“طاغور” . . شاعر الهند و الانسانية
ولد شاعر الهند الكبير “رابندرانات طاغور” في السابع من أيار 1861م لأسرة ميسورة من طبقة البراهما الكهنوتية , و كان والد طاغور مصلحاً اجتماعياً ودينياً معروفاً وسياسياً ومفكراً بارزاً , أما والدته “سارادا ديفي” فقد أنجبت 12 ولداً وبنتاً قبل أن ترزق بطاغور.
لم ينتظم طاغور في أي مدرسة فتلقى معظم تعليمه في البيت على أيدي معلمين خصوصيين، وتحت إشراف مباشر من أسرته، التي كانت تولي التعليم عناية خاصة ، واطلع طاغور منذ الصغر على العديد من السير ودرس التاريخ والعلوم الحديثة وعلم الفلك واللغة السنسكريتية، وبدأ ينظم الشعر في الثامنة , وفي السابعة عشر من العمر أرسله والده إلى إنجلترا لاستكمال دراسته في الحقوق، حيث التحق بكلية لندن الجامعية، لكنه ما لبث أن انقطع عن الدراسة، بعد أن فتر اهتمامه بها، وعاد إلى كالكوتا دون أن ينال أي شهادة، لقد وصفه الزعيم الخالد غاندي بأنه “منارة الهند” لكونه حائز على جائزة نوبل للآداب عام 1913م وهي الجائزة الوحيدة التي فازت بها الهند في الآداب.
تزوج طاغور سنة 1883 وهو في الثانية والعشرين من العمر بفتاة في العاشرة من العمر “مرينا ليني” شبه أمية أنجب منها ولدين وثلاث بنات , أحبته زوجته بشدة فغمرت حياتهما سعادة وسرور، فخاض معها في أعماق الحب الذي دعا إلى الإيمان القوي به في ديوانه “بستاني الحب” حتى قال فيها في احدى قصائده “إنها زوجتي لقد أشعلت مصباحها في بيتي وأضاءت جنباته”، توفيت زوجته وهي في مقتبل العمر، ولحق بها ابنه وابنته وأبوه في فترات متلاحقة متقاربه، فخلفت تلك الرزايا جرحاً غائراً , نُشر له عدد من الدواوين الشعرية توّجها في عام 1890 بمجموعته “ماناسي” المثالي، التي شكلت قفزة نوعية، لا في تجربة طاغور فقط وإنما في الشعر البنغالي ككل.
وكانت لسنوات من الحزن والأسى، جراء موت زوجته واثنين من أولاده، أثرها البين في شعره لاحقا التي عكست تجربة شعرية فريدة من نوعها، تجلت أوضح ما يمكن في رائعته “جينجالي”، قربان الأغاني،1912.
في العام 1891انتقل طاغور إلى البنغال الشرقية بنغلاديش لإدارة ممتلكات العائلة، حيث استقر فيها عشر سنوات ،هناك كان طاغور يقظي معظم وقته في مركب معد للسكن يجوب نهر بادما نهر الغانغ، وكان على احتكاك مباشر مع القرويين البسطاءة , ولقد شكلت الأوضاع المعيشية المتردية للفلاحين، وتخلفهم الاجتماعي والثقافي موضوعاً متكررا في العديد من كتاباته، دون أن يخفي تعاطفه معهم.
ويعود أروع ما كتب من نثر وقصص قصيرة تحديدا، إلى تلك الحقبة الثرية معنويا في حياته، وهي قصص تتناول حياة البسطاء، آمالهم وخيباتهم، بحس يجمع بين رهافة عالية في التقاط الصورة وميل إلى الفكاهة والدعابة الذكية، التي ميزت مجمل تجربته النثرية عموما.
لقد عشق طاغور الريف البنغالي الساحر، وعشق أكثر نهر باداما الذي وهبه أفقا رحبا لتجربته الشعرية الغنية، وأثناء تلك السنوات نشر طاغور العديد من الدواوين الشعرية اشهرها “سونار تار” القارب الذهبي، إضافة إلى مسرحيات عدة أبرزها “تشيترا” 1892 , وفي العام 1901، أسس طاغور مدرسة تجريبية في شانتينكايتان، حيث سعى من خلالها إلى تطبيق نظرياته الجديدة في التربية والتعليم، وذلك عبر مزج التقاليد الهندية العريقة بتلك الغربية الحديثة، واستقر طاغور في مدرسته التي تحولت في العام 1921 إلى جامعة “فيشقا-بهاراتيا” أو الجامعة الهندية للتعليم العالمي.
قدم طاغور للتراث الإنساني أكثر من ألف قصيدة شعرية، وحوالي 25 مسرحية بين طويلة وقصيرة وثماني مجلدات قصصية وثماني روايات، إضافة إلى عشرات الكتب والمقالات والمحاضرات في الفلسفة والدين والتربية والسياسة والقضايا الاجتماعية، وإلى جانب الأدب اتجهت عبقرية طاغور إلى الرسم، الذي احترفه في سن متأخر نسبيا، حيث أنتج آلاف اللوحات، كما كانت له صولات إبداعية في الموسيقى، وتحديدا أكثر من ألفي أغنية، اثنتان منها أضحتا النشيد الوطني للهند وبنغلاديش ، لقد كانت أشعاره الإنسانية الداعية إلى السلام والتسامح والإخاء، موضع إعجاب الجميع ، وقد سعى إلى الربط بين الثقافة الهندية التقليدية والأفكار والمفاهيم الغربية، هو الذي اكتسب في النهاية شهرة كأديب وإنسان، لكونه الأميز والأكثر غزارة وتنوعا، وإنتاجاً , وقد غنى له مطرب العراق الكبير “محمد القبنجي” قصيدة مغناة مطلعها :
( يا بلبل غني لجيرانك . . غني وتفنن ألحانك . . )
لقد فجّرت المعاني السامية للمحبة والجمال في ديوانه جيتنجالي الذي عبر فيه عن أمل جديد للإنسانية وهي غارقة في الحرب العالمية الأولى , وعندما كان طاغور يرتقب الموت مريضاً ببصيرة صافية كانت الحرب العالمية الثانية قد اندلعت كتب :
( عندما ارنو بصري من حولي، أقع على أطلال مدنية مغرورة تنهار وتتبعثر في أكوام هائلة من التفاهة والعبث , ومع ذلك فلن أذعن للخطيئة المميتة في فقدان الإيمان بالإنسان؛ بل إنني بالحري سأثبِّت نظري نحو مطلع فصل جديد من فصول تاريخه، عندما تنتهي الكارثة ويعود المناخ رائقاً ومتناغماً مع روح الخدمة والتضحية سيأتي يوم يعاود فيه الإنسان ذلك الكائن الأبيّ خطّ مسيرته الظافرة على الرغم من كافة العراقيل، ليعثر على ميراثه الإنساني الضائع )
لقد كانت فلسفة طاغور فلسفة الحب والجمال والأمل والثقة بالإنسان، المبنية على تفتح روحه، وتطور وعيه، وتحقيق طاقاته. ولهذا فقد ارتبطت المثالية الإنسانية عند طاغور بالعمل والتطبيق، وكان هو نفسه مثالاً لكل مبدأ أعلنه أو فكرة نادى بها .
والمرأة في ضوء فلسفة طاغور/ تبدو كما يلي :
هي الوحي في فكر العقول تهفو . .
هي الزهر في روض الغرام تنمو . .
هي الطير في جو الهيام تعلو . .
هي النجم في لثام الحب تبدو . .
هي القمر في ظلام الليل تزهو . .
هي الشمس في فضاء الكون تسمو . .
هي السعادة في سماء الحب ترنو . .
هي الروح في أجواء العواطف تجثو . .
هي الجمال في معاني الحنان تشدو . .
هي الفتنة في ألوان الجاذبية تغدو . .
هي الحب في قضايا العشاق تشكو . .
هي قبلات في ليالي الربيع تحلو . .
أمضى طاغور ما تبقى من عمره متنقلا بين العديد من دول العالم في آسيا وأوروبا والأمريكتين، لإلقاء الشعر والمحاضرات والإطلاع على ثقافة الآخرين، وفي أغسطس من العام 1941 في أعقاب فشل عملية جراحية أجريت له في كالكوتا، توفى طاغور عن عمر يناهز 80 عاماً ، و قد انتشر خبر وفاته في العالم أجمع فقوبل الخبر بالوجوم و الأسى ، وشارك الهند في مصابها فيه . . سائر الأمم . . إذ لم يكن طاغور شاعر الهند فحسب بل كان شاعر الإنسانية جمعاء .
بقلم الكاتب
عبد الكريم جعفر الكشفي