سعيد بنكراد يدرس الأنساق البصرية في «تجليات الصورة.. أو سيميائيات الرؤية
«تجليات الصورة.. سيميائيات الأنساق البصرية»، هو عنوان الكتاب الجديد الذي صدر في الآونة الأخيرة للكاتب والباحث سعيد بنكراد، ضمن منشورات المركز الثقافي للكتاب. وهو يحلل مفهوم الصورة ويدرس تجلياتها وأبعادها البصرية والجمالية والدلالية.
يواصل الكاتب والجامعي المغربي سعيد بنكراد، كتابا بعد آخر، الحفر في مجال السيميائيات ومفاهيمها وأبعادها النظرية ومجالاتها التطبيقية، إلخ. إذ اشتغل في أعماله السابقة، وعلى رأسها «وهج المعاني: سيميائيات الأنساق الثقافية» و»سيرورات التأويل: من الهرموسية إلى السيميائيات» و»السيميائيات: مفاهيمها وتطبيقاتها» و»السيميائيات السردية: مدخل نظري» و»النص السردي: نحو سيميائيات للإيديولوجيا»، على مفهوم السيميائيات وتجلياتها وأنساقها المكتوبة وتمثلاتها الدلالية، إلخ. بينما يواصل في كتابه الجديد: «تجليات الصورة» اهتماماته التي ظهرت بعض في أعمال سابقة، مثل «استراتيجية التواصل الإشهاري» و»الصورة الإشهارية: آليات الإقناع والدلالة»، أو في بعض مقالاته التي نشرت في مجلة «علامات».
لكن ما موضوع هذا الكتاب بالضبط؟ ليس المنطلق في تأليف هذا الكتاب ما أعلنه بنكراد في مقدمة الكتاب وما لمسه من اهتمام لدى مجموعة الأساتذة والتلاميذ الذين استضافوه إلى إحدى ثانويات الدار البيضاء قصد الحديث عن الصورة، بل هو كامن في هذه الأخيرة في حد ذاتها وما يكتنفها من لبس وغموض، بل وجهل حول ماهيتها وأنساقها وأبعادها الدلالية والفنية والجمالية وتجلياتها البصرية، الخ. من هنا قيمة وأهمية المقدمة والفصل الأول من الكتاب اللذين يعنيان بتعريف الصورة ومستوياتها الأيقونية والتشكيلية والمسائل والمشكلات التي يجيب عنها منتجها وطبيعة مكوناتها وطريقة ظهورها وتفسير تجليها، إلخ.
ولعل ما يستفاد من الصفحات الأولى لهذا الكتاب أن الصورة ليست نسخة من واقع معين، كيفما كانت طبيعته، وليست «إعادة إنتاج لما تراه العين»، كما يقول بنكراد، وإنما هي نتاج دلالي يعبر عن وجود معين أو فكرة ما، ليس عبر الكلمات، بل من خلال سند بصري، وكل ذلك يقود إلى غاية واحدة هي الإفصاح عن معنى ما. هنا تكمن مساهمة بنكراد في هذا الكتاب. فهو وإن كان يهتم بالجوانب الشكلية (طرائق التقاط الصورة، والتقطيع، والتركيب، إلخ)، خاصة في الجزء الأخير من الكتاب، فإنه يركز، أساسا، على مضمون الصورة، وما يعبر عنه ويرمي إليه هذا المضمون، من معاني ودلالات قابلة للتفكيك والفهم. في هذا السياق، يقول الكاتب: «إن العلامة البصرية ليست صورة لأشياء بشكل طبيعي، وليست استنساخا لعالم مادي يسلم نفسه بشكل عفوي. إنها تقتضي دائما معرفة سابقة هي التي تحدد درجة التشابه بينها وبين ما تقوم بتمثيله. فقد لا تكون هذه العلامة اعتباطية بنفس قوة الاعتباطية في الحقل اللساني، ولكنها في حاجة إلى تسنين ثقافي هو وحده يمكن أن يقود العين ويوجهها نحو استحضار بنية إدراكية هي سبيلها الوحيد إلى رد هذا الدال إلى هذا المدلول.» (ص. 120)
ربما هذا الأمر هو ما استوجب تخصيص ثلاثة فصول (الرابع والخامس والسادس) للإجابة عن سؤال جوهري: «كيف تنتج الصورة معانيها؟» إذ يسعى الكاتب، في هذه الفصول الثلاثة، إلى توضيح الأدوات التي تستخدمها الصورة من أجل إنتاج معانيها ودلالاتها، سواء على المستوى الأيقوني (أي كل العوالم المادية التي تحيل عليها صورة ما كالجسد وحركاتها أو الطبيعة بمظاهرها المختلفة، إلخ) أو المستوى التشكيلي (أي كل التقنيات التي يسخرها المصور من أجل التقاط صورة جميلة، ويقصد بها التأطير واللقطات وزوايا التقاط الصورة والتقطيع والتركيب، إلخ). أضف إلى هذا اهتمامه بما تقتضيه الصورة من أشكال وألوان وخطوط وكيانات أخرى تعطي للصورة هذا المعنى أو ذاك أو هذه الاستعارة أو تلك، الخ، وتضفي عليها قيمة كونية أو محلية، وذلك بحسب ما يمكنها أن تتضمنه من تمثلات ثقافية واجتماعية وسياسية أو أبعاد إنسانية (صورة جثة الطفل الكردي أيلان مثلا).
وعلى غرار ما قام به الكاتب في بعض أعماله السابقة، خصص بنكراد الفصلين السابع والثامن لتقديم دراسات تحليلية وملاحظات تطبيقية، حيث يقدم في الأول ملاحظات عامة حول رسوم الكتاب المدرسي (رحاب اللغة العربية/ القسم السادس ابتدائي، مرشدي في اللغة العربية/ السنة الثانية ابتدائي والقسم الخامس ابتدائي، إلخ). في حين، يقدم دراسة تحليلية، في الفصل الأخير، حول تمثيل المرأة في الصورة الإشهارية، متوقفا عن تصورات وتقنيات تشكيلها ونتائجها وأبعادها الإنجازية، إلخ.
هكذا، فإن المؤلف سعيد بنكراد يقدم، من خلال هذا العمل، معرفة نظرية وملاحظات تحليلية وأخرى تطبيقية حول الصورة؛ مفهومها وأبعادها وأنساقها الثقافية وتمثيلاتها وتقنياتها وأبعادها البصرية وغاياتها الدلالية، بما يقتضيه ذلك كذلك من دراسة لجماليتها وفنيتها وإبداعيتها. فبقدر ما يغتني هذا العمل بما يمتحه من أسس نظرية حول الصورة وسيميائياتها (ريجيس دوبري، رولان بارث، أمبرتو إيكو، غي غوتيي، غريماص، كاندينسكي، إلخ)، فإنه يشيد ممرا نحو فهم عوالم الصورة ودلالاتها المختلفة. إذ يمثل هذا الكتاب مشروعا فكريا ونقديا متميزا في هذا المجال الذي يفرض نفسه بقوة على العالم بأسره، خاصة أن السُّنُد والحوامل والوسائط التكنولوجية الجديدة ساعدت على تعميمه، بل وإحداث تحولات جذرية في طرائق اشتغاله وفهم تجلياته. ولعل هذه التحولات هي التي دفعت بنكراد إلى الاهتمام بالصورة، حيث يعمل على دراستها من زاوية السيميائيات، وربما، يكون في ذلك دافعا لدراستها من زوايا أخرى، لمعرفة تأثيرها الحقيقي على مستوى التلقي والتمثل.