لمْ نأتِ إلى هنا من أجل الجلوس، قالها فنر بلغة فضة، دفعت وليد القائد المعتد بنفسه الاستفسار بغرابة عن أسباب المجيء، وبلغة مؤدبة فيها قدر من الصرامة. فأجاب فنر، الذي حاول أمام جماعته الظهور بمظهر قوي، من أين يأتي الخير والخونة مندسين بيننا . . ؟ لا تطيل الكلام، أنت موقوف بأمر من الحزب، تفضل معنا. رمق وليد مسؤوله عضو القيادة بنظرة تعجّب، لها معان كثيرة. لم يعلق على الكلام الذي ملأ الغرفة، استعراضاً قلقاً أبداه الحضور، جميعهم من دون استثناء . . اشادة بالقائد الضرورة، وبالحزب العظيم، وبمواقف الاخلاص للثورة والوطن، وكلمات أخرى، ذات معان فارغة المحتوى، كأنها جوفاء، يريد اصحابها تبادل اثبات الولاء فيما بينهم، وان كان مغلفاً بالخوف، وإن كانوا هم في المراكز العليا من حكم البلاد. مد يده بثبات الى غطاء الرأس « البيرية »، لتكتمل قيافته العسكرية كما هي عادته، ومن بعدها قدم كلتا يديه، بثبات أيضاً، الى الرفيق الذي كان يشاركه الرمي قبل نصف ساعة من الآن، إشارة لوضع الأغلال، معلناً جهوزيته وهو هكذا، وقبل أن يخطو خطوته الأولى معتقلاً على يد الرفاق، قال بصوت أقل حدة، لقد أستعجل كثيراً. ماذا تقول . . ؟ لا لم أقل شيئاً، أتكلم عن دوران العجلة ماذا تقصد . . ؟ أمور لا يمكن أن تفهمها , قد تفهمها مستقبلاً، إذا لم يطولك غبارها. صف الضباط الواقف على جنب، في الممر الطويل، بدعوى الترحيب بالزائر المهم، يتصدع نفسياً، حال المشاهدة الأولية لمنظر السائرين، أمامهم في هذه الساعة الصباحية من النهار , أمين سر الفرع في الأمام، مزهواً بإلقاء القبض على قائدهم، بطريقة لم تحدث من قبل، ولم يقرأوا عنها في تاريخ الأمم والجيوش، ساسة البلاد يأكلون قادة جيوشهم، كأنهم أعداء , يعقبه هو في المشي، قائد عرف بالجرأة، مكبل اليدين، رافعاً الرأس، وإن وُصفَ من آسريه بالخائن قبل قليل، لا يعترف بتوصيف الخيانة الآتية منهم، رفاق يحسبهم بائسين، ولم يحسبها خيانة بأي حال من الأحوال، هي من وجهة نظره، ومنذ اللحظة الاولى، تصفية حسابات، ومساعي سيطرة على الحكم، وبسط نفوذ مخطط له. يطوقه في المشي ثلاثة هم أعضاء الفرع، ومدير المخابرات الشمالية , يدفعه ضابط المخابرات القادم من بغداد، ببندقيته نصف أخمص، كلما تباطأ في السير، كمن يريد حرمانه من استعراض، طمأنة جمهور يحبه، أو تفويت الفرصة عليه . . فرصة ارادها سانحة لإلقاء تبعة الخيانة على آسريه , لم يؤدوا التحية التي اعتادوا تأديتها , لا يمكنهم تأدية التحية . . التحية لا تؤدى لموصوف بالخيانة، بحضور واصفيه , ولا لمن نزعت رتبته العسكرية، وسيق مكبل اليدين، مطعونا من رفاقه الجلادين. صوبَّ نظره إليهم، واقفين بلا حراك، مثل تماثيل حجرية، كأنه يريد القول شيئاً لم يفهمه أحد منهم، وإن قرأه البعض وداعاً أخيراً. وقبل أن يبتعد عنهم، دققوا في ابتسامته الشامتة بآسريه، فأخذوا جرعة علاج، لقلق في نفوسهم من التبعات. لقد تركوه هكذا آسفين، وتركهم هو في وضع، كأن الحزن قد تجمد في قلوبهم حائرين، وبات الخوف دفقات تسري متواصلة، في عروقهم المتيبسة , موقف صعب، بل أكثر من صعب، أخذ وسطه الرائد الركن فؤاد حسين علي، صديقه الرائد حاتم عبد الأمير الفيحان جانباً , سأله عن الكيفية التي هوى فيها هذا القائد الفذ، مثل سعف نخيل عراقي، سقط بعد يباس. لم يفهم حاتم قصده، أو لم يريد أن يفهم، وبدلاً من أن يفهم، طلب التستر على القول والمشي جانباً، مردداً العبارة الشائعة في العراق، من أن للجدران آذان , حاول فؤاد الابتعاد عن الجدران، والتحسس من سماعها للكلام، بالخروج معاً الى الباحة المجاورة، بحجة انقطاع النفس، وقرب الشعور بالاختناق، وأجاب عن السؤال الذي وجهه قبل قليل قائلاً : لقد هوى هذا الضابط العظيم، بسبب تاريخه العسكري الفريد، إنه الأول في تخرجه على دورته في الكلية العسكرية البريطانية « سانت هيرست » وكذلك الأول على كلية الأركان العراقية. أجاد اللغة الإنجليزية بطلاقة، فهم العربية بحرفية عالية , ألف في العلوم العسكرية كتباً، وكراسات عدة بعد تخرجه مباشرة , ألمَّ بصنوف الجيش وتعاليمها أكثر من أصحابها , عشق مهنته، بات فيها معلماً من الطراز الأول , أحب عائلته وأخلص لها , قدَّر أصدقاءه القليلين , آراءه عن التوازن والردع، وعن الطبيعة، والتاريخ، وعلوم النفس، والاجتماع تبهر سامعيه، تثير احترام العارفين، وعداء الجهلة الوصوليين والانتهازيين. ثم عاود طرح السؤال : هل عرفت، لمَ هوى هذا النجم اللامع، وسط الظلام . .؟ فأجابه : أن هذا الكلام خطير، يأمل عدم تكراره أمام أحد سواي قال حاتم، ومع هذا قد يكون ما حصل نتيجة اشتباه، وقد يعود قريباً الى مقره، خاصة وان القيادة لا تفرط منطقياً، بقائد كبير مثل اللواء وليد , لم يؤيده في هذا الرأي، أكد وهماً يتلبسه في هذا الجانب على وجه الخصوص , ولتعزيز وجهة نظره الخاصة بالوهم، قص عليه ما سمعه من خاله اسماعيل حنتوش، الذي ولد في الكرخ عام 1900، وعاش معهم عازباً في البيت القديم بسوق حمادة، من أن صناعياً من أهل الكرخ، كان ماهراً في صنعته. عكف على صنع بندقية تشبه بندقية البرنو الألمانية الشهيرة , أهداها الى الملك فيصل الأول الذي كرمه على صنعها , سأل حاتم، وما شكل العلاقة بين الموضوعين . . ؟ فطلب فؤاد التريث، وعدم الاستعجال حتى انتهاء القصة , وأكمل ان الصنائعي الماهر، مات في السجن بعد تكريم الملك بشهور، بتهمة التجسس للألمان , ومن ذاك اليوم، لم نسمع أحداً في العراق صنع بندقية، أو حتى إبرة لها، وسوف لن نسمع من الآن فصاعداً، عن قائد متميز وعالم كبير , منهياً كلامه بالتأكيد على عدم عودة القائد، لأن وجودهُ عالماً، وضابطاً جيداً أصبح عائقاً أمام تسلق الأقل منه قدماً، ومنزلة من باقي الضباط. فؤاد، أنت تهذي، ماذا تقول . . ؟ دعنا ننتظر الأيام وسنسمع العجب. القائد سيقدم حياته ثمناً لقدرات عالية، وسط صفوف من الجهلة، وصائدي فرص انتهازيين. ما زلت تهذي . . رد وعيونه كادت تدمع حزناً على قائد، وبلد بعبارة قصيرة «وما فائدة الهذيان سوى الترويح عن النفس، التي خارت قواها من وقع الصدمة». إنها رواية وثقت أحداث وتفاصيل كثيرة، بمئتين وأربع وأربعين صفحة، تستحق أن يطلع على موضوعها العراقيون وغيرهم لمعرفة الحقيقة . ( ملاحظة : وردت بعض الاسماء مغايره لأغراض الرواية، والبعض الآخر حقيقية ) اللواء الركن المتقاعد فؤاد حسين علي |