عام التعايش الشجاع 2020 محمد عارف*
عام التعايش الشجاع 2020
محمد عارف*
في «كل غروب يستيقظ الشهداءُ الصغار من نومهم في القبور، ينفضون التراب عن ثيابهم ويجتمعون في شارع المقبرة، ليتحدثوا عن المدينة، وعن القمصان الجديدة. ويثرثر الشهداء كثيراً بعد الغروب، لكن حين يغني أحدُهم: (يُمّه يا يُمّه يا يُمّه، ما نِمِتْ ليلي)، يتذكرون أمهاتهم، ويجهشون بالبكاء». هذه سطور من قصيدة الشاعر العراقي حميد قاسم، تنعي فتياناً في عمر الزهور وجَمالها، لا نعرف مذاهبهم ولا أديانهم ولا مدنهم. والقصيدة وصور الضحايا منشورة في موقع إنترنت «محلية الثورة للحزب الشيوعي العراقي» الذي تصوّرناه مات، منذ شارك بعض قادته في حكومة الاحتلال.
و«عندما أريد أن أفهم ما يحدث اليوم، أو أقرر ما سيحدثُ غداً أنظُر إلى الخلف». قال ذلك «عمر الخيام»، وهو من أبرز علماء وفلاسفة حضارات المنطقة المتعايشة، التي أنتجت البيروني، وابن سينا، والفارابي، والطوسي، والرازي، والحلاج. ويدهشنا شعراء تعايشوا وأبدعوا عبر البلدان، مثل سعدي الشيرازي، وجلال الدين الرومي. ونجد في اختلاط أصول هؤلاء المشاهير أحد أهم معالم التعايش السمح بين أقوام وحضارات مختلفة. إن المذاهب والمعتقدات وليدة ظروف جغرافية وتاريخية واجتماعية، وهي من امتيازات الوضع الجيوبوليتيكي للمنطقة الممتدة من شمال أفريقيا، وعبر الشرق الأوسط، وشبه الجزيرة العربية، وآسيا الوسطى، وحتى حدود الصين. وإذا كان التنوع الإثني أو القومي يعكس غنى الموروث الجيني لبلدان المنطقة، فإن التنوع الديني والمذهبي تعبير عن الثراء الروحي للسكان، وقدرتهم على حل معضلة مواقعهم على الفوالق الزلزالية للعالم.
والتعايش ليس دليل ضعف، بل دليل شجاعة. والعراق، بلاد ما بين النهرين وما بين البلدان والأمم، ليس محض خصومات وحروب، بل موطن أقدم الحضارات العالمية. وهنا «الأكاذيب كطعنة سيف، فمع أن الجروح قد تندمل إلاّ أن الندوب تبقى»، قال ذلك الشاعر الفارسي «سعدي الشيرازي» الذي درس العلم والأدب في جامعة «النظامية» في بغداد، التي أنشئت في العصر العباسي. ونَدَب «سعدي» في قصيدته الوحيدة بالعربية الخراب الذي أنزله غزو هولاكو: «حبستُ بجفنَيّ المدامع لا تجري.. فلما طغى الماء استطال على السُّكرِ. نسيمُ صبا بغداد بعد خرابها.. تَمَنيتُ لو كانت تمرُّ على قبري».
القومية والوطنية ليست أناشيد ورايات، بل هي أساس وجود بلدان المنطقة وقوام وحدتها، إنها العقد الأساسي للدول مع مواطنيها. والتفريط بالقومية والوطنية، كما تبين تجربة العراق، يُكلف ثمناً باهظاً. هذا هو سبب تقديس سكان العراق عبر التاريخ سلطةَ الدولة ورموزها. وليس تاريخ العراق وحده ولد في أحضان الجغرافيا، بل سياساته أيضاً، بما فيها عدم التماسك الذي يميز فكره السياسي منذ القدم. لاحظ ذلك عبد الرضا الطّعان، أستاذ علم السياسة بجامعة بغداد في كتابه «تاريخ الفكر السياسي في العراق القديم». واستعرض «الطّعان» في كتابه جغرافية العراق السياسية التي أنشأت وحدات متعددة تملك كلٌ منها كهانتها الخاصة وتقاليدها. وحَمَلَت الأقوام المهاجرة إلى العراق القديم أفكارها الخاصة بها. وحافظ الإنسان العراقي عبر هذه التطورات على النظر إلى السلطة السياسية بكل أبعادها الكونية والدينية، واعتبار «الواقع ككل له تركيب الدولة».
و«اليوم الطريق إلى الاستقلال الحقيقي، والطريق إلى الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية لا يمر عبر فوهة البندقية. وقد أظهرت تجربة السنوات الأربعين الماضية هذه الحقيقة. فالحرب ليست نعمة». قال ذلك الكاتب الإيراني «علي آزاد» في مقالة منشورة بالفارسية والإنجليزية في موقع «أخبار روز» الذي ينشر أعمال النخبة المثقفة الوطنية الإيرانية غير الدينية. عنوان المقالة «نظرة واقعية على ما جرى في العراق.. إلى أين تذهب إيران؟». وقال فيها: «إن الظروف الحساسة الراهنة في المنطقة تجتذب أبصار العالم نحونا وإلى المنطقة. والخوف هو ليس الدليل السليم للخروج من المأزق».
*مستشار في العلوم والتكنولوجيا