هل انصاع خامنئي وترامب لصوت العالم وجنحا للعقل والسلام؟ لعبة القط والفأر هي ديدن حكام الولايات المتحدة وإيران
الأيام الأخيرة من السنة الماضية، أثارت قدراً كبيراً من المخاوف خاصة في دول المنطقة، وتحديداً في العراق وإيران، وهما الدولتان المرشحتان أكثر لتكون ميداناً لتكونا ميداناً لصولات ومغامرات وطيش الصقور في الولايات المتحدة وايران، هذا ناهيك عن القلق الذي أصاب العالم كله.
لا بد في البداية من إلقاء نظرة تاريخية سريعة على النفوذ الأمريكي في إيران الذي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية، حيث شرعت الولايات المتحدة في السعي لإزاحة المستعمر القديم بريطانيا من جميع مستعمراتها مستغلة الضعف الكبير الذي أصاب بريطانيا بعد الحرب. وهكذا عملت في البداية على دعم سياسة الشخصية الوطنية الدكتور مصدق الرامية إلى الحد من النفوذ البريطاني بأمل أن تكرس هي نفوذها في البلاد. وعلى هذا الطريق تم في البداية دعم اجراءات الدكتور مصدق في تأميم النفط. ولكن ما أن شعرت الولايات المتحدة تعاظم نفوذ الوطنيين واليسار الإيراني مما يسد الأبواب أمام تحقيق هدفها الأساس وهو تكريس نفوذها في ايران بدل النفوذ البريطاني، حتى قامت بتقديم العون للشاه الذي لجأ إلى العراق هرباً من غضب الشعب الإيراني في عام 1953. عندها قام وزير الخارجية الأمريكية جون فوستر دالالس وشقيقه آلن دالاس مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بالتحضير لإنقلاب ضد مصدق خطط له الجنرال كريمت روزفلت رئيس قسم المخابرات الأمريكية في آسيا والشرق الأدنى ( وهو نفسه الذي شارك في التخطيط لانقلاب 8 شباط عام 1963 في العراق). وقدمت المخابرات المركزية معونات مالية ضخمة إلى أطراف إيرانية وشقاة إضافة إلى مراجع دينية إيرانية، وخاصة مرجعية آية الله أبو القاسم الكاشاني، لدعم الجهود للإطاحة بالحكومة الوطنية للدكتور محمد مصدق. ونجح الانقلاب في شهر آب 1953 وأطيح بمصدق ونشر الانقلابيون حمامات دم طالت جميع القوى الوطنية الإيرانية، ونالت ما نالت بدرجة أساسية حزب توده إيران. وعلى أثر الانقلاب، ألغي قانون تأميم النفط (تماماً كما ألغي القانون رقم 89 بعد انقلاب 8 شباط)، ليحل محله كونسرتيوم دولي امتلكت الاحتكارات النفطية الأمريكية حصة الأسد فيه. ولكن لم يجلب الانقلاب الاستقرار في البلاد ولا الشعبية ولا الديمومة لحكم
حزيران 1963
الشاه. وسرعان ما فرط عقد العلاقة بين الشاه والتيار الديني المتنفذ ليؤدي إلى صدامات ومواجهات دامية خاصة في حزيران 1963 في طهران وقم وعدد من المدن الإيرانية الأخرى، ضمن حركة تزعمها آية لله روح الله الخميني، واستمرت هذه المواجهات حتى سقوط الشاه في شباط عام إثر الثورة الشعبية التي تولى زمام الأمور فيها تدريجياً التيار المذهبي المتطرف. قبل إندلاع الثورة وقبيلها، شعرت الإدارة الأمريكية ومنذ إدارة الرئيس جون كندي بأن الشاه وبطانته لا يستطيعون الأحتفاظ بالحكم، وهذا من شأنه أن يعرض النفوذ الأمريكي والغربي في إيران إلى الخطر ويقدم إيران لقمة سائغة للاتحاد السوفييتي حسب ظنهم وحسب حسابات وأجواء الحرب الباردة المستعرة آنذاك. ولذا جرت عدة محاولات مدعومة من الولايات المتحدة قام بها جنرلات في الجيش الإيراني باءت جميعها بالفشل. وقد ألتقيت أحدهم في سجن قصر في طهران أثناء حكم الشاه في الستينيات من القرن الماضي. ولو دققنا في تطور الأحداث قبيل بدايات شرارات الثورة الشعبية في عام 1978، فإن الرئيس الأمريكي جيمي كارتر أخذ يلوح لنظام الشاه بملف حقوق الإنسان في إيران ويعبر عن دعمه لمطالب الشعب الإيراني. وتلقت الجماهير الشعبية الإيرانية هذه الرسالة، وصعدت من مطاليبها وإصرارها على التغيير بعد أن شعرت بأن الإدارة الأمريكية بدأت ترفع غطاء دعمها للشاه وحكمه. ولعب ذلك دوراً غير قليل في انتصار الثورة الشعبية، بالإضافة بالطبع إلى عوامل أساسية في إدلاع أية ثورة وهو حجم الاستياء الذي يعم المجتمع وعدم قدرة الحكم على تدبير أمره.
ولكن بالرغم من هذا الوجه من المواقف الأمريكية الملتبسة، إلاّ أن سمعة الولايات المتحدة سواء في المنطقة أو حتى في العالم غير مقبولة بسبب قيامها بالعديد من الإنقلابات المشبوهة المعادية للشعوب وأمالها. كما لعب موقفها التقليدي بدعم العدوان المستمر ولحد الآن لإسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وضد الشعوب العربية دوراً ليس بالقليل بالضد من مصالح الولايات المتحدة نفسها. ولذا ما أن انتصرت الثورة حتى توجه العداء الحاد صوب الولايات المتحدة باعتبارها الشيطان الأكبر. وتوج هذا الموقف باحتلال السفارة الأمريكية في طهران الذي دفع بالولايات المتحدة وحلفائها العرب إلى أن يلعبوا دورغير قليل في إشعال فتيل الحرب العراقية الإيرانية بعد أن تطوع صدام حسين إلى المبادرة بغزو إيران. هذا الوضع شدد من حمى العداء للولايات المتحدة. وهكذا شرع الحكم في إيران في تأسيس تنظيمات مسلحة في عدد من دول المنطقة موالية له بدعوى مقاومة الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل، وهو شعار يتناغم مع مشاعر الكثير في المنطقة والعالم.
إن استمرار الحرب العراقية الإيرانية انطوى على مواقف متناقضة في مواقف الولايات المتحدة. فهي من ناحية توفر لحكومة صدام الامكانيات العسكرية واللوجستية المباشرة أو من خلال الدول الحليف له في المنطقة، ولكنها لا تريد هزيمة إيران وتقدم لها أدوات احتياطية للأسلحة الأمريكية والطائات الأمريكية الصنع من أجل استمرار لهيب الحرب كي تضعف الطرفين المشاكسين وتبعد الخطر عن حافاء الولايات المتحدة في المنطقة. وفُضح ذلك في عهد الرئيس الأمريكي ريغان بما عرف بـإتفاقية “ Iran–Contra affair” أو ” Iran Gate” التي عقدها جورج بوش الأب عندما كان نائباً للرئيس ريغان لإطلاق سراح بعض الأمريكان المحتجزين في لبنان من قبل حزب الله اللبناني مقابل تزويد إيران بـ 3000 صاروخ “تاو” مضادة للدروع وصواريخ هوك أرض جو وأدوات احتياطية للطيارات الأمريكية الحربية التي تمتلكها إيران منذ عهد الشاه، بوساطة من المليونير السعودي عدنان قاشقجي.
استمرت علاقات القط والفأر بين البلدين طوال الفترة الماضية وما زالت مستمرة حتى الآن. فقد ساعدت إيران الولايات المتحدة باتفاق غير معلن الحرب ضد العراق والإطاحة بصدام عام 2003، وساعدتها أيضاً في أفغانستان ولبنان وفي مناطق أخرى من غرب آسيا. فقامت إيران بدور حامل الفانوس للغزاة الأمريكان في حربها ضد العراق، والحديث يدور حول معلومات ستراتيجية عسكرية ساعدت الولايات المتحدة على إجاز مهمتها بالسرعة الممكنة وعدم إثارة المتاعب أمامها. ولكن ايران ومنذ أنتهاء الحرب ورحيل الحكم الديكتاتوري، حتى شرعت بجمع أدواتها وأذرعها من أجل الحصول على الغنائم وتوسيع نفوذها في البلاد. وكان أهم عمل قامت به هو تشكيل مليشيات مسلحة كثيرة تمسك هي بخيوطها كي تشدد الضغط على المحتل لتحصل على المكاسب. وهكذا وعلى حين غرة برزت على السطح عشرات الميليشيات الطائفية من المكونات العراقي رفعت جميعها شعار محاربة المحتل، وهو شعار لم يجد له شعبية في الوسط العراقي بسبب الإنهاك الذي طال الشعب خلال عهود الحرب والاستبداد والقمع، ناهيك عن حالة من الانتظار كي يرى الشعب ما ستقوم به الإدارة الأمريكية. لقد كانت مهمة هذه الميليشيات حسبما خطط لها في الدول الاقليمية هو ليس توجيه بعض الضربات إلى المحتل فحسب، بل أشعال النار الطائفية والحروب الطائفية في لبنان وخاصة في العراق عام 2005 إلى 2008 كي توفر الأرضية والقوة لتعميق نفوذ حكام إيران وحكام دول خليجية متنفذة وحكام تركيا والحكم السوري الذي دعم مكوناً آخراً من مكونات الأذرع واليايشيات المسلحة من القاعدة إلى داعش، وإبقاء حالة الاحتلال كي يظل دق طبول العبث والعنف وتدمير كل مقومات المجتمع العراقي. وهذا ما حصل ويحصل بالفعل باتفاق من قبل الأطراف المتصارعة على الغنائم وأدواته في العراق. وكان دور بعض العراقيين هو التوابع والأدوات الصغيرة والضحايا في هذه اللعبة الدموية. ولم يع هؤلاء العراقيون التوابع حتى الآن بالفخ وكنه اللعبة الدموية وهم يطالبون الثأر للجنرال الإيراني سليماني.
ومع كل هذه الأحداث الدرامية، بدت الصورة واضحة اليوم، أي في الثامن من كانون الثاني عام 2020. فبعد حادثة قتل قاسم سليماني وأبومهدي المهندس والتشييع الغريب من نوعه لضحايا القصف الأمريكي والشعارات المدوية التي ترددت على نطاق واسع في طهران ومدن ايران وفي العراق عند التشييع وأصدائها في لبنان وتصريحات حسن نصر الله التقليدية الذي يهدد بها العالم كله بالويل والثبور لقتل جنرال إيراني وللا يهتز ضميره لقتل العشرات من اللبنانيين، فإننا نشهد من جديد مشاهد عجيبة، وبدا وكأن العالم على حافة حرب ثالثة لا رجعة فيها. لكن الرد الإيراني على قتل سليماني والمهندس وقبل أن ينفذ، أبلغ إلى القائم بالأعمال السويسري في طهران كي يبلغ الولايات المتحدة من أجل أخذ الحذر!! من أصابة أفراد القوات المسلحة الأمريكية بالأذى. كما أبلغ رئيس الوزراء المنتهية ولايته في العراق قبل الهجوم الإيراني كي يتخذ العسكريون العراقيون جانب الحذر. وذكر تقرير نشرته إندبندنت العربية اليوم، وجود ترتيبات مسبقة بين الولايات المتحدة الامريكية وطهران، بشأن قصف قاعدة عين الاسد غربي العراق. ونقلت الاندبندنت عن مصادر دبلوماسية عراقية القول، إن الرد الإيراني على مقتل الجنرال قاسم سليماني في غارة أمريكية ببغداد، كان منسقاً مع الولايات المتحدة عبر وساطة دولة خليجية، وأن ترتيبات عسكرية اتُّخذت من قبل الجانبين خلال اليومين الماضيين لضمان ألا يؤدي هذا الرد إلى سقوط ضحايا أجانب. إن الفضيحة الأكبر هي أن وزير الخارجية الإيراني الظريف أكد في مؤتمره الصحفي على ذلك وأعتبر أن القصف هو مجرد تحذير للولايات المتحدة، ومع انتهاء الضربة يرفع الدعوة لفتح دائرة الحوار معها. علماً إن القصف الإيراني لم يؤد إلى خدش أي من الجنود والضباط الأمريكان ولا العراقيين، ولم يلحق الضرر الجدي بالمنشئات العسكرية في قاعدة أربيل ولا في قاعدة عين الأسد، كما أعلن اليوم الرئيس الأمريكي ترامب. فعلام هذا الضجيج الذي جمد الدماء في عروق العراقيين والايرانيين والعالم حول الرد الايراني المدمر وعناوينه المفزعة. هل أنه تكرار واستمرار للعبة القط والفأر الأمريكية الإيرانية، ولماذا هذا اللعب الفض على مشاعر الناس البسطاء في العراق وايران والاستمرار بخداعهم وسفك دمائهم. هل هذا هو جزء من السعي لتقسيم الغنائم بين المتصارعين على خير العراق؟ وماذا سيحصل حسن نصر الله أو العامري أو قيس الخزعلي والنجباء وغيرهم من شلة الاتباع البؤساء سوى الفتاة أو القتل في هذه العبة القذرة بين القط والفأر، كما أكدتها اعترافات قيس الخزعلي أمام المحقق العسكري الأمريكي أثناء اعتقاله في عام 2007 بحصول الميليشيات الطائفية على مساعدات مالية إيرانية ضخمة بذريعه جهاده ضد الاحتلال.
8/1/2020