الحلقة الخامسة عشرة: نظرات في كتاب “مقالة في السفالة” للدكتور فالح مهدي
الحزب الشيوعي العراق
ابتداءً أود أن أشير إلى عددٍ من الملاحظات المهمة قبل الخوض في تفاصيل التعليق على ما كتبه الدكتور فالح مهدي بشأن الحزب الشيوعي العراقي.
- في هذه المقالة أعبر عن وجهة نظري الشخصية البحتة، والحزب الشيوعي العراقي هو القادر على مناقشة ما جاء من انتقادات وأحكام قاطعة بشأن الحزب الشيوعي العراقي والموقف منه ومن قادته. وأتمنى عليه أن يفعل ذلك.
- في هذه المقالة سأعلق على ما جاء في كتاب “مقالة في السفالة” بشأن الحزب الشيوعي العراقي وفي أكثر من مكان، وعن الصيغة التي جرى التعبير عنها وأهمية ما ورد من نقد، وما هو صحيح أو غلط، كما أرى.
- كما سأتناول ما ذكره عن الرفيق الفقيد عزيز محمد من نقد جارح، بسبب ما نقل له عنه، وفي هذا أعبر عن رأيي الشخصي أيضاً.
- لست ممن يرفض النقد من أي إنسان يرغب في ممارسته وبالطريقة التي يراها مناسبة، فهذا حق مطلق تضمنه لوائح ومواثيق وعهود حقوق الإنسان، وكذلك الدستور العراقي، رغم العلل والاختلالات التي يحملها هذا الدستور. ولهذا لا اعتراض لي على ممارسة النقد حتى أشده، فأنا أمارسه مع نفسي وإزاء غيري أيضاً، ولكن ما هو مرفوض هو أسلوب التهجم والإساءة، مع عدم اليقين في قضايا معينة ودون إيراد براهين تؤكد ذلك، ونحن بصدد كتاب يصدر عن عالم وأكاديمي محترم، مما يتطلب من القراء والقارئات التفكير والتمعن.
- في كتاب “مقالة في السفالة” يتحدث الكاتب فالح مهدي عن العنف لا بصيغة التعذيب الجسدي والنفسي فحسب، بل التعذيب بمعناه الأوسع والأعم والأشمل، بصيغه المختلفة والمتنوعة، ومنها عنف اللغة والكلمات. وهو محق بذلك، ويتجلى في كتاب موسوعة العذاب لعبود الشالجي أو في كتابي الاستبداد والقسوة في العراق. وعند قراءتي النصوص التي كتبها الزميل فالح مهدي عن الحزب الشيوعي العراقي وعن الكتب التي قرأها واقتبس منها والتي وجهت التهم للحزب الشيوعي بالعمالة مثل كتاب طارق إسماعيل نهوض وسقوط الحزب الشيوعي العراقي، تعبر عن عنف اللغة والكلمة والتي رفضها وأدانها الدكتور فالح مهدي نفسه بحق في كتابه الذي أُعلق عليه، وكم كنت أتمنى عليه أن يتجنب هذه اللغة القاسية لتبدوا كتاباته بصدد الحزب أكثر موضوعية وأكثر قبولاً، لأهمية جملة من الانتقادات الصائبة التي تضيع بسبب أسلوب النقد.
- كل الأخطاء التي ارتكبها الحزب الشيوعي العراقي في خضم النضال والعمل السياسي، وأينما كان موقعي في الحزب، فأنا مسؤول عنها، ولاسيما حين كنت عضواً في اللجنة المركزية ومكتبها السياسي، إذ من العيب المشين وعدم المصداقية أن أنأى بنفسي عنها، وبغض النظر عن مدى تأييدي أو اعتراضي على هذه الفكرة أو القضية أو الموقف أو عموم السياسة.
لقد قضيت في الحزب الشيوعي العراقي جل شبابي والكثير من سنوات عمري، وعشت، كمواطن مخضرم، العهود الملكية والعهود الجمهورية الخمسة ومازالت أواصل العيش في العهد الجمهوري الخامس الذي، من سوء حظي أن أعيش كوارثه ومآسيه، والذي استُبيح فيه الوطن والشعب كله، أستُبيح بنظام سياسي طائفي-محاصصي-فاسد وإرهابي من قمة النظام إلى أسفله. تعلمت من الحزب وفيه الكثير، تعلمت منه حب الشعب وحب الوطن والوفاء لهما والدفاع عنهما وعن مصالحهما، تعلمت منه الصدق والوفاء وعزة النفس والكرامة والصمود والتضامن مع الناس الآخرين والشعوب الأخرى. ومنه تعلمت كره العنصرية والفاشية والطائفية والتمييز بكل أشكاله، ولاسيما ضد المرأة، فهي الأم والأخت والزوجة والبنت والعمة والخالة والمواطنة الشريفة والمعين الذي لا ينضب للبرية جمعاء. وفيه تعلمت ضرورة التعلم من الشعب والإصغاء إليه وعدم تجاوز إرادته وعدم التفريط برفاقه في العملية النضالية، رغم القبول بالموت حين يكون لا بد منه أو الاستعداد للموت في سبيل قضية الشعب العادلة والوطن والمبادئ التي يحملها الفرد.
ولكني تعلمت منه ومن الحياة ذاتها أيضاً من أن الحزب، وأي حزب، يمكن أن يرتكب أخطاءً ما دام الحزب يعمل ويناضل، ولكن عليه أن يعترف بها حين يرتكبها وعلى الَّا يكررها ثانية وثالثة، إذ إن الشعب له في ذلك حكمته البسيطة القائلة “المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين”. ولهذا كنت أحاول ممارسة النقد مع نفسي وفي خلواتي الشخصية، أو مع غيري، وفي عملي اليومي في الحزب أو في الحياة العامة. وتعلمت من دراساتي الخاصة من أن مستوى وعي القيادات بشكل عام هو من مستوى وعي الحزب كله أولاً، وكلاهما من مستوى وعي المجتمع ثانياً، ومن واقع الدولة وطبيعتها ونهجها وسياساتها ومستوى الحرية والديمقراطية السائدة أو الظلم والاضطهاد والقسوة أو الاستبداد التي تمارس في البلاد ثالثاً. ومن قرأ لي في كتابنا المشترك مع الرفيق الفقيد د. زهدي الداوودي، الموسوم “فهد والحركة الوطنية في العراق” والموضوعية التي حاولنا العمل بموجبها وإشارتنا إلى خصائص فهد الإيجابية منها والسلبية، وعن أسلوب تفكيره وعمله الستاليني وعن الرؤية الستالينية في عموم الحزب الشيوعي العراقي في فترة الرفيق فهد وما بعدها ولفترة غير قصيرة، يستطيع أن يقدر بأني لم ولن أتردد عن النقد حين يكون ضرورياً. إن ظاهرة الستالينية لم تقتصر في تأثيرها على الحزب الشيوعي العراقي بل شملت الحركة الشيوعية للأممية الثالثة كلها وفي كل بلدان العالم تقريباً، أو حيثما وجد حزب شيوعي يرتبط بالأممية الثالثة. لقد ابتلت الأحزاب الشيوعية بمرض خبيب هو الستالينية والبيروقراطية والابتعاد عن الديمقراطية بذريعة الديمقراطية الشعبية والتراجع عن العدالة الاجتماعية. وقد شخصت المفكرة المميزة والبارزة والماركسية الألمانية روزا لكسمبورغ في كراسها الذي كتبته في السجن في العام 1919 وقبل اغتيالها والموسوم “الثورة الروسية”، عن مجموعة من تلك العلل التي ابتلت بها كل الأحزاب الشيوعية، ومنها التصور بامتلاك الحق والحقيقة كلها، أو الادعاء بتمثيل الطبقة العاملة، في حين المفروض أن نشير إلى سعينا للتعبير عن مصالح الطبقة العاملة.. إلخ.
في رسالتي التي وجهتها إلى رفاق الحزب الشيوعي العراقي في المؤتمر الثامن للحزب الذي عقد في عام 2006، والتي نشرت على نطاق واسع، وكذلك المقالات التي أكتبها بهذا الصدد، حاولت تشخيص جملة من الظواهر السلبية التي ما يزال بعضها موجوداً حتى اليوم والتي يفترض العمل على التخلص منها من خلال الحزب ذاته وبمساعدة من يمكنهم تقديم النقد المناسب بما يساعد على تحقيق التغيير المنشود. وحين أعود إل هذه الرسالة أجد إنها ماتزال صالحة ف نقدها وفيما طرحته من مقترحات للعمل.
كتب الأستاذ الدكتور فالح مهدي في بداية مقالته عن الحزب الشيوعي العراق ما يلي:
“الحزب الشيوعي العراقي أحد أقدم الأحزاب السياسية في العراق، بل أعرق حزب في الوقت الراهن، لا بل هو الحزب الوحيد الذي يستحق لقب حزب بجدارة. تأسس في عام 1934 وساهم مساهمة فعالة في الحراك الوطني في الفترة الملكية، وأصبح حزب الجماهر، وساهم بإيجاد وعي ثقافي، فهو من كبار المساهمين في نشر الثقافة في بلد لم يخرج من طور الرضاعة، بعد أربعة قرون من الدمار العثماني”، ثم يقول في موقع آخر: “هذا الإطراء لا يعفني أبداً من نقد تلك المسيرة الطويلة، ليس بدافع التجني والتشهير، وليس بدافع الكراهية والضغينة، إنما لوضع الأمور في نصابها، كما أراها وكما يمليها عليَّ ضميري.” (مهدي، الكتاب، ص 190/191). ما جاء في الجزء الأول اعتبره تقييماً صادقاً وصائباً لدور الحزب الشيوعي في عملية التنوير الاجتماعي والثقافي والسياسي في البلاد، ولم يبق من تلك الأحزاب التي ظهرت بالثلاثينيات غير الحزب الشيوعي العراقي الذي قاوم طيلة 85 عاماً بالتمام والكمال، وهو قد وجد ليبقى كما أرى. وفي الجزء الثاني مما نقلته عن الصديق الدكتور فالح مهدي، أشير إلى أن ليس هناك من يطلب من أي كاتب ألَّا يكتب نقداً يتجاوز به ضميره بأي حال، بل إن النقد لمثل هذا الحزب العتيد ضروري وملح، إذ في ذلك خدمة للحزب ذاته لكي يرى كيف ينظر الكتاب والنقاد إلى مسيرته السياسية، كما إن النقد يعتبر مشعلاً ينير درب الآخرين إن كان موضوعياً، هادفاً وموثقاً. ووظيفة النقد السياسي والاجتماعي ليست غاية بذاتها، بل هي من حيث المبدأ وسيلة لمساعدة هذا الحزب او ذاك للتخلص من أخطاءه وتجاوزها وعدم تكرارها، وبالتالي فهي ليست للانتقام من هذا الحزب أو الإساءة له، إذ لم نجد في العراق حزباً صمد طيلة تلك الفترات وبقي واقفاً رغم الكثير من الهزات العنيفة والأخطاء الشديدة، وبعضها حتى الآن، واستمر في العمل السياسي، كما حصل مع الحزب الشيوعي العراقي. الملاحظات النقدية التي وجهها الباحث الدكتور فالح مهدي تتوزع على عدة مجالات سأتناولها بالتفصيل تقريباً، وأملي أن أوفق في إعطاء الأجوبة المطلوبة والموضوعية، كما أراها بعد مرور ما يقرب من 66 عاماً على أول انتماء لي للحزب الشيوعي العراقي وأكثر من 70 عاماً في الحركة الطلابية والسياسية العراقية، دون أن يتحمل الحزب الشيوعي العراقي أو أي شخص أخر المسؤولية عن إجاباتي وأرائي. والنقاط هي:
أولاً: الحزب الشيوعي والموقف من نهج الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي؛ ثانياً: الحزب الشيوعي ووعي الواقع العراقي على امتداد الفترات المنصرمة؛ ثالثاً: هل الحزب الشيوعي انتهازي، وهل هناك طبقة عاملة وفلاحين في العراق؛ رابعاً: أكردة الحزب الشيوعي العراقي والقيادات الهزيلة وعزيز محمد؛ سأتناول هذه المسائل في عدة حلقات قادمة، لأهميتها وضرورة خوض الحوار الفكري والنقاش السياسي بشأنها لأهميتها للوقت الحاضر وللمستقبل.