حركة الاحتجاج التشرينية وإعادة قراءة المشهد العراقي… المنظور والمستور وما بينهما
ليس من المجدي البحث عمّن أطلق ” الشرارة الأولى ” لحركة الاحتجاج التشرينية في العراق، فما إن اندلعت الشرارة حتى سرت مثل النار في الهشيم لتصل إلى السهل كلّه، فحالة الاحتقان والغضب عبّرت عن عمق الأزمة التي تحيط بالعملية السياسية التي ابتدأت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003.
وسرعان ما توسّعت حركة الاحتجاج لتّتخذ شكل هبّة شعبية غير منظّمة، شارك فيها فتية وشبّان جلّهم بعمر الـ 20 عاماً، ومن غير المحسوبين على الأحزاب السياسية المشاركة في السلطة، خصوصاً في ظل استفحال البطالة التي تصل حسب التقديرات الرسمية إلى أكثر من 30% وفي بعض المحافظات إلى نحو 50% من القوى العاملة. ويقدّر أن ربع السكان يعيشون دون خط الفقر، أي بأجور لا تزيد عن دولارين في اليوم، وتفشي الفساد على نحو غير مسبوق، ناهيك عن استمرار نظام المحاصصة الطائفي – الإثني، وانفلات حيازة السلاح واستخدامه بأسماء مختلفة.
إن الطبيعة العفوية للتظاهرات والصفة الاستقلالية للمحتجين هي حالة جديدة تعكس عمق الهوّة بين الأحزاب والتيارات والكتل السياسية، ولاسيّما الحاكمة والمشاركة من جهة، وبين الشارع الذي يضم الأغلبية الصامتة من المواطنين المستلبين والمطحونين والذين فقدوا الأمل في إمكانية إصلاح الأوضاع وتحسين ظروفهم المعاشية، من جهة أخرى.
ولأن السلطة واجهت الحركة الاحتجاجية بالعنف والقمع واستخدام القوة المفرطة، منذ الدقائق الأولى، كما اعترفت لاحقاً، فإن ردود فعل الحركة الاحتجاجية اتجهت إلى حرق عدد من مقرات الأحزاب التي اعتبرتها مسؤولة أو مشاركة في المسؤولية التي وصلت إليها البلاد، الأمر الذي طرح شعارات من قبيل تغيير الحكومة وإقالة رئيس الوزراء وحلّ مجلس النواب وإجراء انتخابات مبكّرة، فضلاً عن النقمة على بعض القوى الإقليمية، حيث ارتفعت بعض الهتافات ضد إيران والقوى المدعومة منها. وكانت بعض شعارات الهبّة الشعبية ذات طبيعة وجدانية من قبيل “نريد وطناً” و”نازل آخذ حقي” و”هيهات منّا الذلة”.
وعلى الرغم من عفوية الشعارات وعدم وجود قيادة موحدة أو هيئة تنسيقية أو تنسيقيات معروفة لإدارة حركة الاحتجاج، فإن الشعارات الوطنية العابرة للطائفية والعرقية كانت هي الجامعة، وهكذا ترفّع هؤلاء الفتية والشبان الذين نشأت أغلبيتهم الساحقة في ظل الحصار الدولي الجائر والاحتلال فيما بعد، من التخويض في المستنقع الطائفي أو الإثني، وتجنبوا كل ما له علاقة به.
ومثلما كان آباؤهم وأخوانهم الأكبر سنّاً يحلمون بتغيير يزيح الدكتاتورية ويحقق طموحاتهم في حياة كريمة، فقد كان هؤلاء يحلمون بعراق جديد ينعمون فيه بالأمن والأمان ويتمتعون فيه بالحدّ الأدنى من الحياة الحرّة الكريمة مثل سائر الشعوب والأمم، فإذا بحيتان الفساد يسرقون حتى أحلامهم ويبدّدون ثروات البلاد لحساباتهم الشخصية، ويتبخّر نحو تريليون دولار (ألف مليار دولار) هي واردات النفط للسنوات المنصرمة، دون أن يتحقّق لهم شيئاً يُذكر على صعيد التنمية بجميع أركانها، وما تزال الخدمات وبشكل خاص الصحية والتعليمية والبلدية دون مستوى الحد الأدنى.
حين يقول المحتجون أنهم يريدون “وطناً”، فهذا يعني شعور قلق وعدم طمأنينة وذلك بسبب التمييز والاستغلال والنهب، الأمر الذي يعني تعاظم الشعور بذبول الهويّة أو تبدّدها وتشويهها، فالوطن يعني وجود مواطنة ومواطنون لهم الحقوق مثلما عليهم الواجبات، ويخضع الجميع للقانون، وحسب مونتسكيو : فالقانون مثل الموت لا يستثني أحداً، وستكون المواطنة مبتورة وناقصة ومشوّهة مع الفقر والعوز والحاجة والجهل والأمية.
يمكن القول بكل بساطة إن هدف حركة الاحتجاج هو تحقيق مواطنة سليمة ومتكافئة وتوفير فرص عمل وإنهاء للفساد ومساءلة المفسدين والحصول على حزمة الخدمات الضرورية ، لاسيّما في العمل والصحة والتعليم والسكن وغيرها، ومثل تلك القراءة لا تلغي التداخلات والاختراقات والتجاذبات التي حصلت لاحقاً، والتي نسب بعضها إلى ضلوع قوى أجنبية لإحداث “فتنة عراقية” تم احتواؤها بطريقة ناعمة حسب مصادر حكومية ، وهو أمر يحدث، لكنه ليس مبرراً لاستخدام القوة المفرطة في مواجهة شعب أعزل وتظاهرات سلمية، كانت حصيلتها أكثر من 120 قتيلاً وما يزيد عن 6 آلاف جريح بحسب التقديرات الرسمية بمن فيهم من القوى الأمنية.
ويمكن استخلاص بعض الاستنتاجات الجديدة من خلال الإضاءة على الأزمة الراهنة:
أولا- تكاتف الطبقة السياسية الحاكمة والمشاركة في الحكم، فلم تنحاز أي منها لجانب الحركة الاحتجاجية، على الرغم من تأكيد جميعها إن مطالبها عادلة ومشروعة، بل أن بعضها يزعم أنها مطالبه التي سبق أن رفعها ودعا إليها، لكنه لم يقف معها وظل موقفه يتراوح بين الرفض والسخط والتشكيك أو لعب دور المتفرج وأحياناً الناصح.
ثانياً – أظهرت الحركة الاحتجاجية أن الصراع الأمريكي- الإيراني على الأرض العراقية قوياً ومؤثراً، وعلى الرغم من حدّته فيما يتعلق بالعقوبات الأمريكية على إيران ومحاولة العراق تجنّب الانخراط فيها أو النأي بالنفس كما يقول بعض ساسته، فإنه ليس بعيداً عنها، سواءً أراد أم لم يرد، وحتى لو كانت رغبة رئيس الوزراء والفريق الحاكم تجنب تأثيراته أو لعب دور توفيقي فيه كما هي زيارة عبد المهدي إلى الرياض، فإنه لن يتمكن من لعب مثل هذا الدور فالقرار لا ينبع من رغبة بقدر ما يعكس توازن القوى على الساحة العراقية. فالعراق نصفه لطهران، بحكم امتداداتها ونفوذها السياسي والمذهبي والأمني وارتباط مجاميع سياسية بها ، ونصفه الثاني لواشنطن بحكم “اتفاقية الإطار الاستراتيجي” التي ظلّت تحكم العلاقات الأمريكية- العراقية منذ العام 2008 ولحد اليوم، وترتب هذه الاتفاقية التزامات على العراق بما فيها التزامات سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية وعلمية وغيرها، ناهيك عن ذيول عملية الاحتلال منذ العام 2003.
ثالثاً– إن السياق الذي سار عليه رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، وهو رجل معتدل وصاحب خبرة، لم يختلف كثيراً عن السياقات التي سبقته إليها الحكومات السالفة ، حيث ظلّ مرهوناً لتوازنات ضاغطة عليه، فلم يستطع بحكم نظام المحاصصة وضع حلول ومعالجات سليمة اقتصادية واجتماعية وثقافية عاجلة لمعالجة الأزمة البنيوية التي يعاني منها العراق منذ الاحتلال الأمريكي ، وظلّ أسيراً لتلك التوازنات التي دفعته إلى دست السلطة، ولعلّ بعضها يرغب في دفعه خارجها بعد أن أصبح وجوده فيها أمر واقع.
رابعاً- تم اختيار عادل عبد المهدي من خارج البرلمان وضمن صفقة سياسية توافقية لعبت فيها مرجعية السيستاني الدور الأكبر وبموافقة إيرانية ودون اعتراض أمريكي، وقد كان “مرشح تسوية”، حيث كانت المنافسة في الجولة الأخيرة بينه وبين فالح الفياض، لكن حظوظه كانت أوفر من الآخر الذي تولى منصب مستشار الأمن الوطني ومسؤولاً عن “الحشد الشعبي”، وهو جيش موازٍ للجيش النظامي، حتى وإن أُخضع لنظامه، لكن تشكيلاته كانت متمايزة عنه، وقد تأسس عقب احتلال داعش للموصل بعد 10 يونيو (حزيران) 2014 وتمدّده في محافظات صلاح الدين والأنبار وأجزاء من ديالى وكركوك وصولاً للعاصمة بغداد.
خامسا– إن الهبّة الشعبية هي امتداد لهبّات سبقتها، وإذا كانت هذه المرّة في المناطق ذات الأغلبية الشيعية مثل الحلة والديوانية والنجف وكربلاء والعمارة والناصرية والبصرة وغيرها، إضافة إلى بغداد ، فإن حركة الاحتجاج في المناطق ذات الأغلبية السنية سبقتها في أواخر العام 2012 وما بعدها، حيث عانت تلك المناطق من كل ما تعاني منه المناطق الشيعية، إضافة إلى التهميش والعزل والإقصاء والتمييز، والجميع عانوا من نظام المحاصصة والفساد وضعف مرجعية الدولة على حساب المرجعيات الأخرى.
وقد شهد العراق حركة احتجاجات سلمية واسعة منذ العام 2011 تلك التي اندلعت برفع مطالب شعبية عامة خارج دائرة الاصطفاف الطائفي والإثني . ووصلت في العام 2015 إلى اقتحام ” المنطقة الخضراء” وصولاً إلى البرلمان، حيث تم العبث ببعض ممتلكاته، وهكذا لم تنجُ الحكومات المتعاقبة في عهد المالكي والعبادي واليوم عبد المهدي من الاحتجاجات الصاخبة.
سادساً- كانت حكومة إقليم كردستان الأكثر وضوحاً في موقفها السلبي من حركة الاحتجاج ، لاسيّما للدعوات التي ارتفعت لإقالة عبد المهدي، وازدادت خشيتها من دخول السيد مقتدى الصدر رئيس “كتلة سائرون” على خط الأزمة، حين دعا في تغريدة له إلى استقالة حكومة عبد المهدي والذهاب إلى إجراء انتخابات مبكرة، وكان بيان قد صدر بعد لقاء مسعود البارزاني رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني ود.أياد علاوي رئيس كتلة الائتلاف الوطني العراقي، أكّد فيه الجانبان على دعم حكومة عبد المهدي، خصوصاً وإن الكرد وحكومة الإقليم لم يجدوا أكثر منه مرونة في الاتفاق على تسوية المشاكل العالقة، والتي قد تمهّد الطريق أمام معالجة موضوع النفط وغيره من المسائل العقدية.
وإذا كانت حركة الاحتجاج لم تتمكّن من الاستمرار بذات الزخم بعد نحو أسبوع من المواجهة غير المتكافئة، لاسيّما عدم وجود ظهير سياسي يقف خلفها، ناهيك عن استخدام القوة المفرطة ضدها، أو احتواء بعض مطالبها بإجراءات تجميلية أو تهديئية، لكنها من جهة أخرى عمّقت الشرخ بين الشارع والحكومة وبين الشارع والأحزاب السياسية التي يتهمها المحتجون بأنها أسّ الفساد، وهو أمر قد يتكرّر إذا لم تكون الحلول سليمة والوعود منجزة وسريعة.
لقد اضطرّت الحكومة على لسان رئيس الجمهورية برهم صالح الاعتراف باستخدام القوة المفرطة ضد المحتجين، وطالبت بمحاسبة المسؤولين عن ذلك، وخصوصاً بعد اقتحام مدينة الصدر وسقوط عدد من القتلى، وكمعالجة عاجلة وسريعة لاحتواء الأزمة أصدرت الحكومة 17 قراراً صادق عليها البرلمان لامتصاص الغضب الشعبي ، وبعض تلك الإجراءات مؤقتة وليست أكثر من حقنة مورفين مهدّئة : رواتب لمدة 3 أشهر للعاطلين ووعود بتمليك قطع أراضي وإيجاد فرص عمل وبرامج تدريب وقروض للشباب وضرب المفسدين (إحالة نحو 1000 ملف فساد إلى القضاء) وغير ذلك، لكنها لم تطفئ غضب الشارع.
وكانت الحكومة قد لجأت إلى بعض الإجراءات العقابية للحدّ من تأثير حركة الاحتجاج مثل التعتيم الإليكتروني وقطع الانترنيت واعتقالات ومداهمات لبعض المشاركين في الحركة أو الذين حاولوا اختراقها، وضع حواجز وتقطيع شوارع وطرقات للحيلولة دون وصول المحتجين إلى أماكن التجمع الرئيسية، إلا أن الحركة الاحتجاجية وإن خفّت نبرتها استطاعت من بلورة المطالب الشعبية الرئيسية وإعادة صياغتها وأجبرت الحكومة على التراجع، خصوصاً حين تعمّق كشف المنظور وأزيح الستار عن المستور، وما يزل جدار الأضداد ينذر بالمزيد من التباعد بين الحكومة والمجتمع، ناهيك عن أن صراع الأضداد يزداد اتساعاً، ولاسيّما بين طهران وواشنطن.