الهويدر .. قريتي. ١/ ٢
قرية الهويدر التي ولدت فيها وقضيت ثلث عمري، الذي تجاوز الستين بين درابينها الطينية وعلى تخوت مقاهيها العتيقة وبين أهلها، هاجرتها مجبراً، لكنها لم تفك عني رغم مرور تلك السنيين في المهجر، وما زالت تعيش في تفاصيل حياتي اليومية في عطر الذكرى والناس والدربونه والنهر والمقهى والارهاصات، حيث لا يمر يوماً إلا ويهاجمني شريط الذكريات عن طيبة ناسها ورائحة قداحها وطينة نهرها ومياهه الرقراقة الزلال ولمعة النحاس للون المشاريب على أكتاف نسائها وهن عائدات من شريعة نهر ديالى محملات بمشاريب المياه وملفحات بتلك العباءات السود.
شريط الذكريات يمر بي الى عتبة بيت تلو عتبة وسحنات وجوه ساكنيه وطيبتهم ومميزاتهم وأسمائهم، أواصل حلمي الى كل دربونه وعكد، بدءاً من القلعة الى الدوزة الى منطقة الحمام أميل يساراً الى دكان أبي المجاور الى باب الحمام الاهلي الجانبي مدخل سيدات وشابات الهويدر المبجلات بالخجل والجمال الهويدراوي , يطوف بي تلك الحلم الى بيتنا العتيق الفاصل بين عكديين الحميدية والجبان، أهيم بحنين بين بيوت الحميدية ويلفعني نسيم هواء بستان أم الهري الى فروع أم البنات عابراً الى درابين الممدية وذكرى صديقي الشهيد ثامر البغدادي في المطلاع ، وصولاً الى فروع الجرد والفضوة ومروراً بمنطقة الجامع ومقهى كامل السعدي ( أبو عيسى ) ، الى الشيخ دكل وإطلالة شريعة نهر ديالى والعبور بالكفه الى قرية السبتية .
تلك الذكريات قفزت الى ذهني، حالما مسكت يدي تلك الكتاب وقبل تصفحه والنظر الى دفتيه، صورة الغلاف أبكتني بذلك الماضي العتيق من خزين طفولة وذكرى ومسيرة (الهويدر قرية الالف لقب والالف شهيد ) .
الهويدر : قرية قديمة وعريقة ومهمة تقع شمال مدينة بعقوبة مركز محافظة ديالى بمسافة خمسة كيلو مترات بطريق مبلط . وقد أنشأت هذه القرية سنة ١٩١٠ ميلادية، وقد اختلفت التسميات حولها ما بين أصل فارسي مأخوذ من (هودار) أي مجمع الهواء، وقيل أن أسمها تركي جاء من الهواء العذب وروي عن البعض أن أصل أسمها يعود الى كلمة (هودرو) ، عندما مر الإمام علي أبن أبي طالب بجيش جرار فيها، وخاطب جيشه أن يهودروا في أحدى بساتين القرية تسمى ( مال كاوري ) ، طلباً للراحة والآمان والتي تطل مباشرة على نهر ديالى مقابل مدينة بعقوبة الحديثة ( بعقوبة الجديدة / خان الوالوه سابقا ) ، في الجهة الثانية من نهر ديالى . وقبل خروجي بسنوات من القرية، كانت بستان ( مال كاوري ) وشاطئها الجميل ملتقانا اليومي مع الصديق عدنان الانصاري وفي مشهد سحر اختفاء ضوء الشمس من على ضفاف الشاطئ تجرنا الاحاديث ببطء الى الافراح والاوجاع والمعاناة في عراق مقبل على تداعيات خطيرة .
وهذه القرية كانت قد تكونت بسبب عوامل الطمي التي حصلت لنهر ديالى بعد أن تغير مجراه، وهي عامرة بالبساتين ومزارع البرتقال والرمان والتمور بأنواعه المختلفة وكانت حمضيات قرية الهويدر مضرباً لأمثال الطراوة ولذة طعم برتقالها، ونظراً لهذه المكانة في جزيئات الاقتصاد العراقي ، أستضاف المرحوم كامل الدباغ في برنامجه الشهير ( العلم للجميع ) من كل يوم أربعاء مساءاً على قناة العراق الرسمية أحد مزارعين القرية المرحوم ( أبو علي ) ليتحدث عن عدد أنواع وأصناف البرتقال في بساتين القرية وبجهود من مزارعيها في تطوير عدة أنواع من خلال القاح والتطعيم . في السنوات الاخيرة باتت محاصيل القرية تعاني من مشاكل متعددة أبرزها الاهمال والتقصير بعدم مكافحة الآفات الزراعية وشحة المياه من خلال عدم جدولته وتنظيم سيره في جداول الأنهر الساقية، فأضطر العديد من الفلاحين الى تجريف المئات من الدونمات وتحويلها الى أراضي سكنية بسبب العوامل التي ذكرناها أدت الى تراجع في الانتاج الزراعي وعدم جدواه المادي.
وكان للعنف الطائفي بعد احتلال العراق أيضاً أثره السلبي على الانتاج، حيث تعرضت العديد من البساتين الى العطش وانقطاع مياه عنها، أضافة الى كثرة الأوبئة والامراض التي أصابت أشجار الحمضيات.
قرية الهويدر : تصلح أن تكون مصيف سياحي تستقطب السواح لطبيعة جوها وموقعها الجغرافي وسط مياه نهر عذب ومحاطة ببساتين النخيل والحمضيات ، وأن الشاعر المعروف ( الملا عبود الكرخي ) ، ذكر في أحدى قصائده الشعبية برتقال الهويدر . وقد زارها فيصل الأول ملك العراق وحظي باستقبال أهلها تقليداً للأعراف الاجتماعية في الهويدر في احترام الزائرين والحفاوة بالضيوف زوارها التقليدين أو المارين على مقاهيها ومطاعمها هم ضيوف على أهالي القرية، وهذا تقليد توارث عبر سنيين قيامها، وعندما يجلس الضيف على تخوت القرية وبدون معرفة سابقة ويطلب ( شاي ) ، ينادي أحد الجالسين القريبين منه كلمة ( وره ) ، بمعنى حسابه واصل ، وحتى الذي قام بهذه الخطوة و اذا كان لم يمتلك فلساً فعلى مالك المقهى يتحمل ( وره ) أبن قريته .
في العام ١٩٨٣ وعندما أجبرتني الظروف على ترك القرية وأهلها الطيبين، كانت القرية تحتوي على قرابة ١٢٠٠ بيت ويبلغ عدد سكانها نحو ثمانية الاف نسمه جلهم من العرب لهم تقاليدهم العشائرية وعاداتهم الاجتماعية وخاصة في الشعائر الدينية أيام محرم عاشوراء.
الهويدر : تعد قرية صغيرة حصرها نهر ديالى بمنفذ وحيد يربطك بمركز المدينة وقد تبدو للمشاهد كجزيرة وسط المياه ومحاطة بكثافة البساتين . وقد أستغل الارهابيين نتاج الاحتلال والعملية الطائفية في استغلال هذا المنفذ الوحيد للقرية في تنفيذ أعمالهم الارهابية تجاه أهالي القرية من قتل وقصف وحصار، وراح ضحيته أبن أخي المرحوم باسم (نوار) بعمر ١٧ عاماً متصدياً بصدره البريء الرصاص الغادر تجاه أهالي قريته.
وتعرضت القرية وأهاليها الى عمليين إرهابيين بطرق السيارات المفخخة أودت بحياة شريحة واسعة من أهالي القرية ظلماً وعدواناً، وطيلة قيام القرية تعرضت الى أكثر من مرة الى تدمير طبيعي أثر فيضانات نهر ديالى، لكن بقيت ملامحها طاغية ومعالمها واضحة وحافظت على تكوينها الطبيعي (القروي) رغم الخراب الذي أصابها من أثر الفيضانات وهجمات النحر الطائفي.
تمسك أغلب الهويدراويون بطابعهم الشيعي الحاد والذي وصل أحياناً الى مستوى التقوقع في أيام الحرب الطائفية رغم قرب القرية من المركز بعقوبة امتازت قرية الهويدر بالزراعة ونخيلها المتميز وجمال طبيعتها وصفاء نهرها وطيبة أهلها . وخرجت القرية رموز أدبية وسياسية تركوا بصماتهم على مكانة القرية أمثال طلعت الشيباني وزير اقتصاد حكومة ١٤ تموز ١٩٥٨ أول حكومة وطنية في العراق، وأيضا خزعل علي السعدي القائد العسكري والسياسي، وعلي عباس ططو عالم عراقي قتل في ظروف غامضة والشاعر أحمد حسين البياتي وأخرون تكاد تكون نسبة اللامية ضئيلة جداً عام ١٩٨٠ أقدم النظام العراقي على جريمة كبيرة، سادتها أجواء الرعب والحيف الذي لحق بالناس، ففي جو إرهابي أقدم على تهجير ما يقارب ١٥٠ مواطناً قروياً الى الجارة إيران بحجة التبعية الايرانية استعداداً للحرب القادمة والتي طالت ٨ سنوات حرقت اليابس والأخضر ، ومن أجل تصفية حساباته وخلافاته السياسية والدفاع عن البوابة الشرقية ، فكان العدد الاكبر منهم ينتمون الى العراق وحاملي الجنسية العراقية القديمة ومنهم وليس قليلاً من أعمدة النظام في القرية ، هجروهم قسراً بعد أن اختطفوا شبابهم من ذويهم وغيبوهم في غياهب السجون ، فقد هجروهم بعد أن جردوهم من كل ممتلكاتهم الشخصية وأفذاذ أكبادهم ، البعض من هول الصدمة ماتوا على الحدود حنيناً للعراق وأهله ، في هذه الاجواء المربكة والصعبة هب أهالي القرية لشراء ما تركوه من بيوت وبساتين وباتفاق الجميع لتكون أمانة عند عودتهم ، وفعلا عادت بعد عودتهم مع رحيل الدكتاتورية عن المشهد السياسي العراقي ومجيء الاسلام السياسي المتخلف تحت حراب الامريكان . في العام ١٩٨٨ وصلت الى إيران (طهران/ قم/ مشهد) ، بعد أن نجوت بأعجوبة من أخر أنفال حكومي سبق قرار أيقاف الحرب العراقية الايرانية ، والتقيت ببعض العوائل من أهالي القرية ، الذين هجروا وجدتهم يتلوون حنيناً للعراق وأهالي قريتهم ويذرفون الدموع على تلك السنوات , ولفت انتباهي خطوة النظام الغبية أن أبناء العديد من تلك العوائل قد انخرطوا في التنظيمات والمليشيات التي تقاتل مع الجيش الايراني ضد العراق ، صدام حسين ونظامه أعطى للإيرانيين قوة عسكرية ضاربة جراء همجيته المدمرة والبعض منهم عادوا في حكم العراق بعد احتلاله ورحيل النظام . وقد سبق هذا الفعل الهمجي حملات اعتقال واسعة في العراق شملت تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي والتفريط بالجبهة وتنظيمات حزب الدعوة وعناصر القوى القومية ورفاقهم في مجزرة قاعة الخلد عام ١٩٧٩ للتفرد في الساحة السياسية العراقية وتكريساً لعقدة الحزب الواحد.