«ما بعد» العدالة الانتقالية
هل وصلت تجارب «العدالة الانتقالية» إلى
طريق مسدود؟ وهل أصبح الحديث عما بعد العدالة الانتقالية ضرورة لتجاوز الاستعصاء؟
وهل هناك خيار آخر أكثر ضماناً لتحقيق العدالة؟ أسئلة تواجهها العديد من تجارب
العدالة الانتقالية، بما فيها التجارب العربية الجنينية التي لم تلج هذا الميدان
إلّا منذ وقت قريب نسبياً.
وكان المغرب البلد الأول الذي باشر بذلك في عام 2004، حيث أسّس «هيئة الإنصاف
والمصالحة»، في حين بدأت تونس مساراً رسمياً بهذا الخصوص في عام 2011، حيث خُصصت
وزارة للعدالة الانتقالية، وأُسست «هيئة الحقيقة والكرامة». وحاولت كل من ليبيا
واليمن التوجه لتطبيق بعض مبادئ العدالة الانتقالية، لكن تجربة ليبيا أخفقت بعد
فترة حكم المجلس الوطني الانتقالي واندلاع الصراع، مثلما فشلت تجربة اليمن عقب
فترة الحكومة المؤقتة، وتوقفت بسبب ظروف الحرب لاحقاً.
وظلّت النخب السياسية والفكرية والحقوقية ومؤسسات المجتمع المدني العربية في حالة
نقاش يشتدّ ويرتخي بخصوص العدالة الانتقالية، ففي العراق صدر «قانون اجتثاث
البعث»، ثم تحوّل إلى «قانون المساءلة والعدالة»، لكنه أثار انقساماً مجتمعياً
حاداً. أما في الجزائر، فبعد «العشرية السوداء» التي شهدت عنفاً لا مثيل له
(1992-2002) بدأ البحث في قضايا العدالة الانتقالية، ولا سيّما للمختفين قسرياً،
وعلى الرغم من المعاناة التي تحملها لبنان خلال الحرب الأهلية (1975-1990)، لكنه
لم يتمكن من سنّ قانون للمفقودين والمختفين قسرياً إلّا في ال 30 من نوفمبر /
تشرين الثاني 2018. ولا تزال سوريا تعاني من تداخلات عديدة بشأن انتهاكات حقوق
الإنسان في ظروف الإرهاب والنزاع المسلّح. ولأن العدالة الانتقالية تأتي في العادة
بعد فترات الصراعات والحروب والنزاعات الأهلية التي تشهدها بعض المجتمعات، فإن
اتجاهين يثوران بشأن المعالجة:
الأول يدعو إلى التشدّد إزاء الماضي لدرجة الغرق فيه، وإبقاء كل شيء أسيراً له بما
فيه العملية السياسية التوافقية الهشّة.
والثاني يريد قلب صفحة الماضي كلياً، وهو الأمر الذي يؤدي إلى الإفلات من العقاب
وعدم الاستفادة من دروس التجربة التاريخية، وكلا الاتجاهين يثير حفيظة أوساط واسعة
من المتضررين في السابق والحاضر، فما السبيل لتحقيق العدالة؟
وعلى الرغم من أن جميع تجارب العدالة الانتقالية تشمل الجرائم المتعلقة بالإبادة
وضد الإنسانية وجرائم الحرب وعمليات القتل خارج القضاء والتعذيب والاختفاء القسري،
وغيرها من الارتكابات التي تتناولها القوانين الوطنية والقانون الإنساني الدولي
والقانون الدولي لحقوق الإنسان، فإن سبل معالجتها اختلفت وتنوّعت، لكن ما هو غير
مؤكد حتى الآن أن هذه التجارب حققت مصالحة شاملة ومنيعة، وإن استطاعت منع حدوث
النزاع المسلح باستثناءات محدودة.
إن وصول بعض تجارب العدالة الانتقالية إلى طريق مسدود أو حالة استعصاء أو ابتعاد
عن هدف المصالحة الوطنية، يقتضي البحث عن طريق جديد يتجاوز آثار الماضي ويعيد
البلاد إلى وضعها الطبيعي، وسيكون مثل هذا الأمر ضرورة لا غنى عنها، بعد أن ظلّت
بعض تجارب العدالة الانتقالية تراوح في مكانها، ولم تحقّق أهدافها، ولا سيّما
باستمرار الانقسام المجتمعي وانهيار النظام القانوني أو اندلاع نزاعات مسلحة
جديدة.
ولأن العدالة الانتقالية خيار سياسي، فلا بدّ من البحث عن خيارات سياسية أخرى
معدّلة أو مكمّلة ومتممة له، لكي تكون بديلاً لمنع الإفلات من العقاب ومنع تكرار
الانتهاكات وتحقيق مصالحة وطنية لإرساء نظام ديمقراطي يقرّ ويعترف بكرامة الإنسان
ويحفظ حقوقه ويعالج ذاكرة الماضي.
ومثلما تضافرت جهود سياسيين وناشطين حقوقيين ومؤسسات مدنية وبدعم من منظمات غير
حكومية، إضافة إلى المجتمع الدولي لتحقيق العدالة الانتقالية، لا بدّ من التفكير
في مسارات أخرى موازية أو رديفة للخيارات القائمة، لتجاوز حالة الركود التي مرّت
بها بعض البلدان، لدرجة قادت بعض التجارب لخلق بؤر حرب دينية أو طائفية أو إثنية،
ولا سيّما في ظل موجة الإرهاب الدولي وانتعاش التيارات الإرهابية – التكفيرية.
وإذا كانت العدالة الانتقالية في أمريكا اللاتينية من (الأرجنتين إلى شيلي
والبيرو) وفي إفريقيا (من رواندا وسيراليون إلى جنوب إفريقيا)، وفي أوروبا الشرقية
(الدول الاشتراكية السابقة) وفي آسيا (سريلانكا ونيبال وتيمور الشرقية) وغيرها، قد
سلكت هذا السبيل، فإن عدم تحقيق الأهداف يتطلّب تغيير الوسائل، والوسيلة من الغاية
مثل البذرة من الشجرة على حد تعبير غاندي.
وعلى الرغم من الأهمية العالمية لهذا المسار، خصوصاً لما أنجزه، غير أن الحاجة
أكثر بكثير إلى ابتداع تطبيقات أكثر عمقاً وشمولاً في العالم العربي، على صعيد
السياسة والحقوق والقانون، حيث تشتبك هذه المسائل مع البيئة التقليدية في المجتمع
العربي والتأثيرات القبلية والدينية والطائفية والإثنية والمناطقية، وهو ما يدعو
إلى التفكير لما بعد الخطوات الأولى للعدالة الانتقالية وانسداد أفق بعضها، فضلاً
عن تأثيراتها الجانبية، لتغذية عوامل صراع جديدة.