خالد بن الوليد “سيف الله المسلول”
تمهيد :
في زيارة لي إلى متحف (توب كابى) بأستامبول الذي يضم من مقتنياته الثرية أمانات الرسول (ص)، وآثار إسلامية مبهرة منها سيوف الخلفاء الراشدين، وقد توقفت مبهوراً لا أقوى على السير أمام سيف كرمه الرسول (ص) بقوله ” سيف سله الله على المشركين ” وأطلق على خالد بعدها لقب سيف الله المسلول. تأملت الكف التي أمسكت بهذا السيف، والشخصية البطولية التي قاتلت بهذا السيف .. إنه لا يزيد عن كم من الحديد … ولكن أي حديد .. بورك من صنعه، وبوركت اليد التي حملته والبطل التاريخي الذي قاتل به، القائد الخالد ” خالد بين الوليد المخزومي “.
وصديق لي كان ضابطاً في إحدى الجيوش العربية، وبلغ المراتب القيادية، وعلى درجة من الثقافة العسكرية والسياسية / التاريخية، وقد تلقى دورات عسكرية في أكثر من بلد أوربي (فرنسا والاتحاد السوفيتي)، وقد حدثني، هذا الصديق أن معركة اليرموك ما تزال تدرس في كلية الأركان الفرنسية (في ذلك الوقت) والخبراء العسكريون يقدرونها تقديراً عالياً بوصفها واحدة من المعارك التي تجلت فيها عبقرية القائد الميداني خالد بن الوليد في مواقعه الكثيرة، تجلت في مأثرته الكبرى سواء في الزحف من مسافة بعيدة في بوادٍ خالية من مصادر الإدامة لجيش كبير(الأرزاق/ الطعام، والماء)، أو في تحقيق الانتصار الكبير الساحق الذي تحقق في ميدان القتال (وادي اليرموك)، ذلك الانتصار الذي كان له أبعادة السياسية والعسكرية الخطيرة. كما علمنا أن هذا الدرس التاريخي الكبير يدرس في المعاهد الروسية / السوفيتية أيضاً.
هو خالد ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن كعب، سيف الله المسلول، وفارس الإسلام، وأسد المعارك الحاسمة، السيد، الإمام، الأمير الكبير، قائد المجاهدين، أبو سليمان القرشي المخزومي المكي، وابن أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث.
شهد غزوة مؤتة جندياً مجاهداً، وحين استشهد أمراء رسول الله (ص) الثلاثة: مولاه زيد، وابن عمه جعفر ذو الجناحين، وأبن رواحة، وبقي الجيش بلا أمير، فتولى خالد القيادة عليهم في الحال، وأخذ الراية، وحمل على العدو، وقد كسرت تسعة سيوف في يده في معركة مؤتة، فكان النصر، وكان أن سماه النبي (ص) سيف الله، فقال إن خالدا سيف سله الله على المشركين. ثم شهد خالد ابن الوليد فتح مكة كقائد لأحدى الارتال التي دخلت مكة، ثم غزوة حنين كقائداً في الجيش المسلمين الذي كان يقوده الرسول (ص) شخصياً.
في حروب الردة كان خالد بن الوليد قائداً أساسياً في مقاتلة المرتدين، فكان له شرف مقاتلة بؤرة الارتداد، وإبادة قياداته، وليعزز بذلك وحدة الدولة الإسلامية وإنفاذا ً لقرار الدولة وسلامة العقيدة، والمبادئ، إخلاصاً وولاء للدولة ولا ولاء لغير الدولة والدين، لا العائلة ولا العشيرة ولا المناطقية.
وقد حقق القائد خالد بن الوليد خبراته وتجاربه القتالية والقيادية عبر سلسلة طويلة من المعارك، فبعد أن أعلن إسلامه، شارك في غزوة فتح مكة، وموقعة حنين، ثم كانت له مساهمته الكبرى في المعارك اللاحقة وخاصة في معركة مؤتة (8 هـ) التي برزت فيها مواهبه وتمكن من إنقاذ جيش المسلمين من الإبادة بعد استشهاد قادة الجيش: زيد بن حارثة، وخلفه جعفر بن أبي طالب، وخلفه عبد الله بن رواحة، فاختار المسلمون خالداً ليكون قائداً عليهم، الذي أبدل الخطط وأسلوب انتشار القوات، وقاتل ببسالة في تلك المعركة التي أنقذ فيها هذا القائد الكبير الجيش الإسلامي من إبادة محققة، ولهذه المأثرة الكبيرة أسماه فيها الرسول (ص) بسيف الله المسلول.
والقائد الصحابي خالد بن الوليد شهد معارك عديدة بقيادة الرسول، منها معركة فتح مكة وكان خالداً أحد قادة الارتال التي دخلت مكة، ثم غزوة حنين (8 هـ)، ثم معركة مؤتة في جنوب بلاد الشام (الأردن اليوم). ومؤتة (8 هـ / 629 م) التي كانت البداية التي أعلنت عن عبقرية هذا القائد، سرعان ما أتمها في معارك الردة (في عهد الخليفة الصديق) والتي كان له فيها الدور الكبير في القضاء على مركز الارتداد والفتنة.
وهذه المقدمات الكبيرة أهلت خالداً ليكون ليس في عداد المجاهدين في الحملات اللاحقة، بل قائداً من أبرز القواد، ثم عينه أبو بكر الصديق قائداً لحملة فتح العراق منتصراً في سلسلة من المعارك ضد الفرس، ثم هب لنجدة عياض بن غنم قائد الجيش الإسلامي في معارك مع الروم في دومة الجندل، حين بلغته وهو في أرض العراق طلب النجدة، فأجابها برسالة تحمل كلمتين فقط ” أياك أريد “ حملها أحد الفرسان للقائد عياض بن غنم، وحسم خالد المعركة بالفوز. ثم اخترق البادية قاطعاً المسافة من الحيرة في العراق إلى اليرموك في خمس ليال، وشهد حروب الشام، عينه الصديق قائداً أعلى على سائر أمراء الأجناد، وحاصر دمشق فافتتحها هو وأبو عبيدة .
من البديهي أن إعجاب الفكر العسكري العالمي بهذه المأثرة لم يكن بدون أسباب جوهرية، بل له مغزاه وأسبابه على صعد عديدة، منها :
- القرار الاستراتيجي الخطير الذي أتخذ في العاصمة (المدينة) بخوض معارك الفتح على جبهتين (العراق والشام) في البداية، ثم تطورت الأحداث لتخلق الظروف الموضوعية لافتتاح الجبهة الثالثة (مصر)، قراراً استراتيجياً كبيرا لابد أنه قائم على أسس مادية، والجبهات الثلاث هي مع القوى العظمى في عصرها. وجد هذا القرار تحقيقه في الميدان على يد القائد الشجاع العبقري القادر على تحقيقه دون أن يرهق قيادته بطلبات ومستلزمات(إمداد).
- المناورة بالقوات بحجم كبير (3 فرق) لم يكن أمراً سهلاً ومألوفاً بتلك العصور.
- والمناورة تمثلت بعمل يتطلب جهداً لوجستياً ضخماً حتى بمقاييس اليوم، بالانتقال بقوات من المشاة والفرسان (ويمثلون الدروع بمقاييس اليوم)، مقاتلين من الفرسان يبلغ عددهم نحو (10 ألاف فارس) مقسمين على 36 ــ 40 كردوس والمشاة إلى 4 ألوية من المشاة، ولكل لواء مشاة جماعة استطلاع، ثم راكبي الهجن (الإبل/ الجمال)، وجرى تعيين قوات من الخيالة كاحتياط لقائد الحملة العام، خالد بن الوليد، تولاها نائبه ضرار بن الأزور. وبلغ إجمالي القوات نحو 30 ــ 35 ألف مقاتل.
- اختيار خط التقدم من الحيرة بمحاذاة الفرات، وصولاً إلى تدمر (وتلك من خطوط القوافل المعروفة) ومنها جنوباً إلى دمشق، ثم صوب وادي اليرموك وهي مسافة تتجاوز الألف كيلو متر قطعها جيش الإسلامي في خمس ليال، (ربما كانوا يسيرون ليلاً ويتوقفون نهاراً ظروف الطقس). وكان خط السير محكوم أيضاً بضرورة وفرة الماء للجيش بجنوده ووسائط نقله من الخيول والإبل.
- التكتيك الذي مارسه القائد خالد بن الوليد بذكاء وعبقرية تمثل في استخدام قوات الفرسان كقوة ضاربة متحركة، في شن الهجمات المضادة، تتولى الإجهاز على قوات العدو (كان جيش الروم يتألف من 250 ــ 280 ألف مقاتل) التي أنهكها القتال الدفاعي.
- التخطيط ببراعة على قطع طرق الإمداد للعدو وبنفس الوقت قطع طريق انسحابه لمنعه من إعادة تنظيمه وليعيد شن الهجمات.
- بلغت تضحيات الجيش الإسلامي نحو 4,000 شهيد من مقاتلي المسلمين، بينما بلغت خسائر الروم إلى 70 ألف مقاتل
- ولكن الخليفة عملا ارتأى أن يعزل خالداً من قيادة الجيش في بلاد الشام، وقد ارتأى رأياً، في صلاح لأمن القوات وتماسكها، فقد أراد أن لا يفتتن المسلمون (جنوداً وضباط) بالقائد، ويكون ولائهم له.
عاش القائد خالد بن الوليد ستين عاماً، وتوفي بحمص سنة 21/ هـ ــ 641 م ومات على فراشه، وهو يقول ” لقد شهدت مئة زحف أو زهاءها، ولم في جسدي موضع شبر إلا وعليه أثر جرح سيف أو رمية سهم، أو طعنة برمح. وها أنا ذا أموت في فراشي حتف انفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء “. وكان حبه للقتال والجهاد قد دفعه للقول : ” ما أدري من أي يومي أفر، يوم أراد الله أن يهدي لي فيه شهادة، أو يوم أراد الله أن يهدي لي فيه كرامة “.
ويقول من تولى غسله وتكفينه بحمص، وقد نظر إلى جسده، فقال : ” ما في جسده إلا ما بين ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم “. وقبره بحمص على باب حمص في جامع يحمل أسمه، وإلى جانبه قبر أبنه عبد الرحمن .