نقاط وجيزة عن غوركي
اطلعت على مقالة طريفة جدا بالروسية عنوانها – ( مئة حقيقة عن غوركي ) , مقالة ذكرّتني رأسا بالقول العربي الذكي والدقيق – ( ما قلّ ودلّ). تتضمن تلك المقالة مئة فقرة وجيزة ومختصرة جدا حول حياة غوركي وابداعه , وقد كتبها – كما هو واضح – متخصصون في تاريخ ومسيرة هذا الاديب الروسي الكبير , ووجدت في تلك المقالة وقائع وحقائق وآراء مختلفة ومتنوعة جدا, قسم منها يتناول وقائع معروفة عن غوركي ولكنها منسية الى حد ما ولم تعد مثيرة للقارئ رغم اهميتها, وقسم يرتبط بحياة غوركي وابداعه ولكنه يثير نقاشات عديدة ويتطلب اثباتات وبراهين و تحديد مصادر دقيقة حول ما ورد في تلك الوقائع , واود هنا ان استعرض للقارئ العربي بشكل عام بعض تلك الفقرات ليس الا , التي جاءت في هذه المقالة واعلق عليها من وجهة نظري , واظن , ان عرض تلك الفقرات ومناقشتها ربما سيكون مفيدا (وممتعا ايضا) للقارئ العربي , الذي يجب عليه – بلا شك – ان يطلع على آراء القراء و الباحثين الروس المعاصرين حول أديب مثل غوركي , وذلك لأن هذا الكاتب الروسي قريب جدا من اجواء القارئ العربي ونفسيته نتيجة عوامل آيديولوجية معروفة في مسيرة مجتمعاتنا العربية.
الوقائع الاولى في هذه الفقرات ( والتي أشرنا اليها في اعلاه على انها معروفة ولكن منسية ) تتمحور حول اسمه الحقيقي ( بيشكوف) , وانه اصبح يتيم الاب والام عندما كان عمره 11 سنة , وانه اضطر ان يمارس مختلف المهن , ومنها غسل الصحون في المطاعم , وان تعليمه يرتبط بمدرسة مهنية ليس الا , وان اسم (غوركي) الذي يعني ( المرّ) ظهر لاول مرة عام 1892 في احدى الصحف المحلية . بعد ذلك تأتي الفقرات التي نريد ان نتوقف عندها ونعلق عليها بشكل او بآخر , مثلا , ان غوركي كان يقرأ بسرعة 4 ألف كلمة في الدقيقة الواحدة , وهي معلومة جديدة لم يسبق لنا الاطلاع عليها , اذ انها ترتبط باتجاه جديد نسبيا يسمى – ( القراءة السريعة) ظهر في النصف الثاني من القرن العشرين (اي بعد وفاة غوركي عام 1936 ), ويخضع هذا الاتجاه لقوانين وقواعد وضوابط محددة وصارمة , ولا تشير تلك الفقرة الى مصدر هذه المعلومة الجديدة والطريفة عن غوركي . توجد فقرة تشير , الى ان دماغ غوركي تم انتزاعه بعد تشريحه وتم الاحتفاظ به لغرض دراسته لاحقا من قبل المختصين , ومن المعروف ان دماغ لينين خضع ايضا لمثل هذه العملية , وهي طريقة كانت متّبعة في الاتحاد السوفيتي , ولكنها لم تسفر عن نتائج عملية وعلمية واضحة , وقد تركوها بعد فترة .
هناك فقرة اخرى تثير النقاش( وخصوصا للقارئ العربي) حول علاقة غوركي بلينين, اذ تشير الى ان غوركي كان غالبا ما ينتقد سياسة لينين . ان المفهوم السائد في الوعي الاجتماعي العربي يؤكد على ان هناك تجانس هارموني بين افكار لينين وغوركي , وان كلاهما كانا يسعيان الى تحقيق هدف واحد وهو الثورة ( وهو رأي سوفيتي معروف ), ولكن هذه الفقرة تتناقض مع ذلك المفهوم . لا يوجد مصدر محدد ودقيق في تلك المقالة على ما جاء في الفقرة هذه , وعلى الرغم من ان القارئ العربي بعيد نسبيا عن الافكار المعاصرة السائدة في روسيا اليوم , الا ان هذا القارئ سيندهش من هذه الفقرة فعلا . ان العلاقة بين غوركي ولينين مسألة لم يتناولها الباحثون العرب بشكل متكامل , اما القارئ الروسي فلم يعد مهتما بها كما كان الامر في الاتحاد السوفيتي , واتمنى ان تسمح ظروفي بالعودة الى هذا الموضوع وكتابة اضاءة حوله , اذ انه لازال موضوعا مهمّا للقارئ العربي. هناك فقرة في تلك المقالة عن ستالين تقول , ان غوركي كان الكاتب المفضّل لستالين , وهي فقرة عامة جدا , اذ ان ستالين كان يتابع نتاجات الادباء السوفييت كافة , وتشير كل المصادر الروسية الى ان ستالين كان يرى في غوركي الكاتب الوحيد الذي يصلح ان يكون رئيسا لاتحاد الادباء السوفيت في حينه , والذي يمكن ان يوحدهم , وبشكل عام , فان علاقة غوركي وستالين تستحق ايضا كتابة خاصة وموسّعة . في ختام هذا العرض نود التوقف عند فقرة مهمة جاءت في تلك المقالة , وهي تخص مصطلح ( الواقعية المثالية ) . تقول الفقرة , ان غوركي قد طرح مسائل ترتبط بمفهوم (الواقعية المثالية) , اي ان غوركي لم يطرح مفهوم الواقعية الاشتراكية , التي تبناها المؤتمر التأسيسي الاول لاتحاد الادباء السوفيت عام 1934 المشهور , هذا المصطلح الذي اصبح شائعا في آداب الشعوب السوفيتية , وفي اوساط الادب اليساري في العالم ايضا , بما فيه عالمنا العربي طبعا . ان مفهوم الواقعية الاشتراكية اصبح الان مسألة ترتبط بالماضي ليس الا , ولم تعد مطروحة بتاتا في عالم الادب والفن الروسي منذ سبعينيات القرن العشرين , اي عندما كان الاتحاد السوفيتي موجودا , وقد تناولت المصادر الروسية المعاصرة موقف غوركي من ذلك المفهوم , الذي تم فرضه واقعيا في الاوساط الحزبية السوفيتية . وموضوع الواقعية الاشتراكية في عالمنا العربي جدير طبعا بدراسته و التوقف الموضوعي الهادئ عنده .
مكسيم غوركي – واحد من عمالقة الادب والفكر الروسي , وابداعه لايزال بحاجة الى دراسات جديدة و معمقة لسبر غور ذلك الابداع وفهم ابعاده, واتمنى ان تكون ملاحظاتنا الوجيزة هذه مساهمة متواضعة في التأكيد على ذلك .