د.خالد شوكات: الشعبوية..انتقام من الديمقراطية أم اختبار لها؟
أظهرت استطلاعات الرأي الاخيرة في تونس تقدّم ثلاثة نماذج مختلفة ل”الشعبوية” على الأحزاب والتيارات السياسية العادية، سواء تلك التي تحمَّلت مسؤولية الحكم أوحتِى تلك التي شغلت مقاعد المعارضة طيلة السنوات الماضية، وهو أمر أثار تساؤلات المتابعين وحيرة المهتميّن، كما جعلت المخاوف تستبد بعقول الديمقراطيين وقلوبهم، فزعا على هذه التجربة الناشئة التي يمكن ان يقصف عودها في كل وقت وحين.
علينا قبل الخوض في محاولة إيجاد تفسيرات مقنعة لما اسماه البعض ب”الزلزال”، أي تقدّم الاتجاهات الشعبوية على غيرها في مزاج من جرى استقصاء آرائهم، أن نبدأ بتعريف ظاهرة “الشعبوية” التي قد تأخذ شكلا متطرّفا يعد بالموت أعداء الوطن والشعب والأمة، او قد تأخذ كذلك شكلا اجتماعيا أو قانونيا يعبّر عن حاجة لدى شرائحشعبية محددة، متضرّرة من مشاكل بعينها وتبحث عن حلول عاجلة لها.
اقترنت “الشعبوية” غالبا باستفحال الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وتراجع المستوى المعيشي والقدرة الشرائية لغالبية المواطنين، ويمكن تلخيص خطابها كما يلي:” تقديمحلول سهلة ومباشرة لأزمة معقّدة ومركبة”، وبعبارة أخرى فان الخطاب الشعبوي هو”خطاب بيع الوهم للجماهير”.
ولكننا عندما نتأمل في القوى الشعبوية الصاعدة في تونس علينا التوقف عند ثلاث حاجات أساسية أو قضايا رئيسية تعبّر الى حدّ كبير عن الضمير الجمعي للتونسيين، وهي كما يلي:
- افتقاد التونسيين لسلطة الدولة في مقابل الفوضى التي سرت جرّاء فهم خاطئ للحرّية، وهي الوضعية التي تفسّر صعود تيار شعبوي يدعو – ولو بشكل مضمر- إلى العودة الى شكل من أشكال النظام السابق، وهذا التيار يردّ التراجع الذي حصل في جلّ مرافق الدولة الى ظهور الإسلاميين في المشهد العام بعد الثورة، محمّلا اياهم المسؤولية الاولى في ما حدث ومصوّرا الحل في إقصاء هؤلاء من جديد، وهذا الخطاب يشبه الخطاب الشعبوي اليميني المتطرف في الغرب الذي يصوّر كل البلاء في الأجانب وكل الحلُّ في طردهم.
- ضجر التونسيين من الفساد الذي استشرى في مفاصل المجتمع والدولة، ومن هنا رغبتهم في التصويت لمن رأوْا فيه الصدى لسيف الدستور والقانون الذي يمكنان يسلّط على رقاب الفاسدين ويحرر مؤسسات الحكم من خرابهم، فإذا ما تصدَّىصوت هذا القانون للثروات الطبيعية وأوحى بتأميمها، فإنه سيدغدغ حتىاً مشاعر المحرومين ممن صدّقوا ان هذه الثروات منهوبةٌ فعلا، وان النعيم ينتظرهم بعدتطهير الحقول والمناجم وإعادتها الى أصحابها الحقيقيين.
- لقد وفَّرت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المستفحلة، والتراجع الدراماتيكي الذي شهدته القدرة الشرائية، جراء غلاء الأسعار وانهيار الدينار اساسا، بيئة ملائمة لبروز خطاب شعبوي يزعم الانحياز ل”الزواولة” والعطف على الفقراء، فإذا ماقرن الخطاب بأنشطة خيرية لصالح الفئات المهمشة والمحرومة، اضحى هذا الخطاب المخلّص مؤثرا جدّاً، ولا مجال هنا للتساؤل او التفكير لدى اصحاب البطون الخاوية، وما اذا كان من صلاحيات رئيس الجمهورية القضاء على الفقر المنتشر او تطبيق خطط تنفيذية لمعالجة الظواهر الاجتماعية البائسة.
خلاصة القول في هذا المجال، ان الظاهرة الشعبوية الصاعدة في بلادنا، هي نتاجطبيعي لاستفحال ثلاثة ملفّات حارقة: شعور المواطنين بضعف الدولة، واحتجاجهم على الفساد المستشري في مفاصلها، وتراجع الالتزام الاجتماعي لها واتساع رقعة الفقر والحرمان معها.
فهل يشكّل بروز القوى الشعبوية خطرا على ديمقراطيتنا الناشئة يا ترى؟ أم إنه سيشّكل اختباراً حقيقيا لها سيساهم في نقدها لذاتها ومراجعة اخطائها وتقويم اعوجاجاتها بمايفتح لها افاقا جديد واعدة ويساهم في تجديد دمائها من خلال اعادة بناء الطبقة السياسيةالتي هيمنت عليها الرداءة وتحكّمت في عقلها سياسي محدّدات فاسدة من قبيل الغنيمة والقبيلة والتعصّب الايديولوجي.
لقد لعبت الشعبوية في التاريخ الإنساني أدوارا مختلفة، خصوصا في تاريخ الديمقراطيات، فقد كانت احيانا نذير شؤم وعامل إنهاء للانظمة الديمقراطية الهشّة،على غرار ما شكلته الحركات النازية والفاشية قبيل الحرب العالمية الثانية، غير انهاشكلت في حالات اخرى منبّهات للقوى الديمقراطية لتدارك أمرها والانتباه لخطورة سياساتها المتبعة وضرورة تنظيف شرايينها واوردتها.
إنَّ سير التونسيين إلى ما يمكن تسميته ب”التصويت الانتقامي” قد يقود البلاد بعدالانتخابات القادمة الى تسليم الدولة ومؤسسات الحكم إلى مغامرين لا تجربة لهم اوبرامج واضحة، ودون موارد بشرية مدربة وكفوءة، فهذه التيارات عادة ما تكون موغلة في الفردانية، مرتكزة في عملها على قائد فرد لا يملك غير الشعارات الجوفاء التي يرددها ولا يوجد في محيطه ثقات يمكن الاعتماد عليهم لاحقا لعقلنة المسارات، ولعل السيناريو الأكثر سوداوية كما بدا من خلال النتائج المعلنة لعمليات سبر الاراءالاخيرة، ان تهيمن هذه التيارات الشعبوية المتناقضة على مؤسسات الحكم دون انيكون التوافق بينها ممكنا لتشكيل سلطة تشريعية او تنفيذية فاعلة ومستقرة، وحينها ستجد البلاد نفسها في وضعية “عبثية” بامتياز تجهز على ما تبقى من الدولة وتجعلالتضحية بالديمقراطية أهون الشرّين، وضرورة يمليها الأمن القومي قبل ان تكون خياراً.
تدعو عبير موسي الى إعلان الحرب على الإسلاميين ويدعو نبيل القروي إلى إعلانالحرب على الطبقة السياسية برمتها اما قيس سعيد يستعد لإعلان الحرب على القوى الغربية.. ويبدو ان الأزمات عادة ما تشكل مناخا خصباً لإعلان الحروب غير القابلة للتنفيذ، ولعل اخطر ما في الموضوع ان تكون الحرب الوحيدة الممكنة التي يمكن انيجرّ اليها هؤلاء البلاد هي “الحرب على الديمقراطية”.