مقالات
عزيز الحاج
شاهدت واستمعت بدقة للمقابلات الخمس للسياسي العراقي عزيز الحاج في المقابلات التلفازية. وتركت لدي انطباعات متفاوتة، ولكن بالإجمال، خلقت خيبة أمل جديدة بهذا القائد الذي لا أخفي أني كنت معجباً به كثيراً، إذ كنت أعتقد أنه يقود عملية تحولات سياسية كبيرة في الحزب الشيوعي العراقي، ستضعه في مكانة لائقة في الحركة الوطنية العراقية غير المكانة الحالية، وبالكاد تحملت نفسياً مسألة سقوطه الأول حين ظهر على شاشة التلفاز كأي تائب نادم يحاول يبرر أخطاؤه بلا موقف حقيقي يبقي شيئاً له وللمعجبين به في لقاؤه الثاني. وسأحاول أن أضع ملاحظاتي على شكل فقرات.
- هو من مواليد عام 1926، أي أنه يبلغ اليوم 94 عاماً، نرجو له طول العمر. وشقيقه الشاعر جليل صديق لي وبيننا ذكريات مشتركة في بيروت ودمشق وما زلت أحتفظ بديوانه” أعلن بدء الضد ” الذي أهداه لي حين صدر ببغداد عام 1975.
- ما أدهشني حقاً، تمتعه بذاكرة ممتازة وقدرة على الحديث المترابط، يتحكم في عباراته، وفي طريقة لفظه لها، وسيطرته على سياق المقابلة.
- كنت أضع عزيز الحاج في مقام وحقل أفضل المثقفين العراقيين، ولكنه للأسف لم يمنح هذا الانطباع خلال المقابلة، ربما بسبب ضعف مواقفه السياسية، وانهماكه في الدفاع عن نفسه. فتاريخه النضالي لم يكن مبهراً متيناً بالدرجة التي يتوقعها الناس عنه.
- من المثير حقاً أن يولي القائد التاريخي المؤسس فهد، إلى السيد عزيز الحاج المسؤولية الأولى في الحزب، رغم أن عمره الحزبي لم يكن يتجاوز في حينها السنتين.
- تعززت قناعتي التي اكتشفتها في السبعينات، أن نجد المستوى الثقافي لدى قادة في الحزب الشيوعي العراقي ضعيف لدرجة مدهشة. وأن قائدين أثنين فقط في الحزب الشيوعي العراقي يتمتعان لقدرات ثقافية: عزيز الحاج وعامر عبدالله. ولاحقاً تعرفت على القائد إبراهيم علاوي.
- من الملاحظ فقدان الود والاحترام بين عزيز الحاج وبهاء الدين نوري, وأن بهاء الدين نوري يتهم عزيز الحاج بأنه طموح جموح للعمل القيادي ويكاد يعتبره ” صانع مشاكل “، ومن خلال المقابلات صرت أميل للاعتقاد بصواب رأي بهاء الدين نوري.
- رغم أني كنت أعلم كثرة تردد القادة الشيوعيين وإقاماتهم الطويلة في البلدان الاشتراكية، ولكني فوجئت، بمبالغة القادة في المكوث في الخارج وإقامتهم لسنوات. مع علمي أن الحزب الشيوعي العراقي أو سائر الأحزاب العربية ربما، كانت تدار من الأحزاب الشيوعية الأوربية. على أني كنت متأكداً أن ” الإشراف، هذه الكلمة بدقتها العلمية الحرفية (Supervision) ” على الحزب الشيوعي العراقي أنتقل في الستينات من براغ / تشيكوسلوفاكيا، إلى صوفيا / بلغاريا.
- خلال المقابلة كرر السيد عزيز الحاج أكثر من مرة، رغبته في أن تكون هذه المقابلات، عاملاً في تعزيز الوحدة الوطنية وهذا شيئ حسن طبعاً، إلا أنه واقعياً لم يفعل ذلك، إذ كرر مرات عديدة أنه : كردي / فيلي، وأنه شيعي، ولم تكن له قط رؤية عراقية شاملة، للحركات الوطنية والقومية العراقية المنخرطة في مسيرة النضال العراقي من أجل تعزيز الاستقلال وتحقيق المكتسبات الوطنية للشعب العراقي.
- يتمتع السيد عزيز الحاج بقدرة غريبة على لوي عنق الحقيقة التاريخية، مع أن التاريخ الكرونولوجي يحفظ لنا كيف صمم الشيوعيون تصميماً قوياً على إقامة احتفالاتهم في الموصل مع رفض أهالي المدينة والمسؤولين ذلك لأنه قد يثير احتكاكاً غير محمود العواقب، وعندما يؤكد له مدير الحلقة أن عبدالرحمن القصاب بطل التصفيات الدموية أنه تلقى الأوامر من جمال الحيدري عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي، الأوامر بإقامة التصفيات، يتذرع السيد الحاج بعدم معرفته أو نسيانه، أو أنها جرت دون معرفة قيادة الحزب.
- الموصل مدينة لها تقاليدها الوطنية والقومية والعشائرية، وعندما لم تفعل حكومة الزعيم قاسم شيئاً لمحاسبة المجرمين، صاروا يقتصون ويثأرون على طريقتهم الخاصة، وهذه لم تكن لا بتخطيط ولا بأشراف أي حزب أو حركة من أي نوع كان.
- 11. يعتبر السيد الحاج أن عبد الكريم قاسم لم يكن ديكتاتورياً بل كان ديمقراطياً …! وهو الذي يوقع خطاباته رسمياً ” الزعيم الأوحد ” في بلد لم تكن فيه مؤسسات ولا قيادات إلا الزعيم الأوحد، الذي كان حكمه يخلو من برنامج ولو بدرجة بسيطة وهو الذي كان يثير الصراعات الداخلية ليطيل حكمه في سياسة لم يسلم منها حزب أو حركة بما في ذلك الحزب الشيوعي نفسه.
- 12. يرتبك السيد عزيز الحاج فعلاً عند ذكر مجزرة كركوك / 1959 ويعترف أنها جرت بدون سبب حقيقي، وأن الرفاق الشيوعيين الذين قاموا بها تصرفوا عندما غلبتهم قوميتهم الكردية على شيوعيتهم ..! فقط لأن تركمان كركوك أرادوا الاحتفال بذكرى ثورة تموز .. لا أكثر ..!( والقائد الشيوعي كريم أحمد في مقابلة تلفازية له، يتجرأ أكثر ويقول التركمان الطورانيين ..!)
- 13. من الغريب أن ينظر قائد شيوعي بمستوى عزيز الحاج، وربما يشاطره الرأي قادة آخرون، إلى الموقف السياسي في العراق من خلال الموقف من الحزب الشيوعي، فهو لا يتحدث عن المنجزات الكبيرة إلا حين يضطر لذكر ذلك، ما يصفه بنفسه ويبرره تراجعاً له، بل لا يتواني عن وصف تلك المنجزات الهائلة في حجمها : كالتأميم ومحو الأمية بالتكتيك …! ثم يصف نفسه بأنه أمين على المبادئ الماركسية ..
- 14. رغم تعاطفي الشخصي مع الحاج، إلا أنني أعتقد أن وصف بهاء الدين نوري له ب” صانع مشاكل” وصف دقيق، ويبدو لي أن مواقفه داخل الحزب كعضو لجنة مركزية (مرشح)، وعضو مكتب سياسي منذ أواخر 1966 وميله لهذا أو ذاك من الكتل، بدت لي مواقف غير مقنعة وصولاً إلى الانشقاق الكبير في ” القيادة المركزية “.
- 15. كنت مطلعاً بدقة على أدبيات القيادة المركزية ومؤيداً لها بشدة، وكنت أعتقد أنها البداية لأن يكون الحزب الشيوعي العراقي حزب عراقي عربي منتمياً للوطن والأمة جذوراً وظلالاً. وفي تعرفي لاحقاً على قيادات من القيادة المركزية وجدت مثل هذا الأمل، يتصاعد ويخبو يتفاوت بحسب نوعية القادة، الذين كنت أجد في بعضهم شخصيات رائعة حقاً، متفهمين تماماً لأزمة الحزب الشيوعي العراق والأحزاب الشيوعية العربية عامة، وبالفعل كانت مثل هذه التوجهات (الأكثر نضجاً) موجودة في الحزب الشيوعي السوري (خاصة)، والأردني، واللبناني..
- 16. جوهر المشكلة أن الأحزاب الشيوعية العربية (عامة) كانت بعيدة عن عقل وقلب المواطن، وهنا بالضبط يكمن عدم نجاحها، ولم تحقق شيئاً، فالأحزاب الشيوعية (والعراقي خاصة) أخذت على عاتقها محاربة الشأن القومي وهمومه الكثيرة، فلا جدال أن الأمة تشكو تجزئتها، وتشعر أن معاركها كانت وستبقى واحدة، كما أن الإسلام له موقعه في الثقافة فتجاهله لن يعود إلا بالضرر على من يتجاهله، وكذلك القضية الفلسطينية التي يتباهى الشيوعيون بتجاهلها.
- 17. اعتقدت ومثلي الكثيرون في تلك الفترة، أن التوجهات الشيوعية الحديثة ستخرج عن إطارها القديم وتتوجه إلى الجماهير بشعارات وممارسات جديدة، هكذا كان الاعتقاد والأمل بالقيادة المركزية، أن يكونوا أحزاباً من وسط بلادهم وشعوبهم، لا نسخاً مستنسخة من توجهات تحمل ثقافة غريبة عنها.
- السيد الحاج لم يشأ أن يؤكد أي من هذه المبادئ، سوى صراعه مع خط آب، وبصراحة لا أجد فيه سبباً جوهرياً للانشقاق الكبير، وخط آب لم يكن ينطوي على خلاف آيديولوجي مهم رغم أن السيد الحاج يريد أن يؤكد ذلك، فقضية شعار إسقاط النظام الآن أو فيما بعد (النظام العارفي) لم تكن مسألة جوهرية، ربما كان الموقف من نظام عبد الكريم قاسم أكثر جوهرياً بكثير، فالموقف من نظام قاسم هو سبب مصائب الحزب الشيوعي العراقي، وعليهم أن يجدوا الأسباب ويشخصوها بدقة، ثم أن يقفوا منها موقفاً نقدياً شجاعاً.
- 19. كان النظام السابق قد أنصف السيد عزيز الحاج، فالقيادة المركزية كانت قد أعلنت الكفاح المسلح رسمياً وقاموا بعمليات ضد النظام، في الزمن العارفي والبعثي، وعندما القي القبض عليهم، أطلق سراحهم بعد فترة وجيزة، مع أن بعض من فعالياتهم أوقعت قتلى وجرحى وخسائر مادية، وعاش السيد الحاج مدللاً من السلطات وبأعلى المستويات.
- 20. السيد عزيز الحاج يكرر ما وجهته الأحزاب الشيوعية (السوفيتية) للمناضل تشي غيفارا واتهمته بالمغامر، وأن حركته غير تاريخية، في وقت مارس الحزب الشيوعي بجناحيه: القيادة المركزية، واللجنة المركزية، الكفاح المسلح، ضد أنظمة وطنية (بصرف النظر عن مستوى الخلاف سياسياً معها)، في حين أنها هادنت، بل تعاونت مع عدو محتل للوطن، وتعاملت معه سياسياً لدرجة التعاون. ودخلت البرلمان تحت حراب الاحتلال، ثم وزارة حاكم العراق المحتل بريمر، وحكومات تلتها.
- 21. إذا قبلنا أن نضال غيفارا في أفريقيا، ثم في بوليفيا، غير تاريخي(رغم أنه كان في الأولى ضد قوى تدخل إمبريالي في الكونغو، وضد حكومة ظل أمريكية في بوليفيا)، ولكن بالمقابل هل كان الكفاح المسلح في عهد الرئيس عارف، ثم في زمن البعث، ثم القتال إلى جانب قوى العدوان الإيراني نضالاً تاريخياً ..؟
- طيلة المقابلة حاول عزيز الحاج أن يدافع عن نفسه، فلم ينجح، وحاول أن يكرس خطاً نظرياً أطلقه في العراق في الستينات، فأخفق، من خلال قبوله بالنقد ليقوم بهجوم معاكس فكان فاشلاً بدرجة ذريعة، رغم أن مقدم الحلقات كان يجاريه ولا يحرجه …!
- بتقديري الشخصي أن السيد عزيز الحاج يمتلك قدرات نظرية / ثقافية جيدة، ومن المدهش أن هذه القدرات لم تساعده في أو يحقق مسألة مهمة، ولكني اعرف كأستاذ علوم سياسية وكمؤرخ، أن الفلاسفة والمثقفين لا يصلحون كقياديين كبارفي الأحزاب أو مسؤولين في الدول، ليس لخلل بهم، بل الخلل بمن يحيط بهم من قياديين يتمتعون بالشراسة والقوة الشخصية الطغيانية، ويندر أن ينجح قادة مفكرين بأن يكونوا قادة تأريخيين، إلا نادراً، بمستوى لينين وماوتسي تونغ، وحتى هذا القائدان العبقريان تآمروا عليهما وماتا قهراً وكمداً، ولا أزعم بالطبع أن السيد الحاج يمتلك قدرات لينين وماوتسي تونغ ..!