اغتيال راينر هايدريش
عملية اغتيال راينهارد هايدريش (Reinhard Heidrich) (نائب حاكم المحمية الألمانية تشيكوسلوفاكيا) التي جرت في 27 / أيار / 1942 كانت عملية الاغتيال الوحيدة التي تمت بنجاح تام ضد قيادات الحزب النازي. وغوبلز (القائد في الحزب النازي ووزير الدعاية) نعاه في نوبة غضب بوصفه أخ لهتلر.
كانت سيارة المرسيدس المكشوفة التي تحمل الرقم (SS-3) في ذلك الصباح من شهر أيار تسير بسرعة منخفضة وهي تقترب من منحى حاد في ضاحية مدينة براغ ليبين، حيث يضطر سائق السيارة لأن يقودها بأبطأ ما يمكن من أجل أن يستدير نحو اليمين.
مباشرة خلف المنعطف، برز فجأة رجل يحمل غدارة (مسدس رشاش)، بريطانية من نوع ستين (Sten) في الشارع، وصوب سلاحه صوب الشخصين الجالسين، ولكن لم يطلق النار، توقفت السيارة، وبعدها بثوان سمع انفجار ودوي قوي، الرجل الذي كان يجلي بجانب السائق خرج من السيارة وصوب بأتجاه المهاجم، فيما ركض السائق صوب يحاول اللحاق برجلين كانا يستخدما دراجة هوائية.
بعد وقت قصير قطعت إذاعة براغ برامجها، ” انتباه … انتباه … ” أعقبه بيان رسمي، أن في 27 من أيار ، وفي الساعة 10,30 جرت في مدينة براغ اعتداء على حياة نائب حاكم المحمية هايدريش “.
” جلاد الرايخ الثالث ” هكذا وصفه الكاتب والأديب الألماني توماس مان (Thomas Mann ) (حامل جائزة نوبل في الأدب)، ويكونه أحد الرؤوس الأساسية للنظام النازي، برتبة قائد قوات، ورئيس في جهاز الغستابو (Gestabow) رئيس الدائرة العليا للأمن الألماني، الجنرال في الشرطة ونائب وحاكم محمية بوهيميا، وقد حاول هايدريش أن يستخدم سلاحه (مسدسه الشخصي) ويطلق النار على المهاجمين، ولكنه أنها سقط أرضاً في مكان الحادث.
قذف أحد الرجلين بقنبلة يدوية (رمانة) التي انفجرت أماالسيارة إلىخلفي للسيارة وأصابت هايدريش بجرح بالغ. وقد دفع الانفجار شظايا القنبلة اليدوية وجزء من مقعد السيارة إلى ظهر الضابط الشاب البالغ 38 عاماً من العمر، كما تسببت بكسر في ضلعه وتمزق الحجاب الحاجز.
وبالصدفة كانت تمر شاحنة بالقرب من المكان، تولت نقل هايدريش إلى مستشفى تشيكي قريب، ومر وقت ثمين، لأن الرجل المصاب إصابة بالغة طلب العلاج على يد طبيب ألماني حصراً، الذي أستدعي على جناح السرعة من مستشفى في وسط المدينة، وكان بسبب العجلة قد نسي نظاراته، وهكذا فالعملية الضرورية لم تبدأ إلا في الساعة 12 ظهراً حيث كان ينبغي استئصال الطحال الممزق من جسد هايدريش.
وحين علم هتلر بالحادثة، فتولته سورة من الغضب الشديد إذ كيف يتنقل القائد هايدريش بدون حماية كافية، ثم أمر برصد مبلغ مليون مارك ألماني، كمكافأة للقبض على الفاعلين، وفي نفس الوقت أعلنت إدارة شرطة المحمية غلق المدينة براغ وأعلنت حالة الطوارئ.
وبعد بضعة أيام كان هاينريش هيملر وزير الداخلية وقائد قوات النخبة (SS) حاضراً في براغ يتفقد أفضل قادته ومساعديه، وقد جلب معه أفضل أطباء هتلر لإنقاذ حياة هايدريش. وكتب وزير الدعاية غوبلز في مذكراته بتاريخ 2 / حزيران أن ” أن فقدان هايدريش في هذه الظروف، خسارة لا يمكن تعويضها، وأنه يرى أنه هو أيضاً يمكن أن يكون هدفاً لمؤامرة اغتيال بقوله ” وأني لست على استعداد لتلقي رصاصة في البطن “.
وبعد أن تحسنت حالة هايدريش الصحية، انتكست صحته مرة اخرى بسبب التهاب في تجويف البطن، وانتابته حمى شديدة وتكرر حالة فقدان للوعي، وبعد صراع لمدة ثمانية أيام مع الموت، توفي يوم 4/ حزيران / 1942 بتسمم الدم. وربما كان بوسع هايدريش مواصلة الحياة باستخدام البنسلين الذي لم يكن متوفراً إلا في إنكلترا في ذلك الوقت.
جاء اغتيال هايدريش في ذروة سلطته، وقبل أشهر قليلة كان قد ترأس مؤتمر فانزي ((Wannsee في برلين والذي ناقش فيه مسؤولون وزاريون قياديون في قوات (SS) ” الحل النهائي للقضية اليهودية في أوربا “. وفي أواسط عام 1941 كان هايدريش قد استلم خطاباً موقعاً من هيرمان غورنغ(الشخصية الرئيسية في الرايخ الثالث) أذن فيها لهايدريش القيام بما ينبغي والتنسيق في جميع الخطوات اللازمة، وهكذا بدأت الخطط التفصيلية للقتل الجماعي في معسكرات الإبادة.
ويصف روبرت جيروارث المختص بكاتبة سيرة هايدريش، بأنه كان ” شخصية رئيسية في دولة الرايخ الثالث ” و ” المنفذ الرئيسي لسياسة الإرهاب النازية ” وكانت له صلاحية استخدام القوات في الشرق وإطلاق النار جماعياً على اليهود، وكان رئيساً للغستابو” الشرطة السرية ” (Gestapo)، كما قام بأعتقال يهود أوربا الغربية وترحيلهم إلى أوربا الشرقية، ويقول مؤرخ الهولوكوست راؤل هيلبيرغر، وبذلك كان هايدريش يمسك بخيوط عملية إبادة اليهود بين يديه.
عملية انثروبويد (Anthropoid)
كان موت هايدريش نهاية ناجحة لعملية تم إعدادها بدقة من أجهزة استخباري، كان العمل قد أستغرق فيها أشهر عديدة. وكانت أبرز شخصياتها هما : جان كوبيس (Jan Kubiss)، وجوزف غابيك (Jozef Gabik) وهما برتبة نائب ضابط سابق في الجيش التشيكوسلوفاكي، وقد أكملا فترة تدريب خاصة إضافية في بريطانيا، على أعمال التخريب. وفي ليلة 29/ كانون الأول ــ ديسمبر / 1941، قذفا بالمظلات من طائرة بريطانية بالقرب من براغ.
أطلق على عملية اغتيال القائد هايدريش أسم انثروبويد (Anthropoid). وهي تسمية ساخرة تنطوي على إشارة إلى الأيديولوجية العنصرية النازية : الأنثروبويد هي إشارة إلى المصطلح اليوناني القديم إلى ما يسمى “الرجال الحيوانات” الرجال بدرجة التبعية .
أستطلع المتطوعان لعدة أشهر عادات وطباع هايدريش، من أجل تحديد أنسب موقع لتنفيذ عملية الاغتيال حتى اختارا الموقع الذي به منحنى إجباري يرغم سائق السيارة على الإبطاء في سيره لاجتيازه، وهو يقع في ضاحية العاصمة براغ، الذي كان هايدريش يمر فيه كل يوم من مكان إقامته، إلى مقر عمله.
وما أعتبر عاملاً مساعداً، هو أن الألمان وبعد احتلالهم لتشيكوسلوفاكيا، آذار ــ مارس عام 1939الغوا نظام السير في تشيكوسلوفاكيا الذي يعتمد الجانب الأيسر، وسمح للسير في الجانب الأيمن، وكان بوسع الرجلين الاختفاء في منطقة المنعطف، وكان على سيارة هايدريش أن تسير إلى الجانب الداخلي من الطريق، وهذا ما يجعل الفاعلان أقرب للسيارة.
ولم تكن القيادة الألمانية في برلين تعرف شيئاً عن الرجلين اللذان ارتكبا الهجوم، فقد أعتقد غوبلز في البدء أن المخابرات البريطانية أو السوفيتية هي وراء الحادث، وأن اليهود هم العقل المدبر لها، على أية حال بدأت على الفور في براغ، كما في سائر أرجاء ” الإمبراطورية الألمانية العظمى ” موجات الاعتقالات وعمليات الإعدام.
” وفي أعقاب حادثة اغتيال هايدريش، نفذ حكم الإعدام بعدد كبير من اليهود في معتقل النازية “ساكسن هاوزن” القريب من برلين، وكلما أزيحت هذا القاذورات جانباً، كان ذلك أفضل لأمن الإمبراطورية ” هكذا كتب غوبلز معلقاً على الأحداث في مذكراته.
في 10 / حزيران ــ يونية / 1942، هدمت قرية تشيكية ودمرت بصورة كاملة، وأطلق رجال الشرطة الألمان النار على كافة الرجال في القرية، والنساء تم تسفيرهن إلى معتقل رافين بروك في ألمانيا، تحت وطأة الاعتقاد بأن الأهالي قد ساعدوا الفاعلين على الهروب والاختفاء. وفي الواقع أن كوبيز وزميله غابيك، ومعهما بعض عناصر المقاومة التشيكية قد لجأوا إلى قبو للموتى في كنيسة في براغ، وقد استخدموا توابيت الموتى كمخابئ.
وعندما قام رفيق لهما بالوشاية عن مكان وجود المقاومين أحاط 800 من رجال ال (SS) بالكنيسة، وعندما لم يتمكنوا من اقتحام الكنيسة (بسبب المقاومة العنيدة) قام الألمان بغمر الكنيسة بالمياه من نهر فلتافا الذي يمر من وسط براغ، وقد انتحر المقامين الثلاثة بإطلاق النار على أنفسهم، وسيطر الألمان على الكنيسة، وقاموا لاحقا بإعدام ثلاثة من رجال الدين إذ اعتبروهم متعاونين مع رجال المقاومة.
حزن غوبلز كثيراً هلى هايدريش، كما ” لو تمزقت أحشاء شقيق له ” ، وهتلر كان مختلفاً في مشاعره وتعبيراته إذ لأعلن بغضب ” هكذا يعرض كرجل لا بديل له كهاينريش للخطر بدون ضرورة، لا يمكنني سوى وصفه بالغباء والحماقة ” ولكن مع ذلك قام جهاز الدعاية في الدولة بتمجيد هاينريش.
الكاتب الألماني الكبير توماس مان عبر بغضب عن مراسم التشييع والحزن في براغ وبرلين للإذاعة البريطانية (BBC) بعد سماعه نعي هملر (وزير الداخلية وقائد ال SS) لهايدريش :
” جزار آخر بدرجة وزير يقول له في قبره أنه كان روحاً نقية، ، وإنساناً يتمتع بدرجة عالية من المشاعر الإنسانية. هذا كل جنون، ولكن القدرة على القول أن هايدريش كان إنساناً نبيلاً ، فهذا يحتاج إلى سلطة، بل سلطة مطلقة لتحديد ما هي الحقيقة وما هو الهراء “.