تحديات العمل الإنساني
بقدر ما يثير الحديث عن “العمل الإنساني” مشاعر التعاطف والتضامن، في المجتمعات المتقدمة، فإنه في الوقت نفسه يثير الكثير من الهواجس والمخاوف لدى الأطراف المختلفة في منطقتنا، بما فيها الدول الكبرى والمنظمات الدولية الحكومية وشبه الحكومية، إضافة إلى الحكومات والجهات الرسمية، ولكل تبريراته وحججه،فالأولى تحاذر من محاولة الحكومات استثمارها وتوظيفها في الصراع السياسي وحجبها عن معارضيها ، والحكومات تخشى من استثمارها لأغراض خارجية بهدف التحكّم بمسار الصراع وتوجيهه، ومثل هذه الهواجس والمخاوف، جعلت الأطراف المختلفة تنظر أحياناً لمن يتوجّه للعمل الإنساني بعين الريبة والحذر، إنْ لم يكن الشك والاتهام أحياناً.
وتندرج تحدّيات ” العمل الإنساني”، في دراسات السلام وحلّ النزاعات وهو حقل مهم من حقول العلوم الاجتماعية الذي لم يأخذ حظّه مثل الاختصاصات الأخرى، على الرغم من أن منطقتنا الأكثر حاجة إليه، بسبب الأعداد الهائلة من النازحين واللاجئين وضحايا النزاعات الدينية والطائفية والإثنية والحروب والصراعات المسلحة، تلك التي تعاظمت أعدادها في ظلّ ارتفاع شأن العصبيات ما دون الدولة وما قبلها، الأمر الذي زاد من سوء الأوضاع المعاشية.
وإذا كان العمل الإنساني مفهوماً في البلدان المتقدمة، ويتم توقيره واحترامه، فإنه في بلادنا ما زال يثير علامات استفهام مختلفة، فبعض الحكام لا يقيم وزناً له وللعاملين فيه، وبالمقابل لا يقيم الباحثون والأكاديميون والعاملون في هذا الميدان أي اعتبار لصنّاع القرار، وبدلاً من التصالح بين المواطن والدولة، وبين صاحب القرار والمواطن، ترى في أحيان كثيرة أن الهوّة تتّسع والفجوة تزداد بينهما، ناهيك عن سوء الأوضاع الإنسانية.
لقد وضع القانون الإنساني الدولي قواعد عامة، إلّا أن المشكلة تواجه من يريد تطبيقه في ظلّ غياب وسائل التنفيذ، ناهيك عن عقبات السيادة التي تقف حجر عثرة أحياناً أمام المساعدة الإنسانية، بما فيها تقديم التسهيلات للعاملين في الحقل الإنساني. ومناسبة الحديث هذا، ورشة عمل مصغرة ومحدودة إلتأمت لعدد من الخبراء بدعوة من “مركز عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية” في “الجامعة الأمريكية في بيروت” لمناقشة فكرة أساسية تتعلّق بتحديات العمل الإنساني، في ظلّ تدهور الأوضاع الإنسانية في العديد من دول المنطقة، وتأثيراتها على العالم العربي ككل. فكيف السبيل إلى ذلك في ظل إشكاليات السيادة وما طرأ على مفهومها من تطور منذ مؤتمر هلسنكي لعام 1975 حول “الأمن والتعاون الأوروبي” الذي حضرته 33 دولة أوروبية وأمريكا وكندا، لاسيّما باعتماد قاعدة حقوق الإنسان والتدخل الإنساني كجزء من مسؤولية المجتمع الدولي في ظلّ انتهاكات سافرة وصارخة إلّا أن تطبيقات هذه المسألة تم توظيفها لأغراض سياسية من جانب القوى المتنفّذة، وخصوصاً الولايات المتحدة، بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الكتلة الاشتراكية، التي استخدمت “مبدأ التدخل الإنساني” في إطار ازدواجية المعايير وانتقائية السياسات، وكان نموذجها الصارخ ” احتلال العراق”.
وشملت الحوارات ضرورة تمييز العمل الإنساني عن العمل السياسي والآيديولوجي، وإذا كانت مساعدة الضحايا هي الهمّ الأساس، فلا ينبغي النظر إلى خلفياتهم الفكرية وانحداراتهم الدينية وآرائهم ومعتقداتهم، وهذا يتطلب أيضاً إقامة علاقة متوازنة بين الحكومات والمعارضات، فالعمل الإنساني ليس من وظيفته الوقوف مع المعارضات مثلما لا يدخل في اختصاصاته معاداة السلطات، وإنما هدفه تأمين وصول المساعدات الإنسانية المادية والمعنوية للضحايا وللمناطق المنكوبة، وبالطبع سيكون من واجبه أيضاً الحفاظ على استقلاليته المالية والسعي لردم الهوّة بين العمل الإغاثي والعمل التنموي.
إن تكلفة تهرؤ النسيج الاجتماعي باهظة في بلادنا، خصوصاً باستمرار ظواهر التعصّب ووليده التطرّف، وإذا وصل هذا الأخير إلى السلوك فيصبح عنفاً باستهداف الضحايا بالتحديد، ويصير العنف “إرهاباً” إذا ضرب عشوائياً، وهنا ينبغي مواجهة مكامن العنف البشري بجميع أشكاله والبحث في سياسات تنموية بديلة عمّا هو قائم، لأن استمرار الحال على ما هو عليه سيؤدي إلى المزيد من تصدّع كيانية الدولة الوطنية، خصوصاً بتراجعها عن القيام بوظائفها الرئيسية، فضلاً عن صعود إرادات الجماعات السياسية وارتفاع سقف مطالبها في ظل الاستقواء بالميليشيات على حساب إرادة الدولة التي أخذت تتراجع. ولعل الكثير من البلدان العربية عاشت وبعضها لا يزال يعيش هذه الحال: اليمن وليبيا وسوريا وقبلها العراق والسودان والصومال وفلسطين بالطبع وإنْ كان الاحتلال هو السبب الأساسي وراء ذلك.
وإذا كانت المنظمات الدولية لا تلبّي الحاجات الإنسانية، فإن معالجة الحكومات هي الأخرى ظلّت محكومة بالأجندات الخاصة والمشاكل الإدارية والبيروقراطية لأن المواطن ليس هو الأولوية لديها، وإنما الأمن ولاسيّما “أمن النظام”، فالأزمة ليست بالغذاء والدواء، بل بالأوضاع الإنسانية التي خلقتها وتأثيراتها الاجتماعية والنفسية على صعيد المستقبل لجهة السلام المجتمعي والدولي وقضايا العنف والإرهاب، الأمر الذي يقتضي لمن يريد التصدّي لمثل تلك المهمات تطمين مختلف الأوساط على عدم انحيازه لصالح هذا الفريق أو ذاك، حيث يتلخّص هدفه في الجانب الإنساني، وحينها يستطيع كسب ثقتها من جهة و ثقة المواطن من جهة أخرى .