التسريبات الإيرانية.. تفاصيل علاقات مسؤولين عراقيين بطهران
يتوالى دوي تفاصيل الوثائق السرية الإيرانية التي تم تسريبها من أرشيف الكابلات الاستخباراتية التابعة للنظام في طهران، ونشرت صحيفة نيويورك تايمز وموقع ذا إنترسبت تقريرا حول تفاصيل ما ورد فيها وتعليقات من أفراد وردت أسماؤهم فيها.
وتقدم التسريبات صورة مفصلة لكيفية عمل طهران على دمج نفسها في الشؤون العراقية، والدور الفريد لقائد فيلق القدس قاسم سليماني وتفاصيل عن عدد من كبار المسؤولين العراقيين وعلاقتهم الوثيقة بطهران، وبينهم رئيس الوزراء الحالي عادل عبد المهدي ومسؤولون سابقون بينهم حيدر العبادي وإبراهيم الجعفري وسليم الجبوري.
وانطلق التقرير المشترك لنيويورك تايمز وموقع إنترسبت، بالإشارة إلى هدف توجه سليماني، الزائر المألوف للعراق، فيما كان البلد ينزلق في موجة اضطرابات جديدة منتصف أكتوبر 2019.
وسبق أن تحدث مسؤولون عراقيون عن زيارات قام بها المسؤول الإيراني من أجل احتواء الاحتجاجات غير المسبوقة التي تطالب بوضع حد للفساد وإطاحة حكومة عبد المهدي، منددين بنفوذ إيران الكبير في سياسة بلادهم.
زيارة سليماني وفق التقرير هدفت لإعادة النظام عبر إقناع حليف في البرلمان العراقي بمساعدة عبد المهدي على الحفاظ على منصبه.
وبحسب إحدى البرقيات الاستخباراتية الإيرانية، فإن عبد المهدي، الذي كان خلال إقامته في المنفى، يعمل عن كثب مع طهران عندما كان صدام حسين في السلطة، كانت له “علاقة خاصة مع إيران” عندما شغل منصب وزير النفط في العراق في عام 2014.
الطبيعة الدقيقة لتلك العلاقة ليست مفصلة في الوثائق المسربة، لكن أحد كبار المسؤولين الأميركيين السابقين، نبه إلى أن “العلاقة الخاصة يمكن أن تعني الكثير من الأشياء. ولا تعني أنه عميل للحكومة الإيرانية”.
لكن من غير الممكن لأي سياسي عراقي أن يصبح رئيسا للوزراء من دون مباركة إيران، وكان ينظر إلى عبد المهدي، عندما حصل على رئاسة الوزراء في عام 2018، كمرشح توفيقي مقبول لدى كل من إيران والولايات المتحدة.
وتعرض الكابلات المسربة، لمحة استثنائية داخل النظام الإيراني فضلا عن تفاصيل حول مدى سقوط العراق تحت نفوذ جارته منذ الغزو الأميركي في 2003.
في العراق ولبنان وسوريا، التي تعتبرها إيران حاسمة بالنسبة لأمنها القومي، يحدد الحرس الثوري وخاصة فيلق القدس بقيادة سليماني، سياسات إيران. ويتم تعيين سفراء طهران في تلك الدول من أرفع الرتب داخل الحرس الثوري، وليس من وزارة الخارجية، التي تشرف على وزارة الاستخبارات، حسب ما أفاد به عدة مستشارين للحكومات الإيرانية الحالية والسابقة.
وقال المستشارون إن ضباطا من وزارة الاستخبارات ومن الحرس الثوري في العراق عملوا بالتوازي مع بعضهم البعض، وأبلغوا ما توصلوا إليه مقراتهم في طهران، والتي عملت بدورها على إعداد تقارير قدمت إلى المجلس الأعلى للأمن القومي.
الوصول إلى مسؤولين عراقيين كان جزءا أساسيا من عمل هؤلاء، فيما سهلت التحالفات التي أقامها العديد من القادة العراقيين مع إيران عندما كانوا ينتمون إلى جماعات معارضة تقاتل صدام.
“علاقة خاصة”
وبحسب الوثائق فإن العديد من كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين والأمنيين في العراق، أقاموا علاقات سرية مع طهران. الوثائق التي تعود لعام 2014 والتي تحدثت عن “العلاقة الخاصة” لعبد المهدي، سمت العديد من الأعضاء الرئيسيين الآخرين في حكومة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي بأن لديهم علاقات وثيقة مع إيران.
صعود داعش قاد في الوقت ذاته إلى شرخ بين إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما وفئة كبيرة من الطبقة السياسية العراقية. فقد ضغط أوباما باتجاه إطاحة رئيس الوزراء نوري المالكي كشرط لتجديد الدعم العسكري الأميركي للعراق، ورأى أن سياسات المالكي والحملات القمعية ضد السنة ساعدت في صعود المتشددين.
المالكي، الذي عاش في المنفى في إيران في ثمانينيات القرن الماضي، كان مفضلا لدى طهران، فيما كان ينظر إلى خلفه حيدر العبادي الذي تلقى تعليمه في بريطانيا، على أنه أكثر ودية للغرب وأقل طائفية.
وفي مواجهة حالة عدم اليقين التي تلف رئيس الوزراء الجديد، دعا حسن دانييفار، سفير إيران في العراق خلال تلك الفترة، إلى عقد اجتماع سري لكبار الموظفين في السفارة الإيرانية الواقعة خارج المنطقة الخضراء في بغداد.
“الوزراء الآخرين في جيب إيران”
ومع تقدم الاجتماع، أصبح واضحا أن الإيرانيين ليس لديهم سبب يدعو للقلق إزاء الحكومة العراقية الجديدة. فقد تم اعتبار العبادي “رجلا بريطانيا” و”مرشح الأميركيين”، لكن الإيرانيين رأوا أن لديهم الكثير من الوزراء الآخرين في جيبهم. وتلا دانييفار قائمة بأسمائهم، معددا علاقاتهم مع إيران.
إبراهيم الجعفري الذي شغل منصب رئيس الوزراء العراقي ثم وزير الخارجية في أواخر 2014، وصف في الكابلات، على غرار عبد المهدي، بأنه يتمتع “بعلاقة خاصة” مع إيران. وفيما لم ينف الجعفري في مقابلة، أن علاقات وثيقة تربطه بإيران، إلا أنه قال إنه كان يتعامل دائما مع دول أجنبية على أساس مصالح العراق.
إيران اعتمدت على ولاء العديد من أعضاء مجلس الوزراء الأقل أهمية. وجاء في التقرير الإيراني أن وزراء البلديات والاتصالات وحقوق الإنسان “في وئام تام وواحد معنا وشعبنا”، في حين أن وزير البيئة قال إنه “يعمل معنا، رغم أنه سني”. وزير النقل بيان جبر، الذي كان يقود وزارة الداخلية العراقية عندما تعرض مئات السجناء للتعذيب حتى الموت أو أطلقت النار عليهم من قبل فرق الموت الشيعية، كان يعتبر “قريبا جدا” من إيران. أما وزير التعليم، فأشار التقرير إلى أنه “لن نواجه مشكلة معه”.
وزراء البلديات والاتصالات وحقوق الإنسان السابقون جميعهم كانوا أعضاء في منظمة بدر، وهي مجموعة سياسية وعسكرية أسستها إيران في الثمانينيات لمعارضة صدام، بحسب نيويورك تايمز وإنترسبت.
“القمة السرية”.. الإخوان وفيلق القدس بحثوا في تركيا التحالف ضد السعودية
ونفى وزير البلديات السابق وجود علاقة وثيقة مع إيران، فيما أقر وزير حقوق الإنسان السابق بقربه من طهران وأشاد بإيران لمساعدة العراقيين الشيعة أمام دكتاتورية صدام والمساعدة في هزيمة داعش. أما وزير الاتصالات السابق فقال إنه خدم العراق وليس إيران، مشيرا إلى أنه حافظ على علاقات مع دبلوماسيين من العديد من البلدان. وزير التعليم السابق، فال إنه لم يكن مدعوما من إيران وإنه خدم بناء على طلب العبادي. لا يمكن الوصول إلى وزير البيئة السابق للتعليق.
هيمنة إيرانية واضحة في خريف 2014
هيمنة إيران على السياسة العراقية تظهر بشكل واضح في حلقة مهمة من خريف عام 2014، عندما كانت بغداد في قلب دوامة عنف متعددة الجنسيات. فقد كانت الحرب الأهلية السورية مستعرة إلى الغرب، بينما استولى مقاتلو داعش على ثلث العراق تقريبا، وكانت القوات الأميركية تتجه من جديد إلى المنطقة لمواجهة الأزمة المتفاقمة.
وفي الوقت ذاته، استقبل وزير النقل جبر، بقائد فيلق القدس، في مكتبه، وفقا لأحد الكابلات. فقد جاء سليماني ليطالب بخدمة: إيران بحاجة إلى الوصول إلى المجال الجوي العراقي لنقل طائرات محمّلة بالأسلحة وغيرها من الإمدادات لدعم نظام بشار الأسد السوري في معركته ضد المتمردين الذين تدعمهم الولايات المتحدة.
وكان مسؤولو إدارة أوباما يضغطون بقوة من أجل إقناع العراقيين بإيقاف الرحلات الجوية الإيرانية عبر مجالهم الجوي، لكن وزير النقل العراقي وجد وجها لوجه أنه من المستحيل رفض طلب طهران.
يتذكر جبر، بحسب الوثائق المسربة، أنه لم يتردد وقال “كما تريد”، ثم “وقف سليماني واقترب مني وقبلني على جبهتي”.
وأكد جبر عقد الاجتماع مع سليماني، لكنه قال إن الرحلات الجوية من إيران إلى سوريا تحمل الإمدادات الإنسانية والحجاج الدينيين المسافرين إلى سوريا لزيارة الأماكن المقدسة، وليس الأسلحة والإمدادات العسكرية لمساعدة الأسد كما يعتقد المسؤولون الأميركيون.
“تجسس ورحلات صيد وحفلات”.. وثائق مسربة من استخبارات إيران تكشف دور طهران الخفي في العراق
وفي تلك الأثناء أيضا، تعرض المسؤولون العراقيون المعروفون بعلاقاتهم مع الولايات المتحدة لتدقيق خاص، واتخذت إيران تدابير لمواجهة النفوذ الأميركي.
وتظهر الكثير من الملفات أنه بينما التقى كبار الدبلوماسيين الأميركيين خلف الأبواب المغلقة مع نظرائهم العراقيين في بغداد، كانت محادثاتهم تُرسل بشكل روتيني إلى الإيرانيين.
“مستشار الجبوري جاسوس إيراني”
وخلال عامي 2014 و2015، عندما استقرت حكومة عراقية جديدة، التقى السفير الأميركي ستيوارت جونز عدة مرات مع سليم الجبوري، الذي كان رئيسا للبرلمان العراقي حتى العام الماضي.
وكان من المعروف أن الجبوري، على الرغم من كونه سنيا، له علاقة وثيقة مع إيران. لكن الملفات المسربة تكشف أن أحد كبار مستشاريه السياسيين ويعرف باسم المصدر 134832، كان من المخابرات الإيرانية.
وقال هذا المصدر لمسؤوله الإيراني “أنا حاضر في مكتبه بشكل يومي وأتابع بدقة اتصالاته مع الأميركيين”. وفيما رفض السفير جونز التعليق، قال الجبوري، إنه لا يعتقد أن أيا من موظفيه كان عميلا لإيران، مؤكدا ثقته بمساعديه تماما.
وحث العميل، الإيرانيين على تطوير علاقات أوثق مع الجبوري لعرقلة الجهود الأميركية لرعاية طبقة جديدة من القادة السنة من الشباب في العراق وربما لتحقيق المصالحة بين السنة والشيعة.
وحذر من أنه يتعين على إيران أن تتحرك لمنع رئيس البرلمان من “الانزلاق إلى موقف موال لأميركا، لأن إحدى خصائص سليم الجبوري هي المصداقية واتخاذ قرارات متسرعة”.
تفاصيل اجتماعات بارزاني مع الأميركيين
ويكشف تقرير آخر أن رئيس وزراء كردستان نيجيرفان بارزاني التقى بكبار المسؤولين الأميركيين والبريطانيين ورئيس الوزراء حيدر العبادي في بغداد في ديسمبر 2014، ثم توجه على الفور للقاء مسؤول إيراني لإبلاغه بكل ما جرى بحثه.
وقال بارزاني، عبر متحدث رسمي، إنه لا يتذكر مقابلة أي مسؤولين إيرانيين في ذلك الوقت، واصفا البرقية بأن “لا أساس لها من الصحة”. وأردف أنه “ينفي تماما” إخبار الإيرانيين بالتفاصيل حول محادثاته مع الدبلوماسيين الأميركيين والبريطانيين.
“العبادي كان على استعداد تام لإقامة علاقة سرية مع المخابرات الإيرانية”
وعلى الرغم من أن إيران كانت تشكك في ولاءات العبادي في البداية، إلا أن تقريرا كتب بعد بضعة أشهر من وصوله إلى رئاسة الوزراء أشار إلى أنه كان على استعداد تام لإقامة علاقة سرية مع المخابرات الإيرانية.
ويفصل تقرير صدر في يناير 2015 لقاء بين العبادي وضابط في وزارة الاستخبارات يعرف باسم بروجردي، عقد في مكتب رئيس الوزراء من “دون وجود سكرتير أو شخص ثالث”.
وخلال الاجتماع، تطرق بوروجردي إلى الانقسام السني-الشيعي في العراق، سعيا لمعرفة كيف يشعر العبادي إزاء الموضوع الأكثر حساسية في السياسة العراقية.
وقال المسؤول الاستخباراتي الإيراني وفق البرقية “اليوم، يجد السنة أنفسهم في أسوأ الظروف الممكنة وفقدوا ثقتهم بأنفسهم”، مضيفا أن “السنة متشردون، مدنهم مدمرة ،وينتظرهم مستقبل غير واضح، في حين أن الشيعة يستطيعون استعادة ثقتهم بأنفسهم”.
وأردف أن شيعة العراق “عند نقطة تحول تاريخية”، وأن الحكومة العراقية وإيران يمكنهما “الاستفادة من هذا الوضع”.
وفقًا للبرقية، فقد عبر رئيس الوزراء عن “موافقته الكاملة”، لكن العبادي رفض التعليق عن الأمر لنيويورك تايمز وإنترسبت.