رحلة إلى العراق.. بلاد البيان والبرهان والعرفان
عاش العراق في ظل نظام الرئيس صدام حسين (1979-2003) في ما يشبه العزلة عن محيطه العربي، على الرغم من ان ايديولوجية النظام الحاكم كانت القومية العربية في نسختها البعثية. كانت حروب النظام الصدامي وصراعاته المستمرة معجيرانه العرب والمسلمين ومساعيه الدائمة لإنشاء تنظيمات سياسية موالية له في جل البلدان العربية، تجعل أنظمة تلك الدول تتوجس منه خيفة، بما في ذلك أنظمة الدول البعيدة جغرافيا، فقد كان العائدون من بغداد الى تونس على سبيل المثال، وغالبيتهم من الطلبة الجامعيين،يخضعون بمجرد وصولهم الى مطار قرطاج الدولي للتحقيق والتفتيش والمراقبة، كما كانت تحركات السفارة العراقية فيتونس مرصودة من قبل المؤسسة الأمنية، على الرغم من بعض الود الذي كان قائما بين الرئيسين صدام حسين وزيّن العابدين بن علي، وبعض المساعدات التي قدّمتها بغداد للتونسيين، لعل أهمها تلك الكتب المدرسية المطبوعة على نفقة البلد الشقيق، ومبيتات جامعية، ومنح طلّابية.
وقد كان متوقعاً ان يفضي سقوط النظام البعثي بفعل التدخل العسكري الامريكي البريطاني سنة 2003، ان يرجع العراق الى محيطه العربي، وان يجعل من زيارة العراق بالنسبة للعرب عامة، والتونسيين خاصة، أمرًا دارجاً ومتاحاً وعاديا، لكن الأحوال طيلة السنوات الخمس عشرة الماضية لم تسر وفقاً لأمنيات المُحبّين في الضفّتين، بل لربّما زادت بعض الجدران ارتفاعا جرّاء متغيّرات العراق والمنطقة، فمنذ دخول الأمريكان الى بغداد في 9 افريل نيسان 2003، دخل العراق في سلسلة من الصراعات الداخلية والحروب الأهلية، انطلقت باقتتال طائفي على الهوية بين الشيعة والسنة، والعرب والكرد،وهو ما اقتضى إقامة منطقة خضراء معزولة في قلب عاصمة العبّاسيين، وفرض قيودا امنية شديدة التعقيد تحسبًا لعمليات التفجير الإرهابية التي أودت بارواح عشرات الآلاف من الأبرياء، وانتهت بالحرب على تنظيم “داعش” الدموي التخريبي الذي سيطر على مناطق واسعة شملت ما عرف بالمدن والمناطق السنية في العراق كالموصل والرمادي والانبار وغيرها، وهو ما كلّف العراقيين موارد بشرية ومادية كبيرة زادت من أوجاع بلاد الرافدين وخسائرها، وأربكت مسار التحول الديمقراطي في بغداد، كما عمّقت صورة البلاد غير المستقرة وغير الامنة، مما جعل زيارة العراق في نظر عامة الناس مغامرة حقيقية لا شيء يشجّع على الإقدام عليها غير تهوّرٍ غير محمود وتقدير غير صائب.
بغداد..على أثر الشيخ الثعالبي
شخصيا، أقدمت دون تردّد على زيارة عاصمة المنصور والرشيد ولم أندم، فقد لبّيت أول دعوة وجهت لي سنة 2007، وظللت ألّبي دعوات أصدقائي العراقيين منذ تلك الزيارة مرّة أو مرّتين في السنة، فصلتي بهذا البلد تتجاوز حدود الانتماء العربي والإسلامي الى ما هو روحي وعرفاني ومعنوي، في اتصال بنظرة موروثة مستقرّةٌ في أعماق الذات وأمانة حمّلهاللاجيال اللاحقة من التونسيين الآباء المؤسسون للحركة الوطنية والاصلاحية التونسية، حيث أوصى هؤلاء وفي مقدمتهم الشيخ عبد العزيز الثعالبي بحفظ دين العراق ومكانته في قلوب التونسيين، ذلك ان بغداد وفَّرت ملجأ آمنا ومشرفا لعدد من الزعماء الوطنيين من ضمنهم الشيخ الجليل الذي أقام في دار السلام ودارة المنصور من سنة 1926 الى سنة 1933،مدرّسا في جامعة ال البيت التي أسسها الملك فيصل الاول ثم مفتشاً في وزارة المعارف العراقية بعد إغلاق الجامعة ابوابها،وكان للثعالبي مجلس ادبي وعلمي ذائع الصيت في بغداد، يؤمه كبار القوم وعلماء البلد وأدبائها وشعرائها، ولا يبزّه في الاهمية الا مجلس العلامة الالوسي. واذكر انني ألقت محاضرة في احدى زياراتي العراقية في مجلس الشاعر والأديبالربيعي في حي الكرادة في العاصمة العراقية، عن مقام الشيخ عبد العزيز الثعالبي في بغداد أواخر عشرينيات القرن الماضي وأوائل ثلاثينياته، بحضور نخبة متميزة من المثقفين العراقيين، وجدت لديهم قبولاً واستحسانا.
ولم يكن الشيخ الثعالبي في مروره ببغداد نشازاً، فقد مرّ منها ايضا زعماء اخرون للحركة الوطنية التونسية، لعل أشهرهم في الأربعينيات الدكتور الحبيب ثامر الذي جاء اليها طلبا لدعمها مع رفيقه في قيادة الحزب الحر الدستوري الجديد يوسف الرويسي، ايام إقامتهم في القاهرة. وقد وجد القادة التونسيون دائما الحفاوة التي وجدتها شخصيا بعد اكثر من نصف قرن منذلك التاريخ، فالعراقيون يكنّون لأهل المغرب العربي محبّة خاصّة تعكس علاقة وثيقة تمتدّ على الأقل لما يقارب أربعة عشرة قرنا، اي منذ الاسلام المبكّر، عندما كانت البلاد المغاربية ملجأ الكثير من المعارضين، سواء للأمويين والعباسيين.
لقد كان مروري ببغداد خلال رحلتي العراقية الاخيرة التي امتدت لما يقارب الاسبوع بين 11 و16 مارس/آذار 2019،خاطفا لم يتجاوز اليوم الواحد، فقد كانت دعوتي هذه المرة من قبل مركز دراسات جامعة الكوفة، وكان لزاماً ان أخصص اغلب وقتي للأصدقاء هناك، لكن محدودية الزمان لم تحل دوني ولقاء بعضٍ من اهل البيان والبرهان والعرفان، ففي بغداد تتجاور رموز جميع المدارس الاسلامية، وفي احيائها مقامات هؤلاء جميعاً، الإمامان موسى الكاظم وحفيده الجواد عليهما السلام، والامام ابو حنيفة النعمان رضي الله عنه، وسيدي عبد القادر الجيلاني قدّس سرّه.
النجف..مدينة قُدَّت من كُتُبٍ
أقول دائما للأصدقاء إنَّ العراق في الجغرافيا العربية “طرفي” (من الأطراف) لكنّهُ في التاريخ العربي “مركزي” (من مركز)، فهو كما كان يصفه صدّام حسين وأدبيات النظام البعثي السابق “البوّابة الشرقية” للوطن العربي، لكنَّ الناظر في تاريخ الفرق والمذاهب والطوائف والأديان والمدارس الكبرى في الحكمة والدين والأدب والشعر والثقافة، سيجد ان مردّها ونشأتها وأصولها جميعها في العراق تقريبا، ففي حال الاسلام مثلا نجد ان الدعوة قد تأسست في مكة، وان الدولة قد تأسست في المدينة، وفي ما عدا ذلك من سنة وشيعة وخوارج ولغة وادب وشعر وحضارة ومدنية وفلسفة وترجمة وتصوّف وغيرها من تجلّيات الحضارة العربية الاسلامية قد تبلورت في العراق بمختلف وحواضره ومدنه، وسنجد نحن في تونس وفي سواها من بلاد العرب والمسلمين انّ لنا في
هذا البلد أثراً وان لهذا البلد أثرٌ فينا.
والنجف هي واحدة من أهم حواضر العراق، وفيها مرقد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي يعتبره أهلال سنّة والجماعة رابع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، بينما يعتبره الشيعة أوّل الأئمة ووصيّ الرسول محمد صلّى الله عليهوسلم، فهو عند الشيعة الاثنى عشرية الحلقة الاولى في سلسلة تضم اثني عشرة إماما هم كالآتي: علي، الحسن، الحسين،زين العابدين، الباقر، الصادق، الكاظم، الرضا، الجواد، الهادي، العسكري، المهدي. وهو عند الشيعة الإسماعيلية الحلقة الاولى في سلسلة تضم سبعة أئمة. والأئمة (ع) عند الشيعة بمختلف طوائفهم معصومون ومقدّسون، وهم اصحاب الولايةبعد الرسول (ص)، ولهذا تحظى مقاماتهم أو عتباتهم المشرّفة بعناية كبيرة لدى اتباعهم على مرِّ الأجيال، وقد نال العراق برأي شيعة أهل البيت الشرف الأكبر اذ اختاره الله مرقدا لستة من الأئمة المعصومين يتوزعون على أربعة مدن رئيسيةهي: النجف مرقد علي بن ابي طالب (ع) وكربلاء مرقد الحسين بن علي (ع) وبغداد مرقد موسى الكاظم بن جعفر الصادق(ع) وحفيده الجواد بن الرضا علي بن موسى (ع) و سامرّاء مرقد الهادي بن الجواد (ع) وابنه العسكري (ع). فيما يرقد بالبقيع بالمدينة المنوّرة أربعة أئمة في البقيع بالمدينة المنورة هم الحسن (ع) وزيّن العابدين (ع) والباقر (ع) وجعفر الصادق(ع) الذي يعدّ اهم علماء الاسلام وعلى يديه تتلمذ اثنان من كبار فقهاء اهل السنة هما ابو حنيفة النعمان ومالك بن انسرضي الله عنهما. ووحده الامام الرضا يرقد خارج العالم العربي، وتحديدا في مشهد عاصمة محافظة خرسان الايرانية الايرانية.
تشتهر النجف بحوزتها العلمية، حيث تعد الحوزة النجفية التي تأسست قبل عشرة قرون، مقرّ المرجعية الدينية الرئيسية لدى الشيعة المسلمين في مختلف أنحاء العالم، وحاضنة اهم مؤسسة علمية ودراسية، فمنها تخرّج اهم علماء الشيعة، والحياة تكاد تدور فيها حول امرين، اما زيارة مرقد الامام علي (ع) أو طلب العلم في حوزتها بمساجدها وجوامعها المتعددة، اين يجلس يوميا آلاف الطلاب على الارض للاستماع الى الدرس ونيل الإجازة ممن يلقيه.
في الأزقة المحيطة بالحرم العلوي، تنتشر محلات بيع الكتب، حتِى لتتخيّلن ان هذه المدينة قد قدّت من كتب اكثر ممن قدّت من حجر الطابوق ( نوع من الآجر الطيني يستعمله العراقيون في بناء منازلهم ومؤسساتهم.
الكوفة..مدرسة الفقه والتجديد
كانت دعوتي هذه المرّة للعراق ذات طابع علمي بحت، وذلك للمساهمة في أربع فعاليات ذات طابع أكاديمي وعلمي هي كمايلي:
- رئاسة الجلسة العلمية الاولى لمؤتمر حول دور المرجعية في بناء الانسان
- إلقاء محاضرة على طلبة الدكتوراه والماجستير في كلية الفقه بجامعة الكوفة حول “الاسلام الحضاري”
- المشاركة في ندوة علمية حول “نقد الأيديولوجيا الدينية” الى جانب الباحث العراقي المقيم في فرنسا الدكتور فالح مهدي
- إلقاء محاضرة حول ” التحول الديمقراطي في العالم العربي” في مؤسسة بقيع الكوفة للدراسات والبحوث التي يشرف عليها الصديق أ.د. صلاح الفرطوسي، وقد جرى تكريمي من قبل هذه المؤسسة الرائدة بعد الانتهاء من المحاضرة التيألقيت في جمع من الأساتذة الجامعيين من جامعتي الكوفة والانبار، ومجموعة كبيرة من النخب النجفية المعروفةبشغفها بالعلوم والآداب وإقبالها على مثل هذه الأنشطة، خصوصا اذا كان المساهم ضيفا حلِ على العراق.
ومن المعلومات التي لا بد من معرفتها، أن الكوفة كانت اول مدينة العربية إسلامية يتم تأسيسها، وقد اضحت اليوم ضاحية من ضواحي النجف التي كانت فيما سبق حيّاً يقع في اطراف الكوفة لكن مقام علي بن ابي طالب قلب المعادلة وجعل منالضاحية مدينة ومن المدينة ضاحية، تماما كما جرى بين طوس ومشهد بفعل مقام الامام الرضا (ع) ومرو وطهران.
في النجف، وعلى بعد أمتار فقط من الحرم العلوي، توجد مؤسسة آل كاشف الغطاء، وهم عائلة علمية نجفية عريقة، من أبنائها الشيخ حسين كاشف الغطاء الذي كان من أصدقاء الشيخ عبد العزيز الثعالبي، وكان معه في تنظيم المؤتمر الاسلاميالذي الذي انعقد في القدس سنة 1931 برعاية مفتي فلسطين آنذاك الحاج امين الحسيني وكان يهدف الى توعية المسلمينباهمية قضية فلسطين وخطر الحركة الصهيونية. وقد صَلَّى الشيخ كاشف الغطاء آنذاك بجميع الحضور من سنّة وشيعةتاكيدا على الوحدة الاسلامية. في باب المؤسسة وانا أودع اهلها والقائمين عليها، ذكرتهم بالصلة التي جمعت بين الشيخينالجليلين، وأخبرتهم انني من حملة أمانة الشيخ عبد العزيز الروحية والسياسية. وكم هي عامرة النجف بمثل هذه المؤسسات،ففي كل زقاق يُشّم الزائر ريحة العلوم والمعارف الطيّبة، ويلتقي أرواح علماء أجلاء وأدباء وشعراء وساسة ضربوا أمثلةفي خدمة الوطن والأمة والدين. مدينة يتوقّف التاريخ عند عتبة الراقد الأكبر في قلبها، وتبدو الجغرافيا راكعة عند بحرها،بحر النجف الذي يجاور مقبرتها الخاشعة بعدد المدفونين وعدد شواهد قبورها.
كربلاء..شهادة الحسين والعبّاس
كلّما رحلت إلى العراق، لا بدَّ من أن أمرَّ بكربلاء، ولست أدري لِما يحضرني باستمرار عند زيارتها ما قاله شاعر العرب الكبير نزار قبَّاني ” كل الارض كربلاء كل يوم عاشوراء”، ففي ارض العرب وعلى مرِّ أيامهم ثمّةَ نسخ تتكرر من مأساة الحسين (ع) وآل بيت النبّي (ص)، وإلى اليوم تتجدد صور الغدر والخيانة بين أبناء الوطن الواحد والامة الواحدة والدين الواحد، ضمن صراعات دموية لا تنتهي حول السلطة والمصالح وباسم الله والعقيدة، ولعل مصاب العراق، الذي فيه تشكلتروافد العقل العربي وبنيته، كما فصل في ذلك المفكر المغربي الكبير محمد عابد الجابري رحمه الله، البيان والعرفانوالبرهان، هو الأكبر والأفضع من جهة الدماء المسفوحة على ترابه والارواح التي زهقت في حروبه التي لا تكاد تنقطع حتى الساعة، فبقدر ما أنجبت ارض الرافدين من أنبياء وأئمة وأولياء وعلماء وفقهاء وحكماء وفلاسفة وأدباء وفنانينوشعراء، أنجبت طغاة ومستبدين وقتلة ومجرمين وأشقياء.
وكربلاء كما اشرت سلفاً، هي مرقد الامام الحسين (ع) الذي خرج قبل الف واربعمائة عام من المدينة المنورة بعد ان رفض مبايعة اليزيد بن معاوية بن ابي سفيان، وكانت نيته الالتحاق بأنصاره وانصار ابيه في الكوفة، لكن اليزيد تعقّب خطاه مصرّاعلى انتزاع البيعة منه بالقوة، وكانت المأساة التي تدمي قلوب المسلمين على مرِّ القرون، اذ تجرأ الخليفة الأموي الطاغيةعبر واليه في العراق على حفيد رسول الله فقتله وإخوته وبنيه وقلة قليلة من أنصاره، منكلا بجسده الشريف حيث فصلرأسه عن البدن وَاقتيدت نساء ال بيته أسيرات الى دمشق، وكانت هذه المذبحة المروعة نقطة سوداء ولعنة ظلماء تلاحقأصحابها، لكن للحسين (ع) محبّون ما يزالون يبكونه بحرقة ويزورون عتبته وعتبة أخيه العباس ولا يكفون، بينما يرقداليزيد في مكان مجهول لا بواكي له. وهكذا التاريخ فيه معارك يخوضها اهلها في الزمن ومعارك يخوضها أصحابها فيالتاريخ، وليس المنتصر في الزمن هو المنتصر في التاريخ، تماما كما يقال اليوم عن معركة الحسين بن علي (ع) الذيانتصر دمه على سيف اليزيد الغادر، مخلِّفا شعارًا لكل حرٍّ في العالم صيحته المجلجلة “هيهات منّا الذِّلَّة”.
في كربلاء ختمت رحلتي بالعرفان، بالسلام على الحسين وشقيقه العباس عليهما السلام، وغادرت بلدا غير كل البلدان، فيهعتبات لجميع الطوائف والأديان من مسلمين ومسيحيين ويهود وصابئة مندائيين وايزيديين، وهو بلد محمد مهدي الجواهريأمير البيان، وبلد الجيلاني سلطان بغداد ودولته الروحية ممتدة من الصين واليابان شرقا الى كاليفورنيا غرباً، وبلد بيت الحكمة والمأمون والمعتزلة والنسخ الاولى لكتب الفلاسفة اليونان، وبلد النبي ابراهيم صاحب الحنيفية التوحيدية واصلالموسوية والنصرانية والمحمدية.. فأي بلد هذا العراق الذي لا تكسر له عين.