تشويه معنى التضامن الدولي
أعادني اجتماع نابولي لحقوقيي البحر المتوسط
إلى عقود خلت، كان فيها لكلمة التضامن وقع شديد وتأثير فاعل، ولا سيّما في الأوساط
الحقوقية والقانونية، وتحسب لها السلطات ألف حساب، وخصوصاً لردود الأفعال التي قد
تترتّب عليها داخلياً وخارجياً. وكان للتضامن الدولي دوره الكبير في تغيير اتجاه
أو التراجع عن خطوة أو التوقف عن إجراء يتعلق بقضايا سياسية أو تحسين معاملة لسجين
رأي أو إطلاق سراح معتقل أو غير ذلك.
وقد روى لي المناضل الفلسطيني الراحل تيسير قبعة يوم كان سجيناً في الأرض المحتلة،
مدى التأثير والتأثّر الذي حصل في تعامل سلطات الاحتلال معه، جرّاء الحملة التي
انطلقت في عواصم عالمية وعربية لتوضيح مصيره ومن ثم المطالبة بحرّيته، كما كانت
حملة التضامن العالمي وراء القوة المعنوية التي امتلكها نيلسون مانديلا الذي استمر
حبسه 27 عاماً، خصوصاً في «اللحظة السحرية» حين كان يعلم فيها انطلاق حملات تضامن
حقوقية معه، وكان لسلوكه الإنساني اللاحق دور كبير في سيادة قيم التسامح والسلام
والتعايش وعدم الانتقام أو الثأر أو الكراهية.
ويمكنني القول: إن التضامن أصبح حقاً من حقوق الإنسان في البلدان التي يكون فيها
الرأي العام صوتاً مسموعاً، خصوصاً بصدور قرار الأمم المتحدة رقم 55 لعام 2005،
بخصوص الحق في التضامن، سواء كان مع الشعوب أم مع بعض الجماعات والقوى أم مع
الأفراد، وهو ما يتطلّب إجراءات وقائية وأخرى حمائية، ووضع استراتيجيات لمنع حدوث
الانتهاكات والتجاوزات.
وبقدر ما أصبح التضامن ضرورة لا بدّ للمجتمع الدولي من الاضطلاع بها، فإن بعض
تطبيقاته امتازت بالتوظيف السياسي، والأمر شمل الضحايا واللاجئين والمهمشين
والبيئة والأوبئة والأمراض والحروب والاتجار بالبشر والمخدرات وتجارة السلاح
والتعصب والتطرف والعنف والإرهاب. وبعد انتهاء الحرب الباردة في أواخر الثمانينات
وهيمنة قطب واحد على العلاقات الدولية، ضَعُفَ دور التضامن وتأثيره، وتصدّعت جبهة
المتضامنين، وخشي الكثير منهم من التشويه الذي يمكن أن يلحق به، كما لم تعد
الحكومات تعيره الأهمية ذاتها التي كان يحتلها يوم كانت تأخذ بنظر الاعتبار حجمه
وامتداده، بما يؤثر في سياستها الداخلية ومواقفها إزاء بعض القضايا الدولية، حتى
اعتُبِرَ من يتضامن مع المقاومة ويدافع عن حقوق الشعب العربي الفلسطيني العادلة
والمشروعة «إرهابياً» أو يُحسب على ملاك «الإرهاب»، ولا سيّما بعد تشويه صورة
التضامن وإلصاق التهم جزافاً بمن يتضامن، وتلك مفارقة حقيقية.
ولعلّ أبرز وأهم حملة تضامن بعد انهيار جدار برلين في ال 9 من نوفمبر / تشرين
الثاني عام 1989 والإطاحة بأنظمة أوروبا الشرقية، وتحلّل الاتحاد السوفييتي، كانت
عشية الحرب على العراق (عام 2003)، والتي شملت أكثر من عشرة ملايين إنسان وعشرات
العواصم والمدن الأوروبية، وكانت مطالبها الأساسية منع الحرب وحماية السكان
المدنيين الذين عانوا من الحصار لنحو 12 عاماً، فضلاً عن زيف ادعاءات القوى
والبلدان التي تريد شنّ الحرب بزعم وجود أسلحة دمار شامل، وعلاقة نظامه
الديكتاتوري السابق بالإرهاب الدولي، والسعي لإيجاد نظام ديمقراطي بديل عنه.
وعلى الرغم من محاولات التضليل والخداع التي كانت تمارس بأشكال مختلفة للحيلولة
دون أن يصل التضامن إلى مبتغاه، فإن الكثير من الحقائق باتت جلية وواضحة، الأمر
الذي سيعيد إلى التضامن بريقه الباهر وصورته البهية، سواء على الضحايا أو على المرتكبين،
وذلك لعدة دلالات:
أولها: أن حملات التضامن حتى وإن لم تؤتِ ثمارها في اللحظة المعينة، لكنها تشكّل
رصيداً مستقبلياً يمكن المراكمة عليه، لتأكيد عدالة القضية التي يتضامن معها
العالم.
وثانيها: أن التضامن معيار أخلاقي لرفض الظلم والدعوة إلى تحقيق العدالة بغض النظر
عن الموقف السياسي، مثلما هو تعبير عن شراكة إنسانية وصداقة قائمة أو محتملة لما
يتركه فعل التضامن من تأثير في النفس.
وثالثها: أن الشعوب والحركات والأفراد الذين يُتضامن معهم يشعرون بالقوة في مواجهة
التعسف، لأنهم ليسوا وحدهم في المعركة.
ورابعها: أن الأطراف المرْتكِبَة حتى وإن أظهرت عدم اكتراثها بأصوات التضامن
وازدراءها للحملات التضامنية، لكنها لا بدّ أن تعيد حساباتها، والمسألة مرتبطة
بتصاعد حركة التضامن وامتداداتها لتصل إلى داخل صفوفها، وهو ما لا يمكن تجاهله إلى
ما لا نهاية.
ولذلك كان إعلان نابولي الذي صدر عن اجتماع حقوقيي البحر المتوسط منسجماً مع
المعايير الأربعة، حين أكّد على حقوق الشعب العربي الفلسطيني، وفي المقدمة منها
حقه في تقرير المصير، وعلى احترام الإرادة الحرة لشعوب المنطقة، وعلى تصدّيها
للإرهاب الدولي، وحقها في التنمية المستقلة، وإدانته وشجبه سياسة الرئيس الأمريكي
ترامب، بشأن اعتبار القدس عاصمة ل «إسرائيل»، خلافاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم
478 لعام 1980، أو اعتبار الجولان السورية «إسرائيلية» بالضد من القرار رقم 497
لعام 1981، كما اعتبر الإعلان «إسرائيل» بممارساتها العنصرية بؤرة حرب مستمرة وخطراً
على السلم والأمن الدوليين. وفي ذلك فعل من أفعال المواجهة لتأكيد عدالة القضايا
الإنسانية، وترابطها على المستوى الكوني.