكراً مَن فكر خارج هذا المجال ليس له حظ في الإيمان، فاُعتبر أبرز المفكرين، الذي جنحوا بعقولهم إلى التَّنوير، على مقاس عصورهم، زنادقة(الذَّهبي، سير أعلام النُّبلاء).
ليس هذا فقط بل لوحقَ فقهاءَ كبار لأنهم أخذوا يطلعون على كُتب مَن اعتبروا زنادقة، وقصة ابن عقيل الحنبلي(ت513ه) مشهورة، يوم حُكم عليه بالقتل(461ه)، فأعلن توبته: «إني أبرأُ إلى الله تعالى من مذاهب المبتدعة: الاعتزال وغيره، ومن صحبة أربابه وتعظيم أصحابه، والتَّرحم على أسلافهم والتكثر بأخلاقهم، وما كنتُ علقته ووجد بخطي من مذاهبهم وضلالاتهم، فأنا تائب إلى الله سبحانه وتعالى من كتابته وقراءته…»(ابن قُدامة، تحريم النَّظر في كُتب الكلام). إلا أنه عاد قائلاً في محنته: «كان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء، وكان ذلك يحرمني علمًا ونفعًا»(ابن الجوزي، المنتظم).
ما اُتهم فيه ابن عقيل كان جزءاً مِن التُّراث، غير المجال الفقهي والعقائدي، وهذا ما أخذ طَّيب تيزيني بدراسته وإبرازه، على أنه حراكٌ عقليٌ، فبعد الاختلاط الثقافي بين المسلمين وبقية الأُمم صار مِن الصعب البقاء على مجالٍ واحد، اُعتبر الأقدس، ويُعاقب مَن تبنى مجالاً غيره، كالمجال الفلسفي. فالعديد مِن فقهاء أو مراجع الإمامية مثلاً، ممِن أخذ يطلع على الفلسفة، خارج الإطار الفقهي، أُقصي وحُرم التعامل معه، هذا ما وقع مثلاً على أحمد زين الدِّين الإحسائي(ت1812)، وصاحب «تفسير الميزان» محمد حسين الطباطبائي (ت1982) وغيرهما الكثير(عيدان، شؤم الفلسفة).
يقول تيزيني مختصراً مشروعه: «إن مشروعنا يرفض القول ببداية ونهاية مطلقتين في العمل الفكري الثَّقافي، ذلك لأن ما يبدو لنَّا أنه بمثل بداية مطلقة، يحتوي في ثناياه في حقيقة الأمر عناصر مِن البُنى الفكرية السَّابقة، وما يبدو لنَّا كذلك، أنه نهاية مطلقة، يمثل باعتباره تمهيداً لبنية فكرية مطلقة(من التُّراث إلى الثَّورة). في ما كتبه تيزيني جعله تحت نظرية عنوانها:«جدلية تاريخية تُراثية». وعندما بدأ مشروعه لم يدعِ أنه الأول والأخير والأصح، هذا ما ثبته في المقدمة، بل كان اجتهاداً، يحتمل الخطأ والصَّواب.
لم تمرّ مؤلفات وأبحاث تيزيني، ولا غيرها مما ذَكرنا، هباءً، إنما تركت أثرها في الأجيال، ومازالت تلد الجديد، حتى أن العديد، مِن رجال الدِّين أنفسهم، ممَن حاربوا تلك الدِّراسات وفسّقوها، عادوا يلحون بإعادة الاعتبار لها، بما لا يقل عما كان بين داروين ورجال الكنيسة. لكن ذلك لم يعجب أصحاب التشدد والإسلام السِّياسي عموماً، فمشروع التُّراث التَّنويري هو النقيض لمشروعهم ذي البداية والنهاية المطلقتين، المبني على فكرة مقدسة في الثقافة والسِّياسة ك«الحاكمية».
تعرفت على أستاذنا طَّيب تيزيني بوساطة الصَّديق الباحث تلميذه عبد الباسط سيدا بدمشق، قبل نحو ثلاثين عاماً، ذلك الإنسان الذي زاده علمه تواضعاً وبساطةً ونقاءً. صحيح أن مشروعه كان طموحاً وما زال كذلك، لكن اليأس دب إلى نفسه، بعد أن أخذته الفجيعة مما تفعله القوى المدمرة، والخراب الذي لم يبق شيء من مدينته حمص، فجاءت مقالاته الأخيرة كأنها مناشير توسل لوقف هذا الدَّمار.
ترك أستاذ الفلسفة، ورئيس قسمها، في جامعة دمشق، مؤلفات عِظام كلها صَبت في جدليته التُّراثية:«النَّص القرآني أمام إشكالية البُنية والقراءة»، «مقدمة أولية في الإسلام المحمدي الباكر»، «مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط»، «آفاق فلسفة عربية معاصرة»، «على طريق الوضوح المنهجي»، ومشروع الرؤية الذي أشرنا إليه، وغيرها.
كنتُ شاهداً على دعمه لبعض مَن سحقتهم القوى الدينية، مِن طلبته الواعدين، بعد هيمنتها على عدن، وكان حينها يعمل في جامعتها(1990-1992)، ذلك عندما تخلت حكومة الوحدة عن مسؤوليتها حتى من رفع القُمامة، التي أخذت تُغطي الطريق، فاضطررنا النزول لرفعها من حول العمارة، وكان البحاثة طَّيب أحدنا، وعندها ذكرته ملاطفاً بمشروعه التَّنويري، والحال كما يراه!
ما زال الحلم بالتّنوير قائماً، ونرى قوى الظَّلام في بداية انحسار، ولتثوير التّراث جزءاً كبيراً فيه، ذلك إذا علمنا أن الماضي في ثقافتنا راسخ الأوتاد، فلماذا لا يُبرز الموازي الساند للتنوير؟! بهذا المعنى تتحقق ثورة التُّراث، التي أوقف البحاثة تيزيني عمره لها، عبر زمن يصعب تحديده.