آخر اعترافات شهرزاد
أستعيذ بالحكاية منك، أنت أجمل أوجاعي وأبهاها، غربتي التي تقتات من وريد ظمئي، رعشة الليل التي تجثم على صدري، ولا أطيق الشفاء منها.
أستعيذ بالحكاية منك، فأنا شهرزاد القصة الباهتة التي تسير في نهايات متشعبة، بعد أن كانت بدايتها مقصلة لروح الأسماء والأصوات.
تزورني عرافة الليل، تقدح شرارة الخوف في صدري، تلوك صمتي وتبصقه عقيقة صبر، وتخبرني ..بأنه من حاول فك تعويذة الغياب عن كلأ ليلي…مفقود..مفقود..مفقود، وتتركني بعد أن تلملم براعم الوسن عن رموش عيني حتى آخرها، وحيدة في صحراء الأرق الموحش.
الكل في غياب..حتى أحلامي، راودتها التعويذة إياها عن حضورها، فضاعت في دروب لا تصل بها إلي.
سأصدقك القول:
لم أعد أريدك، فقط إترك لي كتفك ألقي عليه رأسي في المساءات الباردة، بينما أنا أحتسي فنجاناً ساخناً من الشاي، وأشاهد فيلماً غير مترجم، تطغى على أحداثه الصورالمتلاحقة في رأسي، فلا ألقي بالاً إلى الخاتمة المفاجئة، وينتهي الفيلم دون أن أنتبه إلى ذلك فعلاً.
لم أعد أريدك، فقط دع لي ذراعك أتوسدها لأتخلص من لعنة الأرق الذي يلاحقني خطوة بخطوة، كأنه عاشق آثم يلاحق امرأة متزوجة، ويتوارى خوفاً عندما يراها تتوسد ذراع زوجها، وتغفو ملأ أهدابها مشاكسة ساعات الليل، تلك التي شاكستها طويلاً من قبل، دون أن تلقي بالاً إلى خفافيش الظلام المستيقظة حتى الصباح.
لم أعد أريدك، فقط دع لي صوتك يسحق الصمت الذي يحيق بي، يترصد خطواتي، يهاجمني كالإعصار، ويترك بي ندبة تجرني نحو الموت جراً، قبل حتى أن أرتدي الثوب الملائم لهيبة الموت.
دع أيضا وشماً من دفء جلدك على أطراف أصابعي، لتمنحني إطمئناناً زائفاً في الليالي الباردة، أواجه فيه كوانين وحدتي ووجعي.
واترك شيئاً من رائحتك على مخدتي، لتصبح أحلامي أجمل.
هل تدري؟ أستطيع أن أتمزق دون صوت، أتحول إلى شظايا إنسان دون أن ينتبه أحد إلى ذلك، تلك موهبة منيت بها وحدي، وكل برامج المواهب التي تطالعني على شاشة التلفاز، لا تعترف بتفردي|تفردها، إذ ليس بالإمكان رصد حالة من التشظي لا يظهر منها على السطح شيئاً.
نحن مرهونون بأبصارنا، القدرة المحدودة على رؤية الأشياء، بينما تنعم بصائرنا بغفوة عميقة.
أحتاج بصيرتك لتشعر بي، فكيف أوقظها؟ كيف أشعل بها فتيل الحياة لتعود إليك أو إلي؟
في هذه اللحظة تحديداً تهاجمني الدموع كما لا ينبغي لها، أنا التي أعرف جيداً كيف أحبسها، أغلق عليها السبل لئلا أنفضح بها، حسناَ…سأعلن استسلامي الكامل للدموع، لا بأس ببعض البكاء، هذا وقت للمتعبين فقط، لمن تشقق قلبه صمتاً، للورود التي تذبل دون صوت، للريح التي تتساقط على عتبات غابات منسية، للشجرة الراسخة في وجه الشتاء، لقلبي الذي يقاوم السقوط، فيموت واقفاً كل مساء.
للحكاية أحكامها الصارمة، ولن يكون في وسعي أن أغير من مسارها، حتى وأنا أمحو آخر كلماتي لئلا تدينني الحكاية.
مدانة أنا بصمتي، بالسلام الذي يصاحبني، بضعفي، بعجزي، بكل ما أنا عليه من هدوء وسكينة.
لا أدري لماذا تجبرك الحكاية على إظهار مخالبك؟ ولماذا يجب أن أدافع عن نفسي أمام من أحب؟ وأنا التي أؤمن بأنه ملاذي، وبيتي، ووطني، وبأنه خط دفاعي الأول والأخير والوحيد من انتكاسات الحكاية.
كيف ينمو انتماء بهذا الصدق والعمق، لوطن لم يهبك يوماً إلا انتكاساته، لم يظلك بظله، لم يمنحك حنينه، وضن عليك حتى بكلمة حب، بلمسة حانية، برائحة الياسمين تنعش ذاكرتك المثقوبة، بينما كنت تعاني طقوس الإنشطار وحدك، بين ما تحب، وما تريد.
كل ما أعرفه أن الحكاية تسخر مني، تضعني في مواقف غريبة، وتهزأ من الدهشة التي تعتريني أمام كل ما يحدث، وتصرخ بي : كم أنت ساذجة يا صديقتي…كم أنت ساذجة.
أنا لست ساذجة، لكنه قلبي…قلبي الذي نسيت أمي أن تمنحه بركة دعاءها لكي ينمو، ويترعرع، وينضج كأقرانه، فبقي طفلاً يلملم الياسمينات الواقعة تحت أغصانها، لئلا تدوسها أقدام المارة دون انتباه لصراخها المحموم وهي ُتسحق دون رحمة.
في النهاية، بدأت أدرك أنه لم يعد لدي ما أخسره، وأنه بامكاني أن أقدم على الموت بصدر مفتوح، وذراعين ممدودتين عن آخرهما، فقط لأنه لا شيء لدي أخاف أن أفقده، فقد فقدت كل شيء منذ وقت بعيد.
بدأت أعتاد الصمت الذي يحيط بي كالموت.
التفاصيل التي أعيد ارتكابها كل يوم دون صوت.
للموت خصوصيته أيضاً، وقد يصبح ممتعاً عندما تدرك أنك لم تعد تخشى الفقد.
سأتركك وحيداً دون حكاية تملأ بتفاصيلها الندبات التي تركتها الهزيمة في قلبك.
الحكايا التي كانت – وبنية مسبقة اتخذتها بخبث- تمنعك من نسيان فعل الخيانة الذي طعن قلبك بسكين، فصرت تنتقم بعده من كل امرأة وضعها حظها العاثر بين يديك.
الكل خائن يا صديقي، كل منا ارتكب الخيانة بطريقة أو بأخرى، إلا أن أبشع أنواع الخيانة وأكثرها لؤماً، خيانة الوطن، انظر حولك جيداً، كيف ضاعت البلاد لولا الخونة؟ كيف تشرد الملايين لولا الكفوف المغمسة بالدم التي باعت الخبز والرصيف؟
ثمة قلب مصلوب على قارعة الوطن، هل هو قلبك ؟ هل هو قلبي؟
ثمة حظ عاثر تعثر بظله الأعمى فبقي جاثماً على الأرض لا ينوي الوقوف، هل هو حظك؟ أم حظي؟
ثمة شيء يحترق بين سطور الحكاية، لا تردعه علامة تعجب، ولا يطفئه السؤال.
هل كانت لخيانة امرأة وحدة أن تبرر لك قتلهن بالآلاف، هل كان لخيانة امرأة واحدة أن تغير مسار أمة بكاملها، وتجعلك خائناً لوطنك، وشعبك، ولي، وقبل أي شيء…لقلبك؟!!!
لا بأس يا سيدي، إذا كان لامرأة واحدة أن تشكلك كما شاء لها الغدر، أن تغير مسار الحكاية، أن تعدل تاريخ الوجع، أن تنتعل وجعك وتدوس به على كل شيء جميل، سيكون لي أن أهرب من متن هذه الحكاية، أن أشعل الصمت في منابت الحروف الخائفة، وأن أنزلق بأسرع ما أستطيع نحو الخاتمة، فأفتح أبوابها خلسة عن أعين الحراس والعسس، وأخرج من لعنة الخوف والانتظار، لأصنع حكايتي وحدي، حكاية لا شهريار فيها، ولا مسرور، ولا سيف ، ولا جلاد، حكاية يملؤها الفرح، وتلون مفرداتها السعادة.
كل ما يلزمني أن أتحايل على تلك النقطة اللعينة التي تقف في آخر السطر لتحرس الخاتمة، تبدو لوهلة تافهة، ولينة، لكنها الأقسى، والأشد صرامة بين كل الحواجز الأخرى، التي تقف بين جملة وجملة.
كل العلامات الأخرى استطعت أن أنساب عبرها، أتسلل دون صوت، وبقيت النقطة إياها، بوسعها وحدها أن تغير مسار القصة، لكنها لا تسمح لأحد بأن ينجو من فبضة حبسها تماماً قبل مكان وقوفها بخطوة.
في النهاية، هي مجرد نقطة، وأنا شهرزاد، فلمن يا سيدي باعتقادك تكون الغلبة؟!! وأنا أملك في اسمي من النقاط ما يكفي لمحو تلك النقطة اللعينة من الوجود؟ لمن؟!!!!!
وهل سيكون في وسعك أن تكمل الليالي بعد الألف…دون الحكاية، ودون الراوي؟!!!