نوري عبد الرزاق
الذاكرة والزمن الجميل
ما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى بدأ الفتى اليافع “نجل الجنرال” ينفتح على الثقافة ويدخل دروبها الوعرة والسالكة من أبوابها ونوافذها المختلفة تارة، ومن أزقتها السرّية تارة أخرى، وكان وما يزال وطيلة حياته قارئاً منفتحاً على مختلف الثقافات، وحتى حين أراد الاقتراب من السياسة نظر إليها باعتبارها وجهاً من وجوه الثقافة لإدارة الشؤون العامة، وكان اختياره فكرياً في إطار الموجة التي خلّفتها هزيمة الفاشية وسطوع نجم الاشتراكية، مطعّماً بفقه الواقع الذي يعيشه بلده العراق والطامح إلى التحرّر والحرّية والتخلّص من شرك المعاهدات الاستعمارية ونمط الحكم شبه الإقطاعي- الرجعي في نفحة من الانفتاح على العالم والحداثة والتقدم.
ومن مطارحاتي الطويلة معه المتصلة والمنفصلة، كان هواه فلسفياً أكثر منه اقتصادياً، فقد أحب الفلسفة لدى ماركس وكتبه الفلسفية ومساجلاته أكثر من كتابه “رأس المال”، مثلما أعجب أشدّ العجب بحياته ولذلك حاول التشبث بكونه “ماركسي مستقل” إلى أن أقنعه بعد حين خاله “عدنان” وأجواء العائلة لينتمي إلى “حزب التحرّر الوطني” العام 1946 الذي لم تجزه وزارة توفيق السويدي ووزير الداخلية سعد صالح، وتلك قصة أخرى حاولت أن أستعيدها معه.
وكان الشاب المُقبل على الحياة يقرأ ما يقع تحت يده من روائع الفكر العالمي مثلما يطّلع على ما يصدر عن الأحزاب السياسية والجمعيات العلنية والسرّية، وفي تلك المرحلة الأولى من التكوين قرأ البيان الشيوعي لماركس وانجلز (ترجمة خالد بكداش) وكتاب لينين “ الدولة والثورة” كما قرأ الأدب الروسي، وظلّ مولعاً بالسينما حتى حين تجاوز الخامسة والثمانين، كما كان مواظباً على حضور المسرح، ولاسيّما المسارح العالمية بثقافاتها ولغاتها المختلفة، ولم ينقطع يوماً عن سماع الموسيقى . لعلّ زمانه هو ما نطلق عليه “الزمن الجميل” حيث جمع ذلك الجيل المتميّز، الفكر والقيم، وهما إذا اجتمعا شكّلا قوة صلبة وحصينة، خصوصاً حين تقترن بالتضحية والعطاء.
كثيراً ما أرّق ذلك الفتى ، العائلة التي ارتبطت مع العهد الملكي بعلاقات وطيدة وبخاصة برموزه الكبيرة، فاضطّر والده وبعد معاناة لإرساله للدراسة في بريطانيا بعد أن اعتقل أكثر من مرّة، واختار الهندسة، وهناك نشط نشاطاً ملحوظاً، حيث كانت لندن ساحة مهمّة للاحتجاجات على سياسة نوري السعيد وحلف بغداد فيما بعد، فطردته الحكومة البريطانية ولم يكمل دراسته، وهكذا بدأ حياة جديدة حافلة بالنشاط الذي لم ينقطع طيلة سبعة عقود من الزمان .
واستقرّ في القاهرة العام 1957 بعد تنقلات عديدة، وباشر بالكتابة والتنظير، فأصدر عملاً اعتبر في حينها مرجعاً “عربياً” بعنوان” تيارات سياسية في الحركة الوطنية العراقية”. وعلى الرغم من أنه مقلٌّ في الكتابة ، إلّا أن ما يكتبه كان فيه إضافات مهمة ووجهة نظر ورأي ، سواء باطلاع القارئ العربي على تجارب عالمية للتحرّر الوطني أو مساهمات نظرية عن قضايا مطروحة، وقد نشرت له “مجلة الثقافة الجديدة” بعضها، كما كتب بحكم عمله القيادي تقاريراً مهمة عبّرت عن تشخيصات وتحليلات متميّزة للأوضاع الفكرية والثقافية والسياسية على المستوى العالمي.
وكان مبدعاً في جميع المواقع التي شغلها من سكرتارية الشبيبة الديمقراطية في العراق العام 1959إلى سكرتارية اتحاد الطلاب العالمي العام 1960، إلى سكرتارية منظمة التضامن الأفروآسيوي العام 1971، وفي كل تلك المواقع لقّح إدارته بثقافته الماركسية من جهة وقراءة الواقع من جهة أخرى، خصوصاً إطلاعه على المدارس الفكرية المختلفة والتجارب الغنية التي اختزنها، وكان يتّخذ المواقف بخلفيات اجتهادية، أخطأ أم أصاب، فهو من القلائل الذين يتمتعون باستقلالية فكرية تكاد تكون نادرة في الأعراف والتقاليد الحزبية المعروفة ذات الصرامة والتشدّد، مثلما امتاز بمرونة عالية استوجبتها مواقعه القيادية وإدارته لمنظمات وهيئات مختلفة وتيارات وصراعات عديدة.
خلال نشاطه السياسي في إطار الحركة الشيوعية، كان أحد رموزها على مستوى الشارع، وحين اندلعت الحرب العراقية – الإيرانية ، ولاسيّما بعد أن توغّلت القوات الإيرانية في الأراضي العراقية بمشروعها السياسي والحربي، اتّخذ مع مجموعة من رفاقه موقفاً متميزاً عن إدارة الحزب حين قرّر فتح النقاش علناً حول قضايا الاختلاف، وذلك من خلال جهد عربي، فأسسوا حركة المنبر الشيوعية التي تولّى إدارتها والتي دعت إلى إعادة قراءة الماركسية وفقاً للظروف الجديدة ورفض احتلال الأراضي العراقية تحت أي مبرّر أو ذريعة.
مثقفنا الذي نتحدّث عنه هو صديق ياسر عرفات وتشي جيفارا وباليكان وعبد الفتاح اسماعيل وسوسلوف وجورج حبش وخالد محي الدين ويوسف السباعي ومراد غالب ومحمد السيد أحمد وادريس كوكس وغيرهم، وقد التقى معظم زعماء العالم ” الثوريين” في الستينات والسبعينات وهو معروف في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، وهو اسم بارز بين الشخصيات الشيوعية العالمية، وقد حاز على جائزة لينين لبلوغه الخمسين من عمره (1974) وعلى عدد من الأوسمة والجوائز. إنه الشخصية المتواضعة والمسالمة، هو ابن الجنرال عبد الرزاق حسين البياتي، والعائلة البغدادية العريقة، إنه نوري عبد الرزاق حسين.
*****
استكمالاً لحوارات سابقة بعضها أدرجتها في كتبي، وبعضها لم ينشر بعد، سألته في مكتبه بالقاهرة حيث ما يزال سكرتيراً عاماً لمنظمة التضامن الأفروآسيوي عن دوره الطلابي، خصوصاً وأن أول لقاء كان لي معه هو في منزله ببغداد (منطقة الكرادة) العام 1969 كان عن الحركة الطلابية:
فقال عرفت “اتحاد الطلبة” بعد تأسيسه في 14 نيسان (ابريل) العام 1948، ولكن نشاطي الحقيقي كان في الخارج في إطار “جمعية الطلبة العراقيين في بريطانيا”، وقد انعقد لقاء طلابي عراقي موسّع خارج العراق في العام 1954 في أمستردام الذي حضره نحو 200 طالب ومن أبرز الحاضرين : أنيس عجينة، نوري عبد الرزاق، ابراهيم نوري، خالد السلام، حافظ التكمجي، محمد سلمان حسن ، ابراهيم علاوي ، لميس العماري، هيلين، صالحة، دانيال (والثلاثة الآخيرين من يهود العراق).
هل كان ذلك قبل زيارة سلام عادل إلى لندن أو بعدها؟
أجاب:أعطى سلام عادل انطباعاً جيّداً وإيجابياً عن نشاط الحزب في الوطن خلال زيارته لبريطانيا لحضور اجتماع الأحزاب الشيوعية لدول الكومنويلث وأُعجب به عدد من قادة الأحزاب الشيوعية الذين حضروا المؤتمر، لكن “إدارة الحزب” لم تكن موحّدة، وحسبما يبدو أن المنافسات كانت شديدة بينها، سواء على الصعيد السياسي أم على الصعيد التنظيمي والمبدئي، ناهيك عن اختلاف أساليب العمل، وقد تلمّسنا ذلك من زميلنا عبد الأمير الرفيعي الذي ذهب إلى بغداد (ولم يحضر لقاء أمستردام) فالتقى بحميد عثمان وكان “المسؤول الأول”، فأبلغه الأخير أنه لا ينبغي أخذ كلام سلام عادل كلّه على محمل الجدّ، فقد حاول إعطاء “صورة وردية”.
وقد فهمها الرفيعي إنها محاولة للتقليل من شأن سلام عادل أو إضعاف الثقة به ولم يعرف الصراعات الخفيّة الدائرة، وهو الأمر الذي تكرّر حين زار سليم الجلبي أوروبا لحضور “مؤتمر النقابات” فحاول الانتقاص من “سلام عادل” أيضاً، وكتب بعد مغادرته إيطاليا متوجّهاً إلى بغداد رسالة مملوءة بالشتائم لبعض قادته وسياساته ومواقفه، وبسبب ذلك دخل في خلافات مع الحزب أدّت إلى فصله، وحاول بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958 أن يؤسس مجموعة باسم ” جماعة القاعدة” ويدعو إلى حزب شيوعي عربي، لكن تلك المحاولات باءت بالفشل، فعاش وحيداً حتى وفاته.
ماذا كانت طلبات سلام عادل من الحزب الشيوعي البريطاني؟
طلب سلام عادل من الحزب الشيوعي البريطاني مساعدة الحزب الشيوعي العراقي في أن يكون له مندوباً دائماً في أوروبا لغرض التعاون والتنسيق، وتم الاتفاق مع الحزب الشيوعي النمساوي، وقد وصل “شريف الشيخ” إلى فيينا للقيام بالمهمة، وكانت النمسا حينها مقسّمة إلى أربعة أقسام بعد احتلالها في الحرب العالمية الثانية، قسم أمريكي وآخر بريطاني وثالث فرنسي ورابع سوفييتي، وحصلت على استقلالها في العام 1955 وأجليت القوات الأجنبية عنها ودخلت الأمم المتحدة كدولة مستقلة.
هل عرفت السلطات البريطانية بقدوم سلام عادل ؟
بعد زيارة سلام عادل إلى بريطانيا (العام 1954) ومراقبة السلطات البريطانية لنشاط الشيوعيين العراقيين قامت بطرد عدد من الطلبة أولهم أنيس عجينة الذي كان مسؤول المنظمة وهو الذي استقبل سلام عادل كما رويت في كتابك ” سلام عادل :الدال والمدلول وما يمكث وما يزول” وبعده طُرد نوري عبد الرزاق وابراهيم نوري ومصطفى ماجد مصطفى ونوزاد ماجد،وقد جزأت السلطات البريطانية الطرد والإبعاد فجعلته على مراحل، فبعد طرد أنيس، تم انتخابي مسؤولاً لمنظمة بريطانيا وكان أنيس قد انتقل إلى فيينا ومنها إلى باريس، ثم جاء دوري والآخرين، حيث تم إبعادنا من بريطانيا.
أعود إلى الصراعات الداخلية فماذا كنتم وأنتم في الخارج تنظرون على البعد إليها، خصوصاً بعض تصرفات إداريي الحزب؟
أنقل لك مقطعاً آخر : حين جاء ناصر عبود لزيارة براغ في مهمة حزبية اصطدم بـ”شريف الشيخ” وطلب منه العودة إلى العراق وهو الذي توسّط سلام عادل للحصول على إقامة له لإدارة المهمات الحزبية الخارجية، وحتى حين جاء سليم الجلبي كتب تقريراً عن دور الحزب ونشاطه ليتم تسليمه للحزب الشيوعي البريطاني لاطلاعهم على عمل الحزب، وقام بترجمة التقرير أنيس عجينة، وكان تقريراً مخالفاً لتقرير سلام عادل، الأمر الذي دُهش منه الحزب الشيوعي البريطاني. وكان رحيم عجينة هو من قام بترجمة تقرير سلام عادل مشيداً بدقته وقدرته في التعبير، وقد تسلّم تقرير سليم الجلبي إدريس كوكس القائد الشيوعي البريطاني المعروف وكانت المواقف المختلفة تثير حيرته.
وكيف استقبلتم مسألة “وحدة الحزب”؟
خلال تلك الفترة تم تسوية قضايا الانشقاق بوساطة في الحزب الشيوعي السوري – اللبناني وكان قد وصل من جماعة القاعدة الحزب الأصلي (سلام عادل وجورج تلّو) ومن مجموعة راية الشغيلة (جمال الحيدري وعدنان جليميران) وحضر اللقاءات عبد القادر اسماعيل الموجود في سوريا ولبنان، وعلى هامش اللقاءات كانت موجودة نزيهة الدليمي ونوري عبد الرزاق، ويتذكر نوري إنه بعد طرده من بريطانيا ضاقت الدنيا بعينيه فكتب رسالة إلى قيادة الحزب، وكان جواب أبو إيمان (سلام عادل) “سنضع كل إمكانات الحزب تحت تصرفك”، ويقول إن هذا الرّد الإيجابي كان له أكبر الأثر في تقوية معنوياتي وإشعاري بأنني لست وحدي أو مع عائلتي لمواجهة هذه الأزمة.
وماذا عن بداياتك الشيوعية؟
يقول نوري إنه كان يرغب في البقاء ماركسياً مستقلاً، لكن تأثيرات خاله عدنان وأحد أقاربه شجعته على الانخراط في حزب التحرّر الوطني، فانتمى إلى الحزب وبعد أسبوع شارك في تظاهرة شهيرة عُرفت باسم تظاهرة الكاظمية، وقد كانت الشرطة تعرف تفاصيلها وتم مداهمتها واضطرّ هو وعدد من المتظاهرين للهرب في بساتين الكاظمية، وبقوا فيها نحو 3 ساعات ، لكنه تم اعتقالهم لاحقاً .
وبعد فترة التقى نجيب الراوي وهو صديق العائلة وكان وزيراً للمعارف، فقال له إن نوري السعيد عمل كل ما في وسعه لإسقاط وزارة مزاحم الباججي، وها أنتم تنفّذون دون أن تدرون مخططه، خصوصاً حين رفع المتظاهرون شعار “إسقاط وزارة مزاحم الباججي الفاشية”.
وسألته عن ملابسات حزب التحرّر الوطني وإجازته؟
فأجاب هذا ما ذكره سالم عبيد النعمان في كتابه ” الحزب الشيوعي العراقي بقيادة فهد” دار المدى للثقافة والنشر،2007، فقد أُرسل النعمان إلى سعد صالح للتباحث معه بشأن إجازة الحزب وقد نصح سعد صالح باستبدال اسم حسين الشبيبي لأنه شيوعي معروف باسم آخر، علماً بأنه صديقه، ذلك أن اسمه يثير دوائر عديدة ضد إجازة الحزب، بل ويعطيها مبرّراً للضغط من أجل إلغاء إجازات الأحزاب جميعها، ولكن الرفيق فهد أصرّ أن يكون الشبيبي وليس غيره، ثم طلب منح الحزب جريدة كعربون لذلك، لكن الوزارة التي أجازت 5 أحزاب وطنية استقالت بعد حين ولم تدم سوى 97 يوماً، حيث تمت الإطاحة بها لتشهد البلاد موجة أخرى من التضييق على الحرّيات.
وكان آرا خاجادور قد كتب لي تعليقاً على كتابي ” سعد صالح – الضوء والظلّ: الوسطية والفرصة الضائعة، الدار العربية للعلوم،بيروت ، 2009 ” أن فهد أرسل الشبيبي لعتاب سعد صالح ، لكن الأخير شرح ظروف عمل الوزارة والتحديات التي تواجهها، وقال آرا كان اسم سعد صالح ووطنيته ونزاهته شديد الاحترام لدينا، وأضاف حين سمعنا بأن سعد صالح دعا لجبهة وطنية، بادرنا بإرسال هادي هاشم الأعظمي ليتصل به ويبلغه استعدادنا الانخراط فيه، فكان جواب سعد صالح أن من السابق لأوانه التحّرك بهذا الاتجاه وهو ما سمعه في السجن، وقد أدرجت ملاحظته تلك في كتابي المذكور (الطبعة الثانية، دار الشؤون الثقافية، بغداد،2012).
وسألته عن علاقة الحزب الشيوعي العراقي بالشيوعيين السوريين وخالد بكداش تحديداً .
يقول نوري، في كانون الأول (ديسمبر) العام 1955 استلم رسالة من سلام عادل قال فيها أن وفداً من اللجنة المركزية يرغب في حضور “المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي” الذي كان يجري التحضير له، وإن السوريين لم يساعدونهم، وطلب تدخّل الحزب الشيوعي البريطاني وورد في الرسالة إن سكرتير عام الحزب سيكون على رأس الوفد.
وكان السوفييت يأخذون رأي الحزب الشيوعي السوري وخالد بكداش تحديداً، وكان رأي الأخير أن الحركة الشيوعية العراقية منقسمة، ولذلك من الصعب تمثيلها، ويرجع البعض حسّاسية خالد بكداش والشيوعيين السوريين (المقصود ذلك الجيل) إلى الشعور الأبوي ومرجعيتهم للحركة الشيوعية العربية وخبراتهم قياساً بالآخرين، وبرّروا بعض ذلك إن الشيوعيين العراقيين يقيمون نشاطات دون إبلاغنا، وقد تكون ثمة حساسية شخصية، فحتى حين أريد توحيد المجاميع المنشطرة عن الحزب، فضّل خالد بكداش عدم استخدام اسم “القاعدة” لأن لها علاقة بفهد حيث كانت الحساسية لنفس الأسباب، رغم استشهاد الأخير، واختير اسم ” اتحاد الشعب” للجريدة المركزية وقد يكون لانتخاب خانم زهدي إلى سكرتارية اتحاد النساء الديمقراطي العالمي، وهي أول امرأة من بلد عربي ، أثار حفيظة السوريين، وكان اتحاد الطلبة العراقي العام نشيطاً وفرض وجوده الدولي وقُبل في اتحاد الطلاب العالمي عضواً في العام 1955 ومنذ ذلك التاريخ أصبح له تمثيلاً رسمياً، هذه بعض أسباب الحساسية.
وبمناسبة اتحاد الطلاب العالمي فمن كان أول ممثل لنا في براغ؟
مثّل عبد الأمير الرفيعي الاتحاد بين العام 1955-1957، ثم جاء بعده رضا هويّس الذي توفّي في حادث مؤسف، حيث سقطت به الطائرة وهو متجه من بكين – إلى كوريا ومعه 20 شخصية طلابية متميّزة، ثم كان الممثل حازم سلّو إلى العام 1960، وبعده عمل بهنام بطرس كشغيل سياسي في اتحاد الطلاب العالمي ثم انتقل مجلس السلم العالمي في هلسنكي، وقد عمل فاروق رضاعة كشغيل سياسي بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963.
وأصبح نوري عبد الرزاق ، السكرتير العام لاتحاد الطلاب العالمي العام 1960 ، أي بعد المؤتمر السادس الذي انعقد في بغداد في العام 1960 واستمر في موقعه إلى مطلع العام 1968، حيث أصبح مهدي الحافظ بديلاً عنه ولغاية مطلع العام 1971، وبعدها انخفض تمثيل الاتحاد إلى نائب رئيس من بين 12 نائباً للرئيس و11 نائباً للأمين العام وقد تخليّنا عن هذا الموقع في العام 1977 بالتنازل للاتحاد الوطني لطلبة العراق بعد تجميد اتحاد الطلبة (والأدق حلّه) برفض واسع من جمهور الاتحاد والعديد من قياداته.
وقد سألته عن رابطة الطلبة العراقيين في مصر ومتى تأسست وكنت قد قرأت كتاب “مذكرات نصير الجادرجي” (دارالمدى ، بغداد، 2017) الذي جاء على ذكرها؟
فقال إنها ضمت بين 70-80 طالباً وكان رئيسها محمد حسين الملّا (كردي) وهو من عائلة دزئي المعروفة إضافة إلى نصير الجادرجي وزوجته فيما بعد، وحظيت بدعم القيادة المصرية، خصوصاً بتوصية محمد حديد الذي حضر مؤتمراً للتضامن في القاهرة، وتعزّزت علاقتنا منذ العام 1957 والعام 1958 وحتى ثورة 14 تموز (يوليو)، حيث عاد عدد كبير من الطلبة إلى بغداد، لاسيّما السياسيين منهم.
وعن علاقته بـ علي صالح السعدي سألته كيف تعرّفت عليه؟
فقال عندما عدتُ إلى بغداد في العام 1969 وبدأت أتحرك في إطار “العلاقات الوطنية” وكتبت مقالات في مجلة “الثقافة الجديدة” ظهر اسمي مجدداً في بغداد، وفي أحد الأيام رنّ جرس المنزل ففتحت الباب وإذا بشخص متوسط القامة أمامي قال لي أنا علي صالح السعدي فهل تستقبلني؟ فرحّبت به، وبعد فترة دعانا جلال الطالباني، وخلال تلك الجلسة حاول علي صالح السعدي أن يشرح لي الانقسام داخل حزب البعث بين يمين ويسار، وهنا علّق الطالباني: يعني (اليمين يقتل من 1 إلى 10) أما (اليسار فمن 10 إلى 100)، فانفعل السعدي وقال: شوف يا جلال لو جاء الشيوعيون وعلّقوني في ساحة التحرير سأكون سعيداً، (وهو ما نشرته نقلاً عن نوري عبد الرزاق في كتابي عن سلام عادل)،
ويقول نوري إن اللقاءات تكرّرت، وكان عثمان سعدي سفير الجزائر في بغداد قد دعانا في إحدى المرّات، وقال ممازحاً كيف تتعايشون مع هؤلاء ؟ وهو ما كانت تعلّق عليه هناء العمري زوجة السعدي ممازحة أيضاً.
ويتذكر نوري عبد الرزاق ما حصل من احتكاك مع علي صالح السعدي في براغ في الحفل الذي أقيم بمناسبة بيان 11 آذار/مارس بدعوة من السفير العراقي حينها محسن دزئي، وهو ما سبق أن رويته بالتفصيل، وكيف حاول عبد الستار الدوري تلطيف الأجواء فدعا في اليوم الثاني الجواهري ومهدي الحافظ وموسى أسد الكريم وآرا خاجادور ونوري عبد الرزاق وعلي صالح السعدي وكاتب السطور الذي كان رئيساً لجمعية الطلبة العراقيين، لكن الأخير لم يحضر لعدم وصول الدعوة إليه.
وعن رواية آرا بخصوص إطلاق علي صالح السعدي رصاصة الرحمة على سلام عادل؟
أجاب نوري أنه لم يسمع ما يشير إليها على الرغم من علاقته الوطيدة مع السعدي ، وكان عبد الستار الدوري قد اتصل بكاتب السطور نافياً تلك الرواية ومفرداتها جملة وتفصيلاً وهو ما دونته في كتابي عن سلام عادل خدمة للحقيقة، دون تبرئة أحد.
وعن ثورة 14 تموز وأخطائها وأخطاء اليسار والحركة الشيوعية حاولت سؤاله هل هناك من حاول نقد تلك التوجهات في حينها؟
قال: تعرف إن وصفي طاهر أقاربي، وفي العام 1959 وخلال المدّ الثوري فاجأني بقوله: “لا ترتكبوا حماقة بعمل مؤامرة” وحذّرني، وكذلك رشيد مطلك صديق عبدالكريم قاسم والوسيط مع الحركة الوطنية، وقالا لي كل على انفراد، أن هناك مجاميعاً وكتلاً حول الزعيم لا تضمر الود لكم والمخلصون قليلون والمعروف هم : وصفي طاهر والمهداوي وماجد محمد أمين، وهناك تأثيرات كبيرة عليه، واستعراضاتكم تضرّ بكم وتخيفه منكم. ويقول نوري عبد الرزاق إنه أبلغ الحزب بهذه المعلومات الخطيرة.
وحول تظاهرة أيار (المليونية) يقول نوري عبد الرزاق
إن عزيز الشيخ كان منظّمنا ونحن في “لجنة اختصاص” ضمت نزيهة الدليمي وسافرة جميل حافظ ومهدي عبد الكريم ونوري عبد الرزاق، وفي الاجتماع درسنا الموقف بعد تظاهرة أيار (مايو) 1959، وكان رأي الجميع بأنها ” حدث عظيم” وهي تتوّج المدّ الثوري وتُظهر قوة الحزب وتغلغله بين الجماهير، وكان رأيي عكس ذلك، فقد اعتبرتها “بداية الانتكاسة” وحاولت أن أشرح رأيي بأن هذا سيستفز القوى الداخلية التي ستتجمّع للانقضاض على الشيوعيين، كما أنها في الوقت نفسه ستستفز القوى الإقليمية (إيران وتركيا، ناهيك عن حلف بغداد ودول الجوار العربي) بما فيها إثارة حفيظة الجمهورية العربية المتحدة وعبد الناصر، خصوصاً الإعلان بأن العراق سيقع في قبضة الاتحاد السوفييتي، وهذا يعني تغيير معادلات التوازن في المنطقة، لاسيّما في موضوع النفط و”إسرائيل” والمواقع الاستراتيجية.
ويقول نوري، حينها انفعل عزيز الشيخ واعتبرها حساسية برجوازية صغيرة منّي وتهويل وإثارة شكوك وما إلى غير ذلك، ووجه الشيخ سؤالاً إلى نوري “من أثقف من الحزب الشيوعي وكوادره وقواعده في المجتمع العراقي”؟ وأجابه نوري: الشيوعيون العراقيون مثقفون ، بل هم أثقف الجميع، ولكن من أثقف نحن أم الحزب الشيوعي الفرنسي ؟ فهل يطالب الشيوعيون الفرنسيون بالسلطة؟
واعتبر نوري شعار مشاركة الحزب الشيوعي بالحكم شعاراً عائماً وغير مقترن بأية خطة عملية وهو ليس تعبيراً حقيقياً عن رغبة الشارع وإلّا كيف نفسّر هتافات الشرطة التي كانت تلاحقنا لوقت قريب فإذا بها تهتف في تلك المسيرة : إسأل الشرطة ماذا تريد وطن حر وشعب سعيد ؟
وكان السفير الصيني في بغداد قد سأل أبو إيمان (سلام عادل) في حفل السفارة البولندية : كيف سيكون الوضع بعد تظاهرة 1 أيار/مايو فكان جوابه: الحملة لم تبدأ بعد وهذه مجرّد مقدّمات . واعترفت نزيهة في وقت لاحق أن نوري وحده كان على صواب، في حين كان هناك من يريد أن ينسب الموقف له.
وعن تداعيات قيام ” إسرائيل” في 15 أيار (مايو) 1948 ما الذي حصل؟
قال نوري بعد إعلان قيام “إسرائيل” وفقاً لقرار الأمم المتحدة 181 لعام 1947 انقسم الشارع وظلّ موقفنا مشوشاً، وانتهزت السلطات الحاكمة ذلك، فأجهزت علينا بحملة اعتقالات واسعة، فضلاً عن استغلال قضية فلسطين ، ويضيف نوري: في صيف العام 1948 (في شهر آب /أغسطس) تم إعدام عدس وكانت الحرب ذريعة لشن حملة ضد الشيوعيين والتي أدّت إلى إعدام فهد ورفاقه في 13-14 شباط (فبراير) 1949 ، وقد تم اعتقال نحو 160 شيوعياً أو محسوبين على الشيوعية، ثم جاءت ضربة مالك سيف الذي سلّم كادرات الحزب وقيادته وأجهزة الطباعة والبيوت الحزبية إلى دائرة التحقيقات الجنائية وعمل في جهاز مكافحة الشيوعية الذي ظلّ قائماً تحت مسمّيات مختلفة وتابع لجهاز المخابرات، (كانت صفته الوظيفية خبير في التربية باعتباره كان معلماً)، وبدأ مسلسل التراجع والتياسر في آن، لاسيّما بعد إعدام فهد، ولم تستقم أوضاع الحزب ويتخلّص من الانشقاقات في تلك الفترة إلّا في ظل قيادة سلام عادل الحازمة والمرنة في آن وبخاصة في توحيد الحركة الشيوعية وتقديم تنازلات متبادلة وتسوية القضايا العالقة مما انعكس على مجمل عمل الحزب في الداخل والخارج.
وعن العلاقة بالبعثيين سألته،
وكان جوابه : حضرنا إلى بيروت في اجتماع عربي : أنا وعامر عبدالله وكان من حزب البعث منذر عريم وعبد الخالق السامرائي ، وكانت العلاقة طيبة، وحين عودتنا سألني عامر عبدالله: ألا ترى من المناسب ردّ الزيارة بعد أن كانا زارانا في بيروت إلى حيث نقيم؟ فأجبته بالموافقة، واتّصلنا بهم وأرسلوا سيارة للذهاب إلى مقر المجلس الوطني.
وهناك تعرّفنا على صدام حسين، ولم نكن نعرفه، وقال لنا عبد الخالق سيحضر معنا “الرفيق أبو عدي”، وحين جاء اختار كرسياً جنب الباب ولم يتكلّم لأكثر من ساعة، وكان عامر عبدالله قد قال إننا مستعدون للتحالف والتعاون وما حصل بيننا يمكن أن نضعه خلفنا ونحدّد برنامجاً وطنياً في إطار ما هو مطروح من شعارات حول الجبهة الوطنية، وكان الحزب حينها قد أصدر مثل تلك الوثيقة، وذكر عامر ألم يتحالف تشرشل وستالين؟
وهنا تدخّل صدام حسين، فقال ليس بيننا تشرشل وليس بيننا ستالين، نحن لا نريد تحالفاً تكتيكياً أو مؤقتاً أو ظرفياً لينفكّ بعد ذلك، كما حصل حين اندلعت الحرب الباردة، بل نريده تحالفاً استراتيجياً، ونريد منكم تقييم النظام: هل هو نظام فاشي أم برجوازي أم برجوازي صغير؟ أم حكم وطني تقدمي؟ ولا نقبل أنكم تقفون معنا في هذه الخطوة وتؤيدونها وتعارضون تلك وتخالفون توجهنا ، ولا نقبل بالالتفاف من وراء ظهرنا، وهنا تدخل عبدالله السلّوم السامرائي الذي كان حاضراً، فقال : أقسم بشرفي إن الشيوعيين مخلصون وهم دعاة تحالف حقيقيين، فنظر إليه صدام حسين وهنا عرفنا سطوته، فبادر عبد الخالق السامرائي وقال لعبدالله السلوم: لقد اقترب موعدك أبا يعرب وعليك الذهاب، ولاحقاً تم تنحيته من مواقعه والتنكيل به.
يقول نوري:
نقلنا هذا الحوار إلى قيادة الحزب ، وجاءني بعدها عزيز محمد في اليوم الثاني، وطلب تقييمي للقاء وعلى نحو مباشر، فقلت له: الكلام معسول ويدعو للتفاؤل، والوضع يعتمد علينا ، فهل لدينا استعداد للمضي معهم أم لا؟ وهل لدينا خطاب مختلف عما هو قائم ؟ وهل سنضع الكرة في ملعبهم و”نحن مكانك سر” أم إنه علينا أن نلعب في ملعب واحد ونأخذ ونعطي؟ فإذا أردنا المعارضة فعلينا أن نبني استراتيجيتنا وفقاً لذلك، ثم نحدّد الأسلوب الأنسب: معارضة سلمية ، معارضة عنفية، انسحاب كامل للعمل السري ، أما إذا قررنا دخول تجربة التحالف فعلينا أن نضع خطّة لذلك واختيار ما هو مناسب.
ويتذكّر نوري عبد الرزاق رأي زكي خيري الذي قال:” لو تطلع روحهم ” سوف لا نمنحهم صفة وطنيين أو أن نظامهم وطنياً، لكنه بطريقته المملحة يضيف: لكن الأمور تغيّرت وأخذ البعض يتسابق على إصدار التقييمات ، فأصبح النظام وطنياً و17 تموز (يوليو) تغييراً ثورياً، و17-30 تموز (يوليو) ثورة فيما بعد، وأصبحنا نحتفل بها ضمن ما سمّي بـ أعياد تموز، بل وأخذنا ندرس وثائق المؤتمر القطري الثامن (1974)، وكانت هناك مبالغات ضارّة وانتقالات حادّة، فمن “أعظم ثورة في العالم الثالث” وتقييمات إيجابية عالية في المؤتمر الثالث للحزب 1976، لنطلق شعارات الفاشية، وغيرها من الشعارات التي لم تكن مناسبة في فترة الحرب العراقية – الإيرانية، ويضيف إذا كانت الدكتاتورية والفردية قد أصبحتا صفتين واضحتين، ولاسيّما بعد العام 1979، فإن رفع الشعارات واختيار وسائل النضال يحتاج إلى تقدير لموازين القوى وليس لرغبات إرادوية .
لقد بدأ التراجع منذ ضرب الحركة الكردية وتعطيل المنظمات الجماهيرية وتحريم العمل خارج منظماتهم، لكننا مضينا في تمجيد علاقة التحالف، وهكذا كنّا نخسر مواقعنا الواحد تلو الآخر ولم نضع خطة للانسحاب.
وسألت نوري أين نحن من الشيوعية؟
فضحكنا وردّدنا معاً قولاً للشاعر الألماني غوته الذي كان يردّده لينين: وتبقى شجرة الحياة خضراء يا صديقي، أما النظرية فرمادية.