نصب الحرية وساحة التحرير
بصرف النظر عن كل شيئ …. اليوم استحقت ساحة التحرير اليوم أسمها الخالد بعد 59 عاماً من إزاحة الستار عنها .. عملاً فنياً رائعاً ينطوي على قيم فنية عالية، بإجماع أراء النقاد، وأغلب الظن أن الفنان الراحل جواد سليم الذي أنجز هذا العمل الفريد في بضعة شهور كان حتماً قد شاهد لوحة غورنيكا لبيكاسو، وتأثر بأفكارها وأجوائها، وغورنيكا هي حقاً لوحة رهيبة لابد أنها تترك أثراً عميقاً فيمن يشاهدها، وأنا أضع لوحة غورنيكا في مكتبتي منذ 45 عاماً.
ولكن دعونا نفكر معاً، مالذي يمنح العمل الفني قيمته العالية ..؟ هل الخطوط والألوان، وضربات الريشة، والمقاييس الفنية وحدها ؟ أم عذابات الناس التي تركت صداها ومرتسمات الألم ومعاناتهم في يد الفنان وفكره وبصره فأنعكست في عمل فني متكامل بين الفكرة، ومغزى العمل، والقدرة التكنيكية للفنان.
من المؤكد أن القيمة الفنية قضية مهمة في تقييم أي عمل فني، ولكن الفن ليس غاية بذاته، ولخدمة قضايا الناس، هي فكرة صالحة للتعميم، ونحن لا نطالع الأعمال الفنية فقط لنتمتع، بل أن مشاهدة العمل الفني هي ممارسة ثقافية، وهي تعمق الوعي لدى الإنسان وتربط أهدافه ومثله العليا بالفن، باللون، وبمكونات العمل الفني، والعمل الفني لابد أنه سيترك أثره العميق في وعي وثقافة المتلقي، وهنا يؤدي العمل الفني وظيفة وطنية مهمة للغاية، بل يتحول بهذا المعنى إلى سلاح بأيدي الجماهير الثورية في نضالها الشريف من أجل الحرية والخبز …!
بيكاسو رسم لوحته الأشهر على أثر قصف الطائرات الفاشية الهتلرية مدينة غورنيكا في الباسك الأسبانية وأسفر القصف عن مقتل مئات من المدنيين (نحو 500 قتيل) في نيسان / 1937. وبناء على تكليف من حكومة الجمهورية الأسبانية باشر بيكاسو في عمله الفني، وأنجزه في حزيران / 1937، لتعرض كلوحة جدارية بطول 349 سم، وعرض 776 سم في الجناح الأسباني بمعرض باريس للتقنيات والفنون. وبعد سقوط الجمهورية أوصى بيكاسو بملكية اللوحة للشعب الأسباني، وأودعت أمانة لدى متحف متوبوليتان في نيويورك، حتى تحرير أسبانيا لتعود بمراسم فخمة إلى وطنها مدريد / أسبانيا.
والفنان جواد سليم أنجز جداريته بطريقة ربما غير مألوفة فهي تتكون من 14 قطعة من البرونز منفصلة عن بعضها، تمثل مسيرة شعب عبر الآلام وصولاً إلى الحرية، وقد ثبتت على واجهة رخامية عملاقة تشد أبصار الناظرين إليها.
وعندما تطل عيوني على نصب الحرية في ساحة التحرير أتذكر دائماً غورنيكا، وأتذكر نضال شعبنا العراقي، ولكن لنتذكر أن نصب الحرية وجواد سليم منذ إقامته (تموز / 1961) حتى اليوم، شهد أحداثاً كثيرة جداً أمام النصب: تظاهرات، اجتماعات شعبية، حشود جماهيرية، احتفالات كبيرة، واستعراضات عسكرية، ملايين العمال والفلاحين والطلبة مروا من أمام النصب ومن تحته… ليس بوسع أحد أن يقلل من قيمة هذه الأحداث التي جرت منذ 1961 وحتى اليوم 2019، التي بمجموعها تمثل جزءاً كبيرا من تاريخ العراق المعاصر….. ولكن لساحة التحرير ونصب الحرية بعد 1 / تشرين الأول / 2019 صار لها معنى آخر ..
أتخيل اليوم جواد سليم وكأنه نال مراده بعد نحو 60 عاماً من عمله الرائع، والنصب والساحة أصبحتا لا محال في ميثولوجيا الشعب العراقي إلى الأبد، ساحة الحرية والتحرير رشت عليها دماء زكية طاهرة ، تتويجاً لمسيرة نضال وطني من أجل التحرر بذل فيها العراقيون تضحيات خرافية، ولكن دون ريب أن ساحة التحرير بل والعراق كله دخل مرحلة جديدة، وإذا كان تسميتها “ساحة التحرير” مقترحاً من الزعيم عبد الكريم قاسم، وكان يمكن أن يستعاض بأسم نصب الأمة، نصب العراق الجديد … أو الرافدين ..أو أي مقترح آخر … ولكن اليوم الساحة تستطيع بكل جدارة أن تشمخ وتزهو مجدداً بأسمها الخالد ” ساحة الحرية والتحرير” بكل أرجاءها … وأشهرها .. جدارية الحرية .. وجبل أحد (الذي أتوقع أن يصبح متحفاً)، وعمارة مرجان، وثانوية العقيدة ..وحديقة الأمة وسائر التفاصيل وستبقى هكذا مئات من السنين .. جيلنا كان له الحظ برؤية النصب اللقطة الأولى، وكان له الحظ أن يشهد ثورة العشرين الجديدة … الثورة العراقية العظمى .. هذه الساحة اقتحمت التاريخ بعنفوان وهيبة وكبرياء الشهداء.
ساحة التحرير اليوم تضيف لأرثها رموزاً جديدة لتتواصل القافلة العراقية العظيم .. المجد العراقي المكلل بغار الفخار من شهداء ثورة العشرين / 1920، وحتى شهداء ثورة 1/ تشرين الأول / 2019 … اليوم تتألق الساحة ونصبها وجبل أحد بمعان جديدة …. نرى من خلاله عراقاً جديد