متفرقات

صفاء السراي .. الوطني الذي قتله الوطن

سنان السبع 

 

لا تبدو قصة حياة ” ابن ثنوة ” صفاء السراي مشابهة لقصص شباب ساحة التحرير وكل ساحات التظاهر العراقية التي تفجرت بالغضب في الأول من شهر تشرين الأول 2019 وحتى اليوم على الرغم من التشابه الواضح في مطالبهم وشعاراتهم واصواتهم، قصة صفاء المتظاهر الثائر لم تكن قصة عابرة من قصص الحالمين بوطن جديد خال من سطوة المليشيات والسلاح المنفلت وسراق المال العام بل كانت قصة كفاح وشجاعة عرفت العالم بحيل عراقي جديد تحرر من عبودية وقدسية رجال الدين والسياسية في عراق ما بعد 2003، ورغم إن حياة صفاء انهتها قنبلة دخانية اخترقت جمجمة رأسه في فجر يوم 29 أكتوبر في ساحة التحرير ببغداد الإ إن قصته لم تنته عند هذا الحد. 

 

متظاهر دائم

 

شارك صفاء في أغلب التظاهرات التي شهدتها العاصمة العراقية بغداد منذ العام 2011 وحتى تظاهرات عام 2019 التي كانت الأخيرة بالنسبة له، فقد كان صفاء ناشطاً فاعلاً على مواقع التواصل الاجتماعي يتابعه الآلاف من روادها ومن ابرز الداعين الى تغير النظام السياسي الذي بني على أساس المحاصصة الحزبية، وكان مثل زبون دائم على تلك الاحتجاجات الشعبية، حيث بدأها من تظاهرة الخامس والعشرين من شهر شباط 2011 أيام حكم رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي حيث تعرض الى الضرب بالهراوات والعصي على يد القوات الامنية التي قامت بقمع تلك التظاهرات بكل وحشية، وبعد عامين فقط من هذا التاريخ كان صفاء اول الواصلين مرة اخرى الى ساحة التحرير في تظاهرة عام 2013 حين قرر البغداديون الخروج بتظاهرة طالبت بتقليص امتيازات المسؤولين الحكوميين والنواب إلا إن هذه المرة لم يتعرض صفاء للاعتداء فقط بل تعرض للاعتقال على يد القوات الامنية الموجودة في مكان التظاهرة. 

 

ورغم انتهاء فترة حكم المالكي وتغير رئيس الحكومة وكابينته الوزارية عام 2015 الإ إن السراي لم يهدأ له بال ولم يغمض له جفن، بل ازدادت حماسته وثوريته وبات يتصدر الصفوف الاولى لإي تظاهرة أو وقفة أحتجاجية تندد بالفساد وسوء الخدمات العامة، وقف هذه المرة صفاء مع متظاهري بغداد الذين خرجوا في الحادي والثلاثين من تموز عام 2015 والتي كانت شرارة انطلاقتها لتأيد تظاهرات محافظة البصرة جنوب العراق التي شهدت مقتل المتظاهر الشاب منتظر الحلفي ولم يسلم السراي هذه المرة أيضاً من الضرب، حيث كان قد تعرض الى الضرب مرة جديدة بالهراوات من قبل قوات الأمن، كما شارك في تظاهرة أصحاب البسطيّات بعد حملة إزالة نفذتها السلطات في العام نفسه.

 

تمر سنوات العراق الجديد بترفها ونعيمها على المسؤولين الحكوميين والنواب مثلما تمر ببؤسها وعوزها وحرارتها اللاهبة على الناس وأبناء الطبقات المسحوقة، والثائر لا يتغير ولا يمل، ينظر نحو المستقبل بخيط من الأمل والحرية، رغم انه عاش فترة عصيبة ومؤلمة جداً بعد وفاة  والدته ” ثنوة حسن فرحان ” عام 2017

في العام 2018 قرر السراي مرة اخرى الالتحاق بركب المتظاهرين الذي تجمعوا في مناطقهم الفقيرة شرق العاصمة بغداد وأعتقل هذه المرة أيضاً ومن ثم أطلق سراحه. 

 

لحظة السراي التي كان يتمناها قد حانت، حين قرر الشباب العراقيون النزول الى الساحات في الأول من تشرين الأول العام 2019، اللحظة التي لطالما تمناها صفاء بحسب ما يقولوه أصدقاءه قد باتت امامه عينه اليوم، شباب من كل الأعمار والأجناس والقوميات وقفوا حول علم واحداً وخلف مطلب واحداً ملأوا الساحات به وهو ” نريد وطن ” وبالطبع كان السراي اول الحاضرين لتظاهرة الأول من شباط برفقة أصدقاءه، وفي اليوم الثاني من التظاهرة حين ارتفع منسوب الأمل لديه قال بتصريحات صحفية ” إنها مظاهرة شبابية بامتياز، وخالية من التوجه الحزبي أو الوجوه التي تباعُ وتُشترى “.

 

وفي 26 أكتوبر، أصيب في المظاهرات بذراعه وضاع هاتفه، بحث عن اصدقائه طيلة تلك الليلة، بعضهم ظن انه  قتل وآخر ظن أن المليشيات المسلحة قد اختطفته، حتى ظهر مرة اخرى صباح اليوم التالي بجرح في يده وكتب على صفحته في فيسبوك ” رجعت ، وأنا بخير ، وأسف قلقتكم ، امس ضاع تليفوني ب11 الصبح وانجرحت جرح بسيط ، وما كدرت اتواصل وياكم “.

 

الفنان – العرضحالجي 

 

على الجانب الأخر من حياة صفاء السراي الذي ولد في بغداد عام 1993 وتخرج من الجامعة التكنولوجية، كانت لا تخلو من الشعر والفن والرسم رغم صعوبتها، حيث كان يعمل خلال سنوات دراسته حمالاً في سوق جميلة التجاري، وأكمل دراسته بدون اي سنة رسوب وتخرج مبرمجاً من قسم علوم الحاسبات في الجامعة التكنولوجية، وبعد تخرجه من الجامعة عمل في كتابة العرائض الرسمية ” عرضحالجي ” حسب ما يطلق البغداديون على أصحاب هذه المهنة امام احدى مديريات المرور وهي مهنة لا علاقة له بدراسته الجامعية لكنها تكشف حال العراق الجديد لمن لا يعرف بأحوال هذه البلاد العجيبة.   

 

كان صفاء يكتب الشعر الشعبي والفصيح على نطاق ضيق بين الاصدقاء، وملهمه في الشعر والحياة الشاعر العراقي مظفر النواب الذي كان يحفظ قصائده عن ظهر قلب، لكنه كان فناناً موهوباً ورساماً ماهراً، فقد كان يرسم فنانين ورياضيين وشعراء أثروا به وفي ابناء جيله، وشارك أيضاً في مهرجان “أنا عراقي أنا أقرأ 2018” على حدائق ابو نؤاس في بغداد ، بمعرض فني كان الأول له عرض خلاله جزء من أعماله الفنية التي قام بتوزيعها الى الزوار بعد انتهاء المهرجان. 

 

ابن ثنوة 

 

علاقة صفاء السراي بوالدته كانت علاقة غير اعتيادية بإمتياز حتى انه كان يحب ان يلقب بـ ” ابن ثنوة ” وهو أسمها ” ثنوة حسن فرحان ” ، لقب رافقه حتى نهاية حياته، كان تأثيرة ” ثنوة ” عليه كبيراً وطاغياً في حياته حين كان يشارك صوره معها على صفحته في فيسبوك، وفي احد المرات كتب على صورة تجمعهما إنها وورغم مرضها الصعب وعدم قدرتها على فعل اي شيء كانت تطلب منه مساعدتها من اجل ان تعمل له الفطور، وهذا التأثير يعرفه أصدقاءه المقربون وكل من كان يتابعه حين كان يردد بقسمه عند مشاركته في أي تظاهرة “قسماً بروح ثنوة” 

 

عاش صفاء في الم متواصل منذ عدة أعوام بسبب مرضها، حيث أصيبت بـ4 سرطانات مختلفة في الدماغ والعظام والثدي والغدة الدرقية، وظلت لفترة مصابة بشلل نصفي وفقدت الذاكرة والإحساس، حتى توفيت في ديسمبر 2017، ورغم أن والدته كانت حبه الأول والأخير، إلا أنه كتب في رسالة لأحد أصدقائه، نشرها بعد وفاته، عندما سأله عن حبه الأول قال “ثنوة”، لكنه عاد وقال إنه يحب العراق أكثر من ثنوة والدته، بعد وفاتها كان دائم الاشتياق لها وعبر عن ذلك في مرات عديدة بصور وكلمات كتبها قبل ان يغادر بلقبه الذي أصبح يعرف به بين صفوف المتظاهرين والاصدقاء والمعزين. 

 

 

 

المتظاهر الصحفي 

 

لم يكتف صفاء بدروه في نشر صور ومقاطع الفيديو عن الاحتجاجات الشعبية التي شارك بها منذ العام 2011 على صفحته في فيسبوك بل اخذ دوراً جديداً خلال تظاهرات تشرين الأول، بعد ان عملت الحكومة على قطع خدمة الانترنيت عن المواطنين خلال الايام الاولى للتظاهرات ومنع تواجد القنوات الفضائية والتضيق على عملها في ساحة التحرير ببغداد، تطوع صفاء مثل عادته بمهنة جديدة حيث أصبح هنا المراسل المتظاهر الذي أخذ على عاتقه توصيل أشرطة الكاميرات الى مكاتب القنوات الفضائية المحلية ومنها فضائية ان ار تي عربية حيث كان يسعى من خلال هذا الدور الى فضح انتهاكات القوات الأمنية وعمليات القنص التي جرت ضد المتظاهرين في الأسبوع الأول من التظاهرات في ظل غياب عدد كبير من وسائل الاعلام الرئيسية عن تغطية تلك الأحداث، ويقول بهاء كامل صديق صفاء عن هذا الدور ” كان لصفاء دور مهم في نقل ما يحدث في الساحة في الأيام الاولى من التظاهرات حيث كان يتنقل بدرجة نارية من شارع لشارع ومن زقاق لزقاق حتى يوصل اشرطة الكاميرا الى احدى القنوات الفضائية من اجل بث تلك اللقطات “، ويضيف ” كان بمثابة المتظاهر المراسل الذي يتظاهر تارة ويرسل الاشرطة تارة اخرى .”

 

يومه الأخير

 

في عصر يوم 29 من شهر تشرين الأول وحين بدأت الاحتجاجات تشهد زخماً كبيراً من أبناء مدن العاصمة العراقية بغداد، كان صفاء السراي يقف شامخاً أمام قوات مكافحة الشعب قابلة جسر الجمهورية، ساخراً منهم وهم يطلقون قنابلهم الدخانية والصوتية بشكل عشوائي تجاه المتظاهرين العزل، جرأة السراي في ذلك اليوم لم تكن تختلف عن جرأته في مواقف عديدة في حياته إذ كان دائم الإشتباك مع الأعلاميين والكتاب الذين لديهم مواقف ضبابية من الاحتجاجات وكان يطالبهم بموقف أكثر وضوح وشجاعة تجاه أحوال البلاد وسياسات السلطة الحاكمة، لم يتوقع صفاء او حتى اصدقاءه بأن ذلك اليوم سيكون الأخير له في معشوقته ” ساحة التحرير ” حيث كان عناصر قوات مكافحة الشغب دقيقين جداً بإصابته، أصيب صفاء السراي ليل يوم 29 أكتوبر بقنبلة دخانية اخترقت جمجمته واستقرت بمنتصف الرأس في ساحة التحرير ببغداد، وحدثت ضجة كبيرة في مواقع التواصل الأجتماعي في تلك إذ إن المتظاهر الثائر لم يشف من أصابته في يده بعد، نقله المتظاهرون إلى مستشفى الجملة العصبية، حيث تم إخراج الشظايا من رأسه، وإيقاف النزيف، وتم نقله إلى العناية المركزة، وتقول صديقته الطبيبة ايناس عن تلك اللحظات ” كنا في الأسعاف متوجهين الى المستشفى حين سمعت بأن شخص قد دخلت قنبلة مسيلة للدموع في رأسه، وحين وصلت وجدت العديد من أصدقائي.. هنا شعرت بالخوف جداً، توجهت الى العناية المركزة، مسكت بيده وقلت له لا تخف رغم انه كان فاقداً للوعي، ذهبت الى اخيه الكبير وقلت له بأن صفاء سيموت فرد عليَ ” فدوة “

 

فارق صفاء الحياة عند منتصف الليل متأثراً بجراحه، وجيء بجثمانه الى ساحة التحرير بحسب وصيته لأصدقاءه إن يشيع في الساحة تحت نصب جواد سليم ويدفن بجواره والدته، طافت سيارة تشيعه في الساحة وكانت حفلة للدموع والحزن فالثائر الذي لم يتخلف عن اي احتجاج شعبي في هذه الساحة يودعها الان محمولاً على الأكتاف وملفوفاً بعلم العراقي، اتجهت السيارة نحو طريق شارع السعدون الى النجف الأشرف حيث مكانه الأخير إلا إن صوره قد ملأت الساحات وشعاره ” محد بهذا العالم يحب العراق بكدي ” صار أيقونة الاحتجاجات العراقية الجديدة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com