لماذا يتوحش البشر .. حدث في مثل هذا اليوم
قرأنا في كتب علم النفس وعلم الإجرام، ثم في الفلسفة (افلاطون)، أن الشر متأصل في نفس الإنسان، وما يحول دون ظهور أعراض هذا الشر، هو خشية الإنسان من عواقب ما يفعل. وحتى في المجتمعات المتطورة تربوياً وبيئياً / اجتماعياً، لم تحل دون ظهور عنيف للعناصر الكامنة، ولهذا كانت ضرورة وجود الأجهزة المانعة للجريمة والمحاكم العقابية، والسجون كأدوات ردع، حتى في المجتمعات المتطورة، وهو أمر يبعث على التساؤل، فمثلاً في مجتمعات تبيح النشاط الجنسي حتى بأشكاله الشاذة، تجد الجرائم الجنسية بأرقام متصاعدة، من التحرش الجنسي حتى الاغتصاب، وحتى القتل بدوافع جنسية، فلماذا هذه الروح الاعتدائية في بلد يبيح الجنس ..؟
الشر الكامن في داخل الإنسان ولكنه تحت سيطرة قوى المجتمع المعنوية منها (الدين ــ الأخلاق ــ العيب ــ التقاليد العائلية)، ولكن هذه القوى في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة قد يتراجع نفوذ القيم المعنوية لدرجة كبيرة حتى تكاد تختفي. ولكن قوى المجتمع الانضباطية (القانون) من جهة أخرى قوية، بل وقوية جداً لتعوض عن اضمحلال القوى المعنوية العائلة والحلال والحرام والعيب …الخ.
الآن نعيش أيام أواسط تموز، والتاريخ يذكر بثورة 14 / تموز / 1058 وقد مر عليها 16 عاماً … ومن المؤكد أن الغالبية العظمى من أبناء الشعب العراقي ليسوا معاصرين لذلك الحدث الخطير، أما المعاصرين من أمثالنا، ممن فرحنا وهللنا في ذلك اليوم، ولكن المسنين والعقلاء من أهلنا ومعارفنا، أبدوا التشاؤم، وبعضهم لم يتوانى عن القول ” سترون عواقب فرحتكم هذه، وسوف يغرق هذا البلد بالمآسي “.
بالطبع لم يكن تفسير الشؤم سهلاً، وهي موضوعة معقدة لحد ما، ولكننا بعقل اليوم ندرك، أن ما حصل هو تدمير شامل لنظام دقيق منظم على أفضل ما يمكن، لبلد يسير بخطى منتظمة نحن التطور السياسي والاقتصادية والاجتماعي / الثقافي، وبالطبع مع وجود أخطاْ ولكنها ليست بالشيئ الذي يذكر قياساً إلى ما عايشناه فيما بعد. والقادمون الجدد (لا يسعني القول النظام الجديد) لم يكونوا يمتلكون من أمرهم سوى النوايا الحسنة، هذا إن أحسنا الظن بهم …!ولكنهم (القادمون) استثمروا فرحة وابتهاج الناس بالتغير على أمل أن التغير سوف يحسن أوضاعهم، وسذاجة السواد الأعظم الذي يعتقد أن في كل حركة حتماً هناك بركة، وقد أحتاج الأمر عقوداً طويلة لنتأكد أننا ” انضربنا بوري “، وأن حلمنا بالتقدم والاستقرار قد صودر إلى أمد لا يعرفه إلا الله، وسنمر بمراحل نصل في ختامها يشك بعضنا في بعضنا، وسيستعين الأجنبي ببعضنا لينكل أيما تنكيل بالبعض الآخر …
ولكن ما أريد هنا قوله، هو المصير المؤلم الذي جرى للعائلة الملكية الحاكمة، بطريقة لا يقبلها العقل ولا الضمير، ولا القوانين ولا الشرائع، ولا تقاليد القبائل الهمجية الآكلة للحوم البشر(اليوم قرأت تقريراً تفصيلياً مفزعاً لما جرى للعائلة الملكية). والبشر بعد أن يقتل خلال ثوان، لا يهم ما يحدث لجثمانه، فالجثمان هي وديعة لدى البشر، وكما يقول المثل ” لا يضر الشاة سلخها بعد الذبح ” ، ولكننا أمام تعليم ديني واجتماعي يقول ” إن إكرام الجثة بعد موتها هو الدفن “، ومن توفي في ذلك اليوم، مضى لدار حقه، ولكن ما سجلناه نحن على أنفسنا فضيع، دين بذمة ذاكرتنا لا ينسى ولا بعد مئات السنين.
منظر الرعاع وهم يسحبون الجثث في الشوارع، وينهال أزعر بين فينة وأخرى بضربة خنجر أو سكين على الأجساد المهترئة، أو يقطع منها عضواً، وقد فعلوا بجثة الأمير عبدالإله ونوري السعيد أفعالاً يندى لها جبين الإنسانية والأخلاق، واليوم عندما يفكر المرء بكامل وعيه عن الذي حدث .. سيصاب بالخجل، وأكثر من ذلك شعور بالذنب، حتى وإن لم يشارك فعلياً بالمجزرة .. هو نوع من مسؤولية مشتركة جمعية .. بالتكافل والتضامن .. وأني لأعتقد جازماً أن تلك الأرواح التي أزهقت وجرى التمثيل بها تطل علينا كل يوم نظرة أسف وعتاب وحزن .. لماذا ..؟
ما حدث لم يكن أمراً بسيطاً، بل له تأثيره العميق في نفسية المواطن، لابد أن نفعل الكثير، علماء ومفكروا ومثقفوا البلاد مدعون إلى وقفة إدانة للعنف الوحشي، إدانة لطريقة المعاتبة والمحاسبة الهمجية هذه، نحن شعب راق لنا عمقنا في التاريخ الإنساني، ونحن أول من سن القوانين في العالم، ونحن لدينا شريعة وتعاليم دينية سمحاء تحرم العدوان والاعتداء والقتل ” من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ” سورة المائدة 32″ وحديث الرسول (ص) ” لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم “.
لقد خلق الله الإنسان البشر مخلوقا ذكياً عاقلاً ميزه على سائر مخلوقاته وسخرها جميعاً لخدمة البشر ” لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ” ولكن البشر يستغل ذكاؤه وقواه في إيقاع الأذى، ومن الغريب أن الإنسان من المخلوقات النادرة التي تقتل من صنفها، لماذا سمحنا لحفنة من الغوغاء والجهلة والزعران، أن يسيطروا على الناس ويطلقوا مشاعر الوحشية والهمجية ولذة تجاوز القانون “الإلهي والوضعي ” ويقوم الناس بشكل جماعي بأعمال مخجلة من فتل وسرقة ونهب وتخريب … كيف حصل كل ذلك ولماذا …؟
أني لأجزم أننا كرجال قانون وعلم واجتماع، وكمفكرين ومثقفين وسياسيين، لم نتدارس الأمر بصورة دقيقة، بدليل أن ثقافة التخريب والتدمير ما تزال تسري في أعماقنا، (أعتقد بدرجات ليست عميقة جداً) وعندما يحدث من يجعلها تخرج ستشاهد أناس تعتقد أنهم محترمون وقد تحولوا إلى وحوش ضارية ..! وبتقدير أن الهمجية والوحشية الجماعية تقوم على أمران أساسيان :
- ضعف وانفلات القانون.
- سقوط فجائي (أو تدريجي) للقيم الاجتماعية (العيب والحرام)
أيها المفكرون والعلماء والمثقفون والسياسيون المحترمون، تعالوا لنؤسس ثقافة تدين إدانة مطلقة الثأر والانتقام وتصفية الآخر، إذا ارتقينا بفكرنا وممارستنا، سنرتقي أيضاً بأساليب العمل وهي الخطوة الأولى لتشييد مجتمعات راقية.