حرب الاستنزاف تؤجل الحرب المفتوحة بعد اغتيال سليماني والرد الإيراني
حرب الاستنزاف تؤجل الحرب المفتوحة
بعد اغتيال سليماني والرد الإيراني
وثبت بالدليل الملموس أن المحفز الرئيس لقرار الاغتيال وإشعال الحرب في المنطقة كان الثنائي نائب الرئيس مايك بينس، ووزير الخارجية مايك بومبيو، تجسيداً لمسار مبرمج منذ تسلم الأخير رئاسة وكالة الاستخبارات المركزية وتفعيله “مركز شؤون ايران،” صيف عام 2017، هدفه إحياء هدف “تغيير النظام،” التي تخلت عنها الادارة السابقة، وفق سردية المحافظون الجدد.
السؤال الجوهري المتجدد في مفاصل القرار السياسي الأميركي هو لماذا أقدم الرئيس ترامب على قراره باغتيال سليماني ورفاقه في ظل تردد كل من سبقوه إلى البيت الأبيض اتخاذ قرار مشابه “لخشيتتهم من اندلاع حرب جديدة،” وفي ظل وجود قوات عسكرية أميركية منتشرة في عموم المنطقة ستتعرض للاستهداف.
الإجابة متشعبة ذات أبعاد داخلية أميركية صرفة، جذرها العداء المؤسساتي المتأصل لإيران والرغبة بالانتقام منها بدءاً بحتجازها طواقمها الديبلوماسية في طهران، وانتهاء باعتبارها مسؤولة عن مقتل الأميركيين على امتداد مسرح العمليات الإقليمي، والأهم البعد “الإسرائيلي” وما يمثله من نفوٍذ طاغٍ عبر جماعات الضغط – اللوبيات.
سنتناول بقدر ماهو متاح من تفاصيل البعد “الإسرائيلي” المسكوت عنه، سياسياً وإعلامياً؛ ورصد المواقف والشخصيات الأميركية التي هيأت الظروف لعملية اغتيال، لا سيما وأن السياسة الأميركية الرسمية لا تتبنى الاغتيالات عقب سلسلة فضائح سابقة لوكالة الاستخبارات المركزية اضطر الكونغرس التدخل لوقفها.
في أعقاب القصف الايراني على قاعدتين عسكريتين أميركيتين في العراق والتزام الجانب الأميركي لهجة “التهدئة” رسمياً سنتعرض أيضاَ للخيارات العسكرية الأميركية الواقعية وليس الاستعراضية.
أميركياً
العداء الأميركي لإيران وبسط الهيمنة عليها تجسد منذ عقد الخمسينيات من القرن الماضي، بدءاً بترتيب واشنطن انقلاباً على رئيس الوزراء الوطني محمد مصدق، وزادت حدته وشموليته منذ الثورة الإيرانية عام 1979 وما رافقها من إغلاق السفارة الأميركية واحتجاز ديبلوماسييها.
تستحضر واشنطن نظرية وزير خارجيتها الأسبق، هنري كيسنجر، في تقييمه لإيران متسائلاً “هل ايران دولة وطنية أم قضية،” أي دولة تتقوقع داخل حدودها أم ذات رسالة ظاهرها ثوري وتجديدي. أما الملف النووي، مركز ثقل السياسة الأميركية والغربية نحو ايران، فقد تحقق فيه انجاز اتفاق دولي (انسحب من ترامب) رغم تحفظات ايران ورؤيتها لأميركا “الشيطان الأكبر.”
من الناحية العملية، تبنت واشنطن على مدى العقود الأربعة الماضية سلسلة توجهات وسياسات متباينة نحو ايران، تتمحور حول “احتوائها أم إشراكها أو شن عدوان” عليها لتركيعها، واضيف عليها لفظاً مهذباَ نسبيياً “تغيير طهران لسلوكها.”
الحصيلة العملية لتلك السياسات عبر الادارات المتعاقبة والتمهيد “الديبلوماسي” للإطاحة بالنظام الحالي، عبر شيطنته واعتباره جزءاً من “محور الدول المارقة،” واستبداله بنظام شبيه بنقيضه الشاهنشاهي يعيد الولايات المتحدة للسيطرة على موارد ومستقبل البلاد.
فيما يتعلق بقرار اغتيال قاسم سليماني، يمكننا القول أن هناك إجماعاً داخل مفاصل المؤسسة الحاكمة حول الدور المحوري لوزير الخارجية مايك بومبيو لخلفيته المتشددة وسجله الطويل في خدمة الاستراتيجية العليا للبلاد: العداء لروسيا والصين وإيران، وكذلك فنزويلا وحركات التحرر في أميركا اللاتينية؛ وكوفيء بترؤس وكالة الاستخبارات المركزية لفترة زمنية محدودة استطاع خلالها احداث تغييرات بنيوية مفصلية تحابي توجهات المحافظين الجدد.
وينسب لبومبيو أيضاً تدخله في جملة تعديلات طرأت على قمة الهرم العسكري في البنتاغون، وترشيحه لموظف شركة لوكهيد السابق، مارك اسبر، لمنصب وزير الدفاع. اللافت أن سعر أسهم تلك الشركة ارتفع بشكل حاد “قبل يومين من اغتيال سليماني.”
وشكل ذاك الثنائي رأس الحربة بالتناغم مع الصقور داخل الإدارة، نائب الرئيس مايك بينس ومستشار الأمن القومي جون بولتون وآخرين بعضهم “اسرائيلي الهوى” تربع على منصب محوري في مجلس الأمن القومي.
بومبيو “تحدث مع الرئيس ترامب عدة مرات” يوميا خلال الاسبوع الذي سبق عملية الاغتيال، وفق ما نقلته يومية واشنطن بوست، 5 يناير الجاري. وأضافت أن القرار جاء ثمرة مسييرة “إلحاح بومبيو ونائب الرئيس بينس.”
ضباط استخبارات متقاعدون يسوقون حالة الإحباط التي رافقت بومبيو عقب حادثة إسقاط إيران الطائرة الأميركية المتطورة المسيّرة، لتراجع ترامب عن توجيه “ضربة عسكرية” لإيران، وصفه مرافقوه بأنه خرج “متجهم الوجه” من لقاءاته في البيت الأبيض. كما أنه عرض على الرئيس ترامب “اغتيال سليماني” منذ بضعة أشهر ولم يلقى استجابة ليس من الرئيس فحسب، بل من قادة البنتاغون.
أما دور القيادات العسكرية الأميركية، ممثلة بالبنتاغون ورئاسة الأركان، في رسم أو تعزيز السياسات الأميركية فقد تعرضت لتقلبات وتجاذب منذ صدمة هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2011. وقد أوجزت يومية نيويورك تايمز أزمة سلة الخيارات المتاحة لبلورتها أمام الرئيس كي يتخذ قراره بناء على معلومات موثقة قائلة “وفر قادة البنتاغون للرؤساء خيارات عملياتية بعيدة المنال كي تبدو الخيارات الأخرى مستساغة؛” واصيبت البنتاغون بالصدمة من قرار الرئيس ترامب بالمصادقة على عملية الاغتيال (4 يناير الجاري).
من بين الخيارات التي صاغتها البنتناغون للرئيس ترامب، عقب حادثة السفارة الأميركية في بغداد، شن غارات جوية ضد سفن أو منشآت صاروخية لأيران، أو استهداف مواقع “للميليشيات الشيعية” في العراق.
ووفق مصادر عسكرية أميركية شملت قائمة خيارات البنتاغون “استهداف قاسم سليماني،” بغية ترجيح الخيارات الأخرى. وعندما اختار ترامب الاغتيال أصيبت القيادات العسكرية بالذهول والصدمة معربين عن قلقهم لمصير وسلامة القوات الأميركية في المنطقة “ولم يكن واضحاً ما إذا بذل (مارك) ميللي أو (مارك) أسبر جهوداً لثني الرئيس عن قراره.” (نيويورك تايمز).
استغل فريق بومبيو ومؤيدوه في مراكز القرار من المحافظين الجدد تلك الحادثة للتحريض ضد ترامب الذي أضحى متردداً وضعيفاً، وفق تفسير اولئك، بالتساوق مع بعض التعديلات التي طرأت على هيكلية فريق الأمن القومي لتصعيد الخطاب السياسي والإعداد لمواجهة مع ايران، ووقع الاختيار على قاسم سليماني نظراً لمكانته المحورية ليس لإيران فحسب، بل “لمحور المقاومة” المناهض للهيمنة الأميركية.
في البعد الاستراتيجي، رمى فريق التصعيد الأميركي أيضاً توجيه ضربة لروسيا باختيار توقيت الاغتيال مباشرة بعد انتهاء المناورات العسكرية الثلاثية المشتركة، ايران وروسيا والصين، من أجل ترجيح كفة “القطب الأوحد” في المنطقة والعالم.
البعد “الاسرائيلي”
جهود التنسيق والتكامل بين الكيان “الاسرائيلي” والولايات المتحدة لا تستثني أي نشاط من نواحي الحياة، لا سيما في المستوى الاستخباراتي والعسكري والاقتصادي؛ فضلاً عن الدور المرسوم لتل أبيب كقاعدة أميركية متقدمة في المنطقة.
ما يهمنا في هذا السياق الجهود المشتركة للطرفين ضد ايران، وهوة ما سنسلط الضوء عليه لدعم فرضية ان الاغتيال كان قراراً مشتركاً بينهما منذ زمن.
بعد اشهر معدودة من تولي الرئيس ترامب مهام منصبه، أبرم الطرفان الأميركي و”الاسرائيلي” مذكرة تفاهم تلزمهما بالتعاون الوثيق لتصديهما للمشروع النووي الإيراني، في أعقاب انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، 13 اكتوبر/تشرين الأول 2017؛ وبعد انعقاد سلسلة من “اللقاءات السرية في البيت الأبيض.”
وقعت المذكرة في الببيت الأبيض يوم 12 ديسمبر/ كانون أول 2017، بين فريقي الطرفين برئاسة مستشاريهما لشؤون الأمن القومي، اتش آر ماكماستر، عن الجانب الأميركي، ونظيره مائير بن شباط.
تناقلت وسائل إعلامية أميركية متعددة نبأً قبل نحو سنتين بأن “.. الولايات المتحدة أعطت اسرائيل الضوء الأخضر لاغتيال سليماني .. نتيجة اتفاقهما أن أنه يشكل تهديداً” للطرفين. وأوضحت أن مصدرها كان صحيفة تصدر في الكويت، الجريدة، والتي “.. في السنوات الأخيرة تنشر أخباراً من مصادر اسرائيلية حصراً.” (الجريدة، 1 يناير 2018)
وتضيف الصحيفة الكويتية أن الولايات المتحدة أفشلت عملية اغتيال لسليماني مشابهة قبل نحو ثلاث سنوات (2015)‘ في دمشق، مما “أثار جدلاً خلافياً حاداً” بين جهازي الأمن للطرفين.
رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية، الموساد، يوسي كوهين صرح لصحيفة تتبع الارثوذكس اليهود، 10 اكتوبر 2019، بأن اغتيال سليماني “ليس أمراً مستحيلاً .. (مستدركاً) انه لم يرتكب الخطأ الأمني” الذي يعرضه للانكشاف والاستهداف.
كما أشارت يومية نيويورك تايمز، 2 حزيران 2017، إلى الاجراءات التي استحدثها مدير السي آي ايه، مايك بومبيو، عززت منحى العمليات السرية والاغتيالات؛ مؤكدة أن وكالة الاستخبارات المركزية “بالتعاون مع الموساد استخدمت سيارة متفجرة لاغتيال (عماد) مغنية في دمشق،” بتاريخ 12 شباط/فبراير 2008.
اذ استثنينا جانباً تجنيد الموساد والسي آي ايه لعملاء ايرانيين، لا سيما مجموعة مجاهدي خلق، لاغتيال 5 علماء ايرانيين في مجال الطاقة النووية داخب ايران؛ ينبغي لفت الأنظار للعمليات العسكرية “الاسرائيلية” داخل العراق منذ توقيع “مذكرة التفاهم المشتركة” مع الولايات المتحدة.
هل نسقت واشنطن مع تل ابيب اغتيال قاسم سليماني؟ الصحافة الأميركية وفرت علينا الجواب ايجاباً.
يومية لوس انجليس تايمز، 4 يناير الجاري، أكدت أنه كان لتل أبيب إشعار مسبق بالخطة الأميركية نقلاً عن مصدر عسكري “اسرائيلي” رفيع. الصحافي المقرب من الأجهزة الأمنية في تل أبيب، باراتك رافيد قال “تقييمنا هو أن الولايات المتحدة أبلغت اسرائيل بهذه العملية في العراق، على ما يبدو قبل بضعة أيام.” (قناة الحرة الأميركية، 4 يناير).
الخيارات الأميركية
التزمت واشنطن الرسمية شح الكلام والتعليق في الساعات الأولى لإصابة الصواريخ الإيرانية قواعدها في العراق، واستنفذت اجتماعين عاجلين لمجلس الأمن القومي قبل ظهور الرئيس ترامب في رسالة متلفزة للأمة محاطاً بطاقمه من المستشارين والوزراء، مشدداً على أن بلاده لم تتكبد خسائر بشرية جراء الهجوم.
كانت تلك إشارة بأن واشنطن لن ترد على الفور وترجمة لكتاب وجهه للكونغرس مفاده بأن الرد الأميركي على ايران مشروط “بمهاجمتها أي شخص أو هدف أميركي .. وسيكون الرد سريعاً وبشكل كامل وربما بطريقة غير متناسبة.”
عند هذا المنعطف، وبعد فشل بومبيو ومؤيديه جر الولايات المتحدة لحرب مباشرة مع ايران سيتعين عليه استنباط حيلة وذريعة أخرى لإشعال حرب، مع الأخذ بعين الاعتبار موسم السباق الانتخابي.
“إعادة انتشار” القوات الأميركية في سوريا والعراق دليل آخر على “تراجع” الولايات المتحدة في المرحلة الراهنة، وإبقاء بوصلتها مصوبة شرقاً باتجاه الصين وروسيا.
عديد القوات الأميركية المنتشرة في المنطقة، برية وجوية وبحرية ومشاة البحرية – المارينز، تندرج تحت عناوين ثلاثة عريضة.
القوات المقاتلة: قوات مدربة على مهام الاقتحام والالتنحام مع الخصم وحماية المواقع الأميركية، ونشر وحدات صغيرة مدربة لتحقيق مهام محددة، ومعظمها يتواجد في أفغانستان.
الفنيين: فرق من الجنود المدربين على صيانة نظم التسليح المتعددة، كالطائرات المقاتلة ونظم الدفاع الجوي وشبكات الرادار. تقتصر مهامهم على الدفاع وحماية المواقع، وليس القيام بعمليات هجومية أو اشتباك مع الخصم.
القوات المساندة: تشمل فرق الإغاثة والطبية والقيام بمهام الإمداد والنقل، لكنها غير ملائمة لخوض معارك حربية.
باستثناء بعض الفرق الصغيرة من مشاة البحرية والمرابطة في الكويت فإن معظم القوات الأخرى تندرج مهامها في حماية وصيانة نظم التسليح المتعددة: المقاتلات الحربية، نظم الدفاع الصاروخية، صواريخ كروز، والطائرات المسيرة. مجموعة محدودة من المارينز اتجهت من الكويت لبغداد لتوفير حماية للسفارة الأميركية.
ارسلت البنتاغون نحو 2،200 جندي من مشاة البحرية، وحدة 26 الاستكشافية، للمغرب للمشاركة في التدريب، وسيرابطون على متن السفن الحربية.
كما أرسلت مجموعة من الفوج 75 للحرس لتعزيز مهام الحماية في المنطقة.
ويتأهب اللواء القتالي 173 المحمول جواً الذهاب للمنطقة يرجح أنه سيقوم بحماية السفاترة الأميركية في بيروت.
أما مجموع القوات الأميركية العاملة في المنطقة فيبلغ نحو 80،000 عسكري، معظمها لمهام قتالية، وفق بيانات البنتاغون، موزعة كالتالي:
افغانستان – 14،000 جندي؛ الكويت وقطر – 13،000 لكل منهما؛ البحرين – 7،000؛ العراق – 6،000؛ السعودية – 3،000؛ الأردن – 5،000؛ الأردن – 5،000؛ وسوريا – 800.
القوات البحرية العاملة في المنطقة يبلغ تعدادها 5،000 عسكري.
كما تحتفظ الولايات المتحدة بترسانة عهالية من الأسلحة والذخائر مخزنة في مناطق متعددة باستطاعتها نشرها في أي وقت يستدعي ذلك.
سلاح صواريخ كروز المنطلقة من البحر سيكون له دور بارز في أي مواجهة محتملة مع ايران، وكذلك مئات من الطائرات المقاتلة، سواء في القواعد البرية في الخليج أو في عرض البحر.
المواجهة الأشد ترجيحا بين ايران والولايات المتحدة هي في مجال القرصنة الالكترونية والتي يستخدمها الطرفان دون إعلان في أغلب الأحيان؛ وكذلك في مضيقي هرمز وباب المندب حيث تتواجد حاملات الطائرات الأميركية وبوارجها الحربية.
أما القوات الإضافية التي تستعد واشنطن لإرسالها للمنطقة فهي لساحة العراق لاعتقاد الأولى أن القوى الشعبية المسلحة ستسهدف القواعد الأميركية هناك، وتقتصر مهامها على تعزيز سبل الحماية للمنشآت والمؤسسات الأميركية هناك.