من خلال 2000 كلم عبر الطرقات والأنهار داخل البرازيل تكشّف رأي إجماعي من مختلف الجهات: لقد بشر ”بولسونارو” بعصر جديد من الدمار.
من بعيد يتراءى الأمر وكأنه إعصار: عمود رماديّ ضخم يتلهم آلاف الأمتار من المساحات الغابوية الخضراء ليشفطها عاليا نحو سماء الأمازون.
أما عن قرب، فيبدو الأمر وكأنه الجحيم بعينه: حريق مستعرّ يمحو منطقة تلوى أخرى تندرج ضمن أعظم الغابات المطرية في العالم، بينما تسمّر قطيع أبقار في حيرة وهو يتطلّع إلى هول الكارثة.
يقول ”فالدير أورومون”، وهو رئيس إحدى القرى الأصلية المتموقعة في هذا الركن المعزول من ولاية روندونيا البرازيلية، “لقد بدأ الأمر هذا الصباح”، حيث كانت أعمدة الدخان الشاسعة تلوّح فوق أفق القرية التي تم تشييد منازلها بواسطة القش والجريد.
بحلول وقت متأخر من الظهيرة، وبمجرد وصول فريق صحيفة ”الغارديان” إلى الموقع، شبّت النيران في حريق كارثي، متوجّهة نحو الشمال عبر شريط الغابة الذي، ربما، كان بطول أكثر من 3 كيلومترات.
انجرفت أعمدة ضخمة من الدخان في السماء كما لو أن النار اجتاحت الغابات القريبة من الحدود الشمالية الغربية للبرازيل مع بوليفيا، وكأن المنطقة تعرضت إلى حملة قصف عنيفة.
كانت الأنوار مضاءة في المزرعة القريبة من الحريق، ولكن لم تكن هناك أي رؤية – فليس هناك من يطفئ الحرائق العظيمة.
ولكن عند مدخل المزرعة كان هناك برميلا وقود فارغين، بالإضافة إلى مجموعة من الأوعية البلاستيكية الملقاة، مما لمح لنا إلى هوية الجاني المحتمل – إن مربّي الماشية يحرقون مساحات أخرى من الغابة البرازيلية من أجل توسيع نطاق الأمازون الخاص بهم.
بعد ثلاثة أسابيع من اندلاع حريق الأمازون المروع في البرازيل الذي تسبب في ضجة دولية كبيرة، أطلقت حكومة ”خايير بولسونارو” اليمينية المتطرفة حملة عالمية كمحاولة منها لإقناع الرأي العام العالمي بأن كل شيء تحت السيطرة.
أصر وزير الخارجية البرازيلي ”إرنستو أرايجو” في مقابلة مع شبكة سي إن إن: “أن الأمازون لا يحترق ولم يحترق على الإطلاق”.
كما اتخذ حاكم منطقة ”روندونيا”، حليف ”بولسونارو”، ”ماركوس روشا”، موقفا متطابقا، حيث رفض “الجلبة” المقامة بشأن حرائق الأمازون واعتبارها مكيدة أجنبية لتقييد اقتصاد البرازيل.
يقول ”روشا”، وهو عقيد شرطة متقاعد: “إذا نظرنا إلى الوضع في بلدان أخرى، فإن غاباتها تحترق بشكل أكبر من هنا في البرازيل. اذهب إلى لندن أو إلى بلدان أخرى، فماذا سترى؟”
”إنه ليس ضبابا، بل هو عبارة عن دخان ناتج عن احتراق المواد داخل المصانع، إذن، كيف لهم أن يطلبوا منا شيئا لم يفعلوه بأنفسهم”.
رفض ”خواو كريسستومو”، عضو مجلس البرلمان في ”بورتو فيلهو”، عاصمة ”روندونيا” بالبرازيل، الإدّعاءات بأن البلاد تدخل في حقبة جديدة من الدمار بمنطقة الأمازون وأصر – على نقيض مجموعة متزايدة من الأدلة – على أن التحفّظ هو أولويّة قصوى بالبرازيل في عهد الرئيس ”بولسونارو”.
تشير الإحصائيات الصّادرة عن وكالة الفضاء البرازيلية – التي تمت إقالة مديرها الشهر الماضي بعد خلاف مع الرئيس ”بولسونارو”- إلى أن نسبة إزالة الغابات قد ارتفعت في الأشهر الأخيرة، حيث تم فقدان منطقة بحجم مانهاتن كل يوم خلال شهر يوليوز الماضي.
ولكن ”كريسوستومو” أكّد أن ”بولسونارو” كان “يبذل كل الطاقة الممكنة من أجل إيقاف عمليات إزالة الغابات الجامحة”، كما لاحق ”بولسونارو” الزعماء الأوروبيين، مثل الرئيس الفرنسي ”إيمانويل ماكرون”، الذي شكّك في رؤيته للأمازون.
يقول كريسوستومو: “إنه ليس رئيسا للبرازيل. بل حتى أنه لا ينتمي إلى الأمريكتين أصلا. إن هذه الغابة ليست مشتركة، كما يدعي. إنها تنتمي إلى أمة تتمتع باستقلال كامل وسلطة لتقرير ما قد يحدث للغابة، كما أنها تتخذ سائر تدابير العناية الممكنة للحفاظ عليها”.
لقد كُشف عن مدى بهتان هذا الادعاء الأخير، حيث ارتحلت صحيفة الغارديان هذا الأسبوع لحوالي 2000 كيلومتر على طول الطريق البرية والنهرية عبر أكثر ولايتي أمازون تضررتا من حرائق هذا العام، وهما ولايتا ”روندونيا” و”أمازوناس”.
على طول الطريق، تكاد تتطابق التصريحات الصادرة من أفواه زعماء القبائل الأصليين وصائدي الذهب والنّاشطين في مجال البيئة والمسؤولين الحكوميين: إن رفع ”بولسونارو” للحماية والخطاب المعادي للبيئة ساهما في زيادة حجم الحرائق بشكل مهول-لقد تم تسجيل أكثر من 30 ألف حريق في شهر غشت لوحده- حيث بدأ عصر جديد من الدمار يبدو أنه سيستمر حتى بعد نهاية موسم الحرائق السنوي خلال الشهر المقبل.
لقد أعرب مسؤول كبير- الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته – من وكالة البيئة البرازيلية إباما (Ibama) عن أسفه الشديد من خلال قوله: ”إنها فوضى عارمة. فوضى، فوضى، فوضى”.
وأضاف المسؤول: “إذا استمررنا على هذا المنوال، فإن الأمور ستزداد سوءًا”، أما دبلوماسيا، فإن سبب ارتفاع وتيرة إزالة الغابات خلال الأشهر الثمانية الأولى لتولي ”بولسونارو” منصب رئاسة البلاد يرجع إلى “الوضعية السياسية” في البرازيل، حسب تعبيره.
لم تكن الأمور سهلة أبدا أمام النشطاء والوكلاء الحكوميين الذين يسعون إلى إبطاء عمليات تدمير الغابات المطيرة في المناطق الشاسعة، حيث مازال الكثير منهم يسمونها “فارويست” البرازيل (غرب البرازيل المتوحش).
في مدينة ”هوميتا” النهرية بولاية ”أمازوناس”، ينتصب المقر الرئيسي لوكالة ”إيباما” (Ibama) على الأنقاض بعد عامين من اقتحامه ونهبه وحرقه تسويةً بالأرض من قبل صائدي الذهب غير الشرعيين انتقاما لدرع الوكالة لهم.
والآن، ومع تزايد تفكيك نظام الحماية البيئية في البرازيل، توقفت عمليات ”إيباما” هناك بشكل تام.
توقفت ثلاثة مكاتب إقليمية تابعة لوكالة ”إيباما” عن العمل- في ”خميتا” و”بارينتس” و”تباتينغا”- فيما تُرك مركز قيادة واحد فقط، ليعمل في العاصمة ”مانواس” على محاربة الجرائم البيئية في منطقة حجمها أكبر من حجم إسبانيا بثلاث مرات.
في رسالة حديثة إلى رئيس ”إيباما” الجديد، أعرب عدة مئات من المسؤولين عن “قلقهم الشديد” حُيال الاتجاه الذي تسلكه منظمات حماية البيئة الحكومية.
عبّر ”مارسيو تنهاريم”، وهو زعيم محلي من محمية بالقرب من بلدة خميطة، عن خشيته من تسارع تدفّق مزارعي الصويا ومربي الماشية وشركات المعادن على المنطقة، حيث شجع الرئيس البرازيلي الجديد على ممارسة مثل هذه الأنشطة في مناطق اعتبرت محميّات سابقًا.
يقول تنهاريم: “نحن لسنا مستعدين لكل لهذا”، وتوقع أن “مثل هذا التطوّر” لن يجلب “أي شيء سوى البؤس” للشعب.
وفي حين ينفي الرئيس ”بولسونارو” أن يكون كل هذا صحيحا – يرى الكثيرون في المنطقة أن مخططه المتعلق بالأمازون هو بمثابة نعمة حلت على البرازيل.
وقد فسّر ”مارتينز تافاريس” ذو الـ33 عامًا، وهو يعمل كمنجّم ذهب، أنه قام رفقة جميع زملائه تقريبًا بتأييد ”بولسونارو”، معتقدين بأن وعوده بفتح الأمازون ستساعدهم على إطعام أسرهم.
فيما عبّر ”روي سوزا”، وهو صاحب محطة البنزين التي تقع على الجانب المائي من بلدة هميطة، والتي تبيع الوقود لصائدي الذهب، عن مدى تفاؤله أيضًا بكون أن ”بولسونارو” سيقوم بالتخلص من الاحتياطيات البيئية والأصلية للبلاد حتى يمكن استغلالها تجاريًا.
”إن أمازوننا غنية جداّ يا صديقي، ولكنه لا يُسمح لنا باستخدام أيٍّ من مواردها”.
في إقليم ”روندونيا” – حيث أيّد 72٪ من الناخبين المرشح اليميني المتطرف في انتخابات العام الماضي – كان الدعم أكثر انتشارًا. تنتشر لوحات إعلانية عملاقة مؤيدة لـ”بولسونارو” على طول الطرق السريعة مكتوب عليها: “سنعمل معاً على تغيير مصير روندونيا والبرازيل!”
يقول ”فيسنتي كوستا”، وهو صاحب مطعم يبلغ من العمر 69 عامًا في بلدة أراراس، “لقد قام الجميع تقريبًا بالتصويت لصالحه.” وقد تم إلصاق ملصقات ”بولسونارو” على سيارات الدفع الرباعي الفضية وكُتب عليها “تغيير البرازيل بصيغة حقيقة”.
تتناقض تلك البهجة مع اليأس المتزايد للعديد من سكان الغابات الذين عاشوا هناك، خلال فترة الستينيات عندما دكّت الديكتاتورية العسكرية البرازيلية الطرقات عبر الأمازون.
خلال حملته الانتخابية وعد ”بولسونارو” بمشاركة أراضي السكان الأصليين. تقول ”فالديلين أورومون”، 28 عامًا، وهي تعلم بأن الحرائق تستمر في الاقتراب من قريتها: ”لهذا السبب صوّت أصحاب المزارع لصالحه، ولكننا لا نريد أن نتقاسم أرضنا”.
“لقد شعرنا بالحزن [عندما فاز بولسونارو]. ولكنه الآن، يتعين علينا أن نناضل، أليس كذلك؟”
لكن ”كريسوستومو” لايزال مصراّ على أن المخاوف المثارة بشأن مستقبل غابات البرازيل هي “في غير محلها تماما”.
اندلع حريق آخر على المشارف الريفية لبلدة ”هوميتا”، وبحلول الليل كان هناك رجلا إطفاء يصارعان من أجل احتواء النيران والسيطرة عليها، ولكن دون جدوى.
قال أحد رجال الإطفاء بمجرد توقفه على إثر اختناق ناري: “إن البيئة مهمة للغاية بالنسبة إلينا، أليس كذلك؟” “يحزننا أن نشهد تدميرها أمامنا هكذا”.
كان من المعتاد، كما جرت عادتنا، أن نتقصّى قصد معرفة من الذي بدأ في افتعال هذه الحرائق العظيمة؟ ولماذا؟ لقد كان الرجال الذين يكافحون لاحتوائها هم أول من اشتبهنا في نواياهم الإجرامية. لقد ظلّوا يحذرون طاقم الصحيفة لكي يغادروا في حالة ما ظلت الحرائق تهدد بالوصول إلى المناطق الظليلة.
وبينما كانت ألسنة النيران تلتهم المروج من كل حدب وصوب، لم يكن طول خراطيم مياههم كافياً للوصول إليها، تطلّع الرقيب إلى المنظر وهو يبدو في حالة من الفزع والخوف.
وقال: “إننا نقوم بحملات كل سنة (ضد إضرام النيران)، ولكنه يبدو كما لو أنه كلما زدنا عدد الحملات التي نقوم بها، كلما أصبح الوضع أكثر سوءًا »,