س1 – كيف تنظر إلى أزمة الفكر العربي انطلاقاً من الواقع المأزوم واستعصاءاته، إلا إذا استثنينا الحراكات الشعبية ذات الأبعاد الإيجابية؟
ج1- يعاني الفكر العربي من الركود والإتكالية والتعويلية، وهو فكر غير منتج لأنه فقد الكثير من عناصره الحيوية، لاسيّما في ظلّ شحّ الحريات وقلّة المبادرة ونضوب الإبداع والابتكار والهوّة الشاسعة التي تفصل بين مجتمعاتنا والتقدم العلمي والتكنولوجي الذي يشهده العالم، خصوصاً في ظلّ ثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام والمعلومات والطفرة الرقمية الديجيتل ، والذكاء الاصطناعي الذي تشهده الثورة الصناعية الرابعة.
للأسف ما زلنا نجتر الماضي بتقليد واستكانة دون أي اعتبار لمواكبة روح العصر وما يحدث فيه من متغيرات سريعة وخارقة، وفي السنوات الخمسين الأخيرة أحرز العالم تقدماً يفوق كل ما أنجبته البشرية في تاريخها من تقدم. وإذا كان هذا من باب النقد الذاتي، فإن ما نحتاج إليه هو قراءة الواقع في ضوء الصورة التي تبدو معتمة، ولا بدّ من الانفتاح على العالم دون القطيعة مع التراث، بقدر ما يمكن استلهام ما هو مفيد منه في استشراف الحداثة وما بعدها، إذ أننا لا نعيش في جزيرة معزولة، بل إننا جزء من عالم متداخل ومتراكب ومتشابك، وإن كانت لنا خصوصيتنا إلّا أننا جزء في عالم متصل ومتواصل ومتفاعل.
وإذا كانت الحراكات الشعبية تبدو مثل الريح الخفيفة التي تسبق المطر، وهي أمر منعش ومحفّز للآمال والأحلام، خصوصاً الزخم الشبابي الواعد، لكن ثمة أزمات عديدة يعاني منها الواقع العربي وتكاد تعصف بكيانيته الوجودية وعلينا تشخيصها ليمكن بالتالي التصدي لها ، بالاعتراف بوجود أزمة عميقة ولا بدّ من تحديد معالمها وعناصرها ليمكن بالتالي وضع الحلول والمعالجات لها.
أولها- غياب الهويّة الجامعة والمشتركة، تلك التي كانت تؤلف ركناً أساسياً من أركان المشاريع السياسية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي ، وقد انعكس هذا الغياب على الافتقاد للحد الأدنى من التعاون والتنسيق بين البلدان العربية، إذا لم نقل إن هناك خصومات ونزاعات أصبحت معتّقة ومزمنة بينها، ومن مخرجات هذا الوضع انحسار المشاريع ذات الأبعاد الوحدوية والنظرة الشاملة للصراع في المنطقة، خصوصاً باعتبار القضية الفلسطينية جوهر هذا الصراع ذات البعد التحرري والاجتماعي في آن.
وثانيها- الانقسامات الطائفية والمذهبية والإثنية التي اجتاحت العديد من البلدان العربية وقادت إلى احترابات سياسية ومجتمعية وصراعات ونزاعات بينها، الأمر الذي أدى إلى ضعف الوحدة الوطنية وهشاشة الهويّة الجامعة على الصعيد الوطني، لاسيّما بصعود هويّات فرعية على حساب المشترك الإنساني والهويّة الوطنية .
وثالثها – تلكؤ خطط التنمية وتعثّرها لدرجة التعطيل أحياناً، والعودة بها القهقري، خذ أمثلة عديدة: مصر وسوريا والعراق والجزائر وليبيا والسودان واليمن، وهي دول كانت قد خطت خطوات أولى باتجاه التنمية، وحققت نمواً اقتصادياً واجتماعياً في مجالات مختلفة، لكن أوضاعها الداخلية الهشّة وشح الحريات، ومن ثم الضغوط الخارجية جعلتها تتراجع عن العديد من طموحاتها التي عاشتها في سنوات الستينات وكانت واعدة.
ورابعها- الحروب التي عاشتها منطقتنا، ابتداء من الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988 التي لم يكن لها مبرّر على الإطلاق والتي لم تخدم سوى الإمبريالية والصهيونية، ثم غزو الكويت في العام 1990 وما رافقه من حرب لتحريرها وتدمير العراق في الآن العام 1991، وظلّ العراق ينزف لنحو 12 عاماً تحت وطأة حصار دولي جائر، وأعقب ذلك احتلال غاشم في العام 2003 ما تزال تأثيراته قائمة إلى اليوم ، لاسيّما بصيغة المحاصصة الطائفية – الإثنية ونظام الزبائنية السياسية الذي قام على تقاسم المغانم.
ولا ننسى هنا العدوان “الإسرائيلي” المتكرّر على الأمة العربية، ففي العام 1982 اجتاحت “إسرائيل” لبنان وصولاً للعاصمة بيروت، وفي العام 2006 شنت هجوماً واسعاً عليه تحت مسمّى “الثواب العادل”، وأعقبت ذلك بثلاثة حروب على قطاع غزة المحاصر منذ العام 2007 هي: عملية “الرصاص المنصهر”، “أواخر العام 2008، و“عملية عمود السحاب” العام 2012 و“عملية الجرف الصامد” العام 2014، وما تزال تعمل على توسيع مستوطناتها كما تسعى لضم جزء من غور الأردن، مدعومة من واشنطن التي ” اعترفت” بالقدس الشريف عاصمة لها ونقلت سفارتها إليها، مثلما “أهدتها” الجولان السوري المحتل إقراراً بـ “الأمر الواقع”، أي ” الاحتلال الواقعي” في مخالفة غير مسبوقة لما يُعرف بالقانون الدولي المعاصر وميثاق الأمم المتحدة وقراراتها.
وخامسها – النزاعات الأهلية وتمزّق نسيج الوحدات الوطنية، تلك التي تُغذّى خارجياً من جانب القوى الامبريالية والصهيونية، الأمر الذي يقود إلى التفتيت والتشظي وقد يصل إلى التقسيم، وسبق لـ كيسنجر أن قال في أواسط السبعينات: علينا إقامة ” إمارة” وراء كل بئر نفط، أي تحويل العالم العربي إلى ” أقليات” وتعويم الجوامع بين العرب، والمقصود بذلك ترذيل “العروبة” و”تنغيل” أي علاقة جامعة للعرب بما فيها لغة الضاد، وهو ما يمكن “إسرائيل” كي ما تكون “الأقلية” الأكثر تقدماً من ناحية العلوم والتكنولوجيا ، لاسيّما بدعم واشنطن بشكل خاص والغرب بشكل عام.
س2- ماذا عن الموجة الثانية للحراك الشعبي وأين مواقع الأحزاب السياسية، فكيف تنظر إلى ذلك؟
ج 2- ثمة إرهاصات أولية على صعيد الواقع العربي والدولي علينا قراءتها بعقل منفتح ومرونة حركية ضرورية لمواصلة الكفاح لتحقيق ذات الأهداف، ولكن بوسائل جديدة تستجيب للتطوّر الكوني، فقد أظهرت الحراكات الشعبية بعض الحقائق الجديدة التي لا بدّ من دراستها والتعرف على ملامحها الأساسية منها: ضمور دور الدعاة الحزبيين الأيديولوجيين، العقائديين، الذين بشّروا الناس بالجنة، أو بعالم يحقق الوحدة العربية أو تحرير فلسطين (الآن وليس غداً)، أو ينجز حلم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية الأخّاذ، حيث ظلّ الصراع بين القوميين والشيوعيين، ومع الإسلاميين في ما بعد، لا على الحاضر، بل على المستقبل، وأحياناً ليس في “مملكة الأرض”، بل على قيم السماء.
هكذا ظلّت الأمور تجريدية أحياناً، فالصراع على القيم والمثل والأهداف البعيدة، تلك التي ينبغي أن تتحوّل إلى خطط وبرامج، وهذه الأخيرة إلى أعمال وأفعال وحتى لو كانت الأهداف خيّرة ونبيلة، فينبغي اختيار الوسائل العادلة والمشروعة للوصول إليها، فالوسيلة إلى الغاية هي مثل البذرة إلى الشجرة حسب تعبير رائد المقاومة المدنية المهاتما غاندي، إذ لا غايات شريفة دون وسائل شريفة، لأن الوسيلة ملموسة ومعلومة وراهنية، في حين أن الغايات متخيلة أحياناً وبعيدة وغير منظورة. وهذا ما ينبغي فهمه والتعامل على أساسه، ولعلّه أكبر الأسئلة التي تواجه عملية التغيير، علماً بأن كلام الأمس غير كلام اليوم.
علينا الاعتراف على نحو شجاع أن الرومانسية القديمة لم تعد كافية لإشعال حماسة الشابات والشبان، بما فيها الوعود والآمال الكبيرة والشعارات البرّاقة، البعيدة المنال؛ لقد حلّت محلّها الواقعية السياسية، بلا شعارات كبرى ولا وعود أقرب إلى السراب. لقد انتظمت الملايين بشعارات مبسّطة: الحرية ، الكرامة ، محاربة الفساد والعدالة الاجتماعية. فسدّت الجماهير التي تذكّر بعصر المداخن باستعارة من كارل ماركس، الساحات والشوارع، بل زلزلت الأرض تحت أقدام الحكام، في حين فقد المثقف الأيديولوجي صوته، وهو يبرّر خطاب الحاكم بالقمع السياسي أو بالقمع الفكري وبحرق البخور بالدعاية والتزويق بحجج ومزاعم شتى، أو المعارض الذي كان بعيداً أو غائباً أو مخادعاً، أو الأغلبية الصامتة المغلوب على أمرها، كلهم كانوا بعيدين عن ساحة المشاركة الفاعلة، وإنْ التحقوا بعد حين وسط جو من الدهشة والارتباك والريبة أحياناً..
لقد حوّلت المتغيّرات الجديدة عدداً من المعارك الوهمية الصغرى، حول أفضليات هذه المجموعة أو تلك، باعتمادها أفضليات جديدة، هي أفضليات الجماهير المبادرة وجيل الشباب المتقدّم على بعض النخب التي استنفذت أغراضها ولأول مرة في الوطن العربي، تظهر على السطح ومن القاع حراكات شعبية سلمية ومدينة سداها ولحمتها الشباب، الجميل، الحالم بقدر واقعيته وبرغماتيته ناقضاً مفاهيم ومسلّمات سادت، كمقولة أن الثورة لا يمكن لها أن تتحقّق ما لم تتوفّر لها قيادة مُلهمة أو أن تكون تحت إشراف وتنظيم “حزب قائد” أو “طليعة”، أو أن التغيير لن يتحقق في ظل أنظمة استبدادية ودكتاتورية عاتية دون تدخل الجيش، أو أن قوى الداخل ليس بإمكانها انجاز التغيير دون التعويل على الخارج ومساعداته، وما سمّي تلطيفاً ” العامل الدولي” الذي أوصل بلداً مثل العراق، بعد حصار دولي جائر إلى الاحتلال البغيض.
وأثبت جيل الشباب أنه الأقدر على تحقيق خياراته كما يريد هو لا كما يُراد له، فقد أخطأ من ظنّ أن الشارع العربي قد أصابته الشيخوخة، فدخل في سبات عميق، أو أن الحكومات الشمولية دجّنت الشعوب بعوامل الجوع والخوف فضمنت خضوعها اللّامحدود بمكان أو زمان، وها هو يخرج من قمقمه ليخترق الميادين والساحات، مُحطّماً حواجز الخوف، ومنتصراً على جوعه وقهره في أولى خطواته نحو الوجود والكرامة.
لم يكن للانتفاضتين التونسية والمصرية رمز قائد أو زعيم مخلّد أو ملهم مخلّص، يصبح لاحقاً “معبوداً” ومقدساً، وفوق حدود النقد. ولم يكن للانتفاضتين أيضاً نصوصاً مقدسة أو مقولات سرمدية؛ فقد كانتا تواجهان الواقع المعقّد بشعارات واضحة ورمزية وواقعية في آن واحد. ومثلما كانتا ضد الصنمية، فإنهما كانتا ضد النصوصية، أي أنهما ضد المسلّمات واليقينيات والقدسيات والسلفيات المشوّهة والوعود الزائفة، وعابرتان للطوائف والطبقات الاجتماعية والمجموعات القبلية والعشائرية، واضحتان في مطالبهما، وحاسمتان برفضهما للمساومة وأنصاف الحلول، ومؤكدتان إخلاصهما ونزاهتهما والتزامهما بمطالب شعبيهما.
لقد وضعت حركة الاحتجاج الشعبية في موجتها الأولى، ولاسيّما في تونس ومصر، وفي موجتها الثانية: الجزائر والسودان والعراق ولبنان سؤالاً محرجاً أمام أحزاب المعارضة والأحزاب الكلاسيكية: أين دورها وما هو موقعها من الخريطة السياسية الجديدة؟! تلك التي ظلّت تلوك خطابها ولغتها الخشبية عقوداً من الزمان، سواءً أكانت شيوعية أم قومية أم إسلامية، حتى دون مراجعة أو نقد على الرغم من كل المتغيّرات؟ هكذا قدّمت الجماهير الغاضبة الفعل الثوري الواقعي الحسّي، على حساب الأيديولوجيات والوعود والخطابات الاجتماعية والثقافية، التي سمعتها كثيراً.
حقاً لقد أفرزت حركة الاحتجاج نمطاً جديداً من التفكير والممارسة متقدّماً وشجاعاً، مثلما ساهمت في تعميق الوعي الثقافي الجديد المتفاعل مع الوعي العالمي. لقد بدأ الشباب بكل حيويته وطاقاته ومبادراته، وعلى الجميع اليوم الاستماع إليه والوقوف خلفه، قبل أن يتم الالتفاف عليه أو سرقة منجزاته أو اللعب بمستقبله.
إن انفجار الغضب العفوي الجماهيري كان في أحد وجوهه مقاومة للتوجه النيوليبرالي، المتمثّل في أصحاب السلطة وأصحاب الثروة المدعوم من قوى دولية متنفّذة،لاسيّما بانتقال الخوف من الناس إلى الأنظمة وهو عامل جديد . لقد مضى على احتجاجات الجزائر السلمية نحو 60 أسبوعاً ونحو أربعة أشهر على الاحتجاجات العراقية ومثلها انفجر الشارع في لبنان، أما في السودان ، فقد حسم الجيش الأمر بتسوية بين المدنيين والعسكريين ، ولعلّ واحداً من المظاهر الجديدة هو التوجه السلمي – اللّاعنفي المدني لحركة الاحتجاج، تلك التي تذكر بالانتفاضة الفلسطينية أواخر العام 1987 والتي عُرفت باسم “انتفاضة الحجارة” والتي حققت انعطافاً عالمياً لصالح القضية الفلسطينية لولا المتغيرات العربية والدولية واندفاع القيادة الفلسطينية الرسمية نحو اتفاقيات أوسلو 1993.
س 3- وماذا عن الجيل الجديد وهل هناك كما تقول عقل جديد؟
لقد برز جيل جديد من الشباب أخذ على عاتقه مسؤولية قيادة الحراكات الشعبية الميدانية بعيداً عن التنظير، مبتدعاً أساليب كفاحية جديدة، وغير مألوفة، سبّبت الذهول والحيرة والتردّد للنخب الفكرية والسياسية القائمة في السلطة والمعارضة، لاسيّما في الأيام الأولى. وقد انطلق الجيل الثوري الجديد من فضاء مجتمعي، بعيداً عن الآيديولوجيا وتفريعاتها الشمولية والدينية، مثلما كانت سمته وطنية عامة دون فئوية أو تعصب أو تطرف أو غلو ، دون أن يعني أن ثمة محاولات اختراق خارجية، لاسيّما من جانب القوى الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة التي تحاول الاستفادة من أي متغيّر في الخريطة السياسية وتوظيفه لصالحها، سواء باستدراج بعض المجاميع تحت عناوين برّاقة مثل “حقوق الإنسان” و”الديمقراطية” و”حرية التعبير” وغيرها.
ولكن يمكنني القول أن الحدث التونسي والحدث المصري كانا صناعة محلية بكل امتياز، وأن تأثيراتهما بلا أدنى شك كانت عربية وإقليمية وقد تكون كونية أيضاً، وهو ما يمكن قراءته لاحقاً، فالكثير من الثورات المحلية، كان لها إشعاع كوني بغض النظر عن تقييماتنا، خذ مثلاً: الثورة الفرنسية العام 1789 والثورة البلشفية العام 1917 والثورة الإيرانية العام 1979 وانتفاضات أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات وغيرها، أي أن دلالاتها يمكن أن تتجاوز حدودها إلى بلدان وشعوب أخرى (خصوصاً أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، إضافة إلى العالم العربي) ، وقد انتشرت عدواها لتصل إلى العالم كلّه وهو ما ينطبق على الحدثين التونسي والمصري.
س4- أين إذاً مفهوم الوطنية؟
لعلّ مفهوم “الوطنية” لدى جيل الشباب يختلف عمّا يفهمه ويريده الحكام باعتباره “شرط خنوع” مثلما يختلف مفهوم “الخارج” الذي يريد توظيف حركة الاحتجاج الشعبي لصالحه ولخدمة مشاريعه الاستعمارية الدولية أو لنفوذه الإقليمي ، وثمة مفارقات على هذا الصعيد، فالحكام الذين شاخوا وهم في السلطة، حاولوا تصوير الاحتجاج بأنه “صناعة خارجية” ولخدمة الأهداف المشبوهة المعادية للأمة، في حين إن الجيل الجديد كان يربط الوطنية بالحقوق، ويرى فيهما تلازماً لا انفصام فيه، إنما (الوطنية والحقوق) عنده يقومان على مساءلة رجل السلطة والحاكم باعتبارهم خادم الشعب وليس العكس.
لقد تبنّى الجيل الجديد النقيض، فلم يعد يهمّه التشدّق والسفسطات الأيديولوجية والتعويذات الدينية، وذلك بسبب سياسات الاستبداد الطويلة الأمد، واحتكارات العوائل الحاكمة لجميع مرافق السياسة والإدارة والاقتصاد والثقافة والإعلام في الدولة، لذلك وجد نفسه في القيم المغايرة، التي تقوم على الحرية والمساواة والشراكة والعدل، أي الحق في المواطنة المتكافئة.
وإذا كانت الحرب الباردة السابقة قد انتهت بانهيار الكتلة الاشتراكية، وتحوّل الصراع الأيديولوجي إلى شكل جديد، متخذاً من “الإسلام” عدوًّا ينبغي القضاء عليه، حسبما برّرت القوى الغربية المتنفّذة، وخصوصاً الولايات المتحدة، سواءً اتّخذ ذلك شكل مكافحة “الإرهاب الدولي” أو لم يتخذ، فإن ما يسمّى بـ”المجتمع الدولي” على كل عيوبه ومساوئه يضطر أحياناً للانحياز إلى القيم الإنسانية “المعلنة” شكلياً أو فعلياً بحكم وجود مؤسسات ومساءلات داخلية في البلدان المتطورة، على الرغم من محاولات الهيمنة والتوظيف في ظل العولمة، بوجهيها المتناقضين المتوحش والإيجابي، الأول: الخاص بعولمة الإرهاب والقمع واستلاب حقوق الشعوب، والثاني: عولمة الثقافة وعولمة حقوق الإنسان، وعولمة ثقافة المساواة من خلال تكنولوجيا المعلومات والإعلام والاتصالات وكل ما يتعلق بالثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي، حتى وإن تم وضع عراقيل أمام شعوب البلدان النامية لتحجيم الاستفادة منها والإبقاء عليها مورداً أساسياً للمواد الخام وسوقاً للبضائع والسلع المصنوعة في إطار الاستغلال والنهب الإمبريالي.
س 5- أثمة معالم أخرى لحركة التغيير التي تؤشر لها ؟
ج 5- نعم وهي معالم متميزة ومهمة منها أنها لم تكن ذكورية، أي لم تقتصر على الذكور فحسب، بل ساهمت فيها النساء إلى حدود كبيرة، وكان لهنّ دور بارز في القيادة والإدارة والحضور والمشاركة، ولعل ذلك يمثل رسالة جديدة حداثية لبدء عهد جديد انتقلت فيه النساء من الصفوف الخلفية المساندة للحركات الشعبية إلى واجهات الحدث، ليتصدّرن المنابر والقيادات، سافرات أو محجبات، مسيحيات أو قبطيات، لا فرق بينهن؛ فقد وحدّهن حب الوطن، وكنّ جميعهن يردّدن الشعارات ذاتها المطالبة بالتغيير والكرامة الإنسانية والعدالة ومحاربة الفساد في وطن يتسع للجميع.
ومن المعالم الجديدة علانية وشفافية حركة الاحتجاج في التخطيط والتنظيم والإعلام والتنفيذ وكل شيء كان يمرّ عبر وسائل التواصل الاجتماعي وهكذا كشفت حركات الاحتجاج الأخيرة اختفاء صورة الثوري القديمة، فلم يعد يأتي بسترته المتّسخة وقميصه الرث، متنكّراً بأزياء أخرى شعبية أو فلاحية، أو واضعاً لفائف الرأس دليلاً على الثورية أو التديّن أو العمل السري. جاء الثوري الجديد بكل أناقته، ومعه جوقة البروفسورات وأساتذة الجامعات والإعلاميين والمحامين والأدباء والفنانين والكتّاب والقضاة والشغيلة بكل فروعها، أي شغيلة اليد والفكر. لم يفكر قبل مجيئه بتلقّي التعليمات من الأوكار السرّية، أو من خريجي السجون، أو المقيمين في الجوامع والمساجد والكنائس أو من مقار الأحزاب التقليدية وبياناتها الروتينية النمطية، فهؤلاء كلهم هم من اتّبعوه هذه المرّة، لأنه كان يعرف قضيته أكثر من غيره، ولديه القدرة للتضحية من أجلها، دون “وصاية” أو “أبوية” أو ادّعاء احتكار المعرفة والحقيقة.
لقد أثبتت قوة الشباب أنها العامل الأساسي في رسم الخريطة المستقبلية للعالم العربي والشرق الأوسط، سواء حققت حركات الاحتجاج أهدافها أو أخفقت وانتكست وتراجعت، فثمة منعرجات وإلتواءات وتضاريس وعرة تقف بوجه حركة التغيير وتعوقها من تحقيق أهدافها، لأن القوى التقليدية ما تزال مؤثرة وتمسك بالعديد من المفاصل المهمة في الدولة العميقة والمال والأجهزة الأمنية والعلاقة مع القوى الخارجية، لكن العالم العربي ما قبل الاحتجاج شيء وما بعده أصبح شيئاً آخر.
وإذا كانت الكتب الدينية أو القومية أو الكتاب الأحمر أو مقولات لينين وجمال عبد الناصر وكاسترو وجيفارا محفّزاً للثوار سابقاً، فإن عود الجيل الجديد قد اشتدّ في غرف الانترنيت وعلى صفحات الفيسبوك ومقاهي المهمّشين وعلى الأرصفة، وأثبت جدارة لا حدود لها، على عكس الانطباع السائد الذي كان يتّهمه بالميوعة واللّامبالاة وقلّة الشعور بالمسؤولية؛ فهو أبدى استعداداً للموت أكثر بكثير مما أبدته أجيال سابقة. علينا أن نقرأ الجديد ونتعلم منه دون أن ننسى أهدافنا الأساسية، وعلى حدّ تعبير فيكتور هوغو ” إنه لثناء باطل أن يقال عن رجل إن اعتقاده السياسي لم يتغيّر منذ أربعين عاماً، فهذا يعني ان حياته كانت خالية من التجارب اليومية والتفكير والتعمق الفكري في الأحداث. انه كمثل الثناء على الماء لركوده وعلى الشجرة لموتها “.
يقول نيتشه على المرء أن يغيّر أفكاره مثلما تنزع الحية جلدها، وعلينا حسب انجلز اعادة النظر بستراتيجيتنا عند كل اكتشاف لسلاح حربي. أما التشبث بالمواقف أو ادعاء امتلاك الحقيقة، فهذا رأي من لا يريد التفاعل مع الحياة وهو دليل عجز وتقهقر!
س6- أين موقع حركات الاحتجاج الحالية من فن الانتفاضة ؟
ج 6- مثل الحياة والحب قد تبدو حركة الاحتجاج عصيّة على الفهم لأول وهلة، فهي لا تأتي دفعة واحدة، كما أنها لا تحضر كاملة ونهائية، ولكن مظاهرها تتضّح وتتكشّف مع مرور الأيام وبالتدريج، ولعلّ الزمن كفيل بكشف أسرارها وتسليط الضوء على خفاياها وخباياها، لاسيّما في مراحلها المختلفة، بما فيها من عوامل قوة ونقاط ضعف، بالتقدّم والتراجع، بالنجاح والإخفاق، خصوصاً بتحديد مصيرها، وبالاقتراب من تحقيق أهدافها.
وبغض النظر عن التسميات والتوصيفات، فبعضهم يطلق عليها: ثورة والآخر انتفاضة والثالث حركة احتجاج والرابع تمرّد والخامس هبّة ، ولكن ذلك كلّه وخارج الخلفيات السياسية، هو فعل رفض وإن اتخذ أبعاداً مختلفة فالانتفاضة من نفض، أي أزال شيئاً ما، غباراً كان قد علق بالثوب مثلاً، ويشير معناها إلى حركة وتغيير، أي خلق جديد يولد من القديم. ويقال نفض المكان أو نفض الطريق أي نظّفه من اللصوص، كما يفيد مصطلح ” الإنتفاضة” في معنى الخصوبة، فمثلاً نقول نفض الكرم، أي تفتّحت عناقيده، ويقال نفضت المرأة، أي كثر أولادها، وتستخدم الكلمة بالقول: نفض عنه الكسل أو الهمّ، أي أزاله، وانتفض تأتي أحياناً، إنتصب أو وقف، أي تحرك الكامن ليبدّد الساكن، أو أن الكامن أصبح ظاهراً، لدرجة وصل ما انقطع ولم يقطع ما وصل.
ولعلّ مبعث النقاش حول المصطلح ودلالاته تعود إلى نقاشات عتيقة حول معنى الثورة والفارق بينها وبين الانقلاب العسكري، وهو الجدل الذي أثير منذ الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، فقد قصدنا بالثورة التغيير الجذري، وبالانقلاب العسكري التغيير الفوقي، وهو خلاف يتعلق بتوصيف الحالة من جانب المؤيدين أو المعارضين. وكان المفكر ياسين الحافظ قد طرح في كتابه “بعض قضايا الثورة العربية” معياراً للثورة يتلخّص في أن يكون الشعب ناقماً على الحكم وأن يكون الحكم عاجزاً عن الاستمرار، والثورة هي التحرك الجذري في جوف المجتمع، وهي الحرث العميق في أسس الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ونقل المجتمع من مرحلة إلى أخرى ودفن طبقة منه تجاوزها التطور وتخطّاها التاريخ، وذلك استناداً إلى كتاب لينين “الدولة والثورة”، أما الانقلاب العسكري فهو التحرك الخادع على سطح المجتمع، والنبش الخفيف على قشرة الحياة الاقتصادية والسياسية، مع بقاء أسس المجتمع القديم .
وبتقديري إن اختلاف المصطلح اليوم وإن كان له دلالات، لكنني أنظر إليه من خلال مسار عام ويعتمد ذلك على السير خطوة خطوة وعلى نحو حثيث نحو هدف التغيير، فالاحتجاج والانتفاضة والثورة ، تستهدف إجراء تغيير حقيقي فيما يتعلق بعلاقة الحاكم بالمحكوم، ولاسيّما في الانتقال إلى الدولة القانونية وتداولية السلطة سلمياً وإشاعة الحريات وتحقيق الكرامة الإنسانية ومكافحة الفساد. وكل ثورة أو انتفاضة بدأت بتحرك شعبي واحتجاج جماهيري، ثم تطورت مطالبها، لاسيّما بعد امتناع السلطات الحاكمة عن تلبيتها أو لجأت الأخيرة إلى حلول غير سياسية، سواءً أمنية أو عسكرية أو حتى اقتصادية، الأمر الذي عمّق من مطالب المحكومين ورفع سقفها وقاد فعلياً إلى الافتراق، خصوصاً بعد أن عجزت السلطات الحاكمة الإسراع في إنجاز إصلاحات ضرورية.
الانتفاضة أو حركة التغيير، سواءً كانت منظّمة أم عفوية، سياسة بامتياز وهي تكثيف لكل ما سبقها من سياسات واحتجاجات ونضالات، إلى أن وصلت ذروتها من خلال تراكم كمّي طويل الأمد وتصاعد بالفعل الثوري، حتى وإن خبا أو اختفى عن الأنظار، لكن قانون الطبيعة كما هو قانون التاريخ كانا يفعلان فعلهما، حيث تؤدي التراكمات الكميّة إلى تغييرات نوعية في لحظة معينة وعندها يحدث الانفجار.
وإذا كانت الانتفاضة المنظّمة أي المخطط لها أو العفوية بعد اندلاعها، تتطلب كفالة الإعداد السليم وبرنامجاً طويل الأمد مع برامج فرعية أولية ومؤقتة، وتاكتيكات مناسبة وغير تقليدية، فلا بدّ أيضاً من توفّر ظروف موضوعية وذاتية للانطلاق أو بيئة حاضنة بعد الانطلاق، ومن ثم الإمساك بخيطها الصاعد حتى تحقيق أهدافها، سواءً تحقيق مطالب محدّدة أم إصلاح النظام السياسي أم استبداله أم تغييره بنقيضه.
وحول سلمية وعنفية الانتفاضة، فقد دار حوار بين لينين وبليخانوف، لاسيّما إزاء الإنتفاضة الروسية العام 1905 والتي فشلت، ففي حين اعتبر بليخانوف أن حمل السلاح كان بمثابة خطأ أطفال، لذلك كان ينبغي التخلّي عنه، ردّ عليه لينين مرجّحاً الانتفاضة المسلحة، بأن الخطأ لم يكن في استخدام السلاح وإنما في عدم استخدامه ببراعة كافية، ولا بدّ إذاً من تحسين استخدامه وليس العكس، وفي وقت لاحق دافع لينين عن الخيار المسلح، باعتبار الانتفاضة فنّاً، وانتقد خصوم الفكرة وتشويهات بعض الاشتراكيين باتهام الماركسية بالبلانكية (تيار ثوري مغامر في الماركسية قاده المفكر الفرنسي أوغست بلانكي)، مثلما فعل برنشتين زعيم الانتهازية كما يسميه، معتبراً أن توافر شروط الانتفاضة ورفض اعتبارها فناً (أي خوضها حتى النهاية) بمثابة خيانة للماركسية، بمثابة خيانة للثورة.
س 7- ماذا عن اللحظة الثورية؟ وكيف يتم اختيارها ؟
ج 7- لعلّ الأمر يتطلّب قراءة الوضع السياسي على نحو صحيح دون مبالغات بسبب التفاؤل المُفرط أو التشاؤم المُحبط، لا بتضخيم الذاتي على حساب الموضوعي، سواءً بالرهان على المغامرات وصولاً إلى الانتحار أحياناً، ولا بتقزيمه بحيث يقود إلى العجز والقنوط، وتضييع الفرص بانتظار أخرى، وكثيراً ما ضاعت انتفاضات بسبب حرق المراحل أو عدم إقتناص اللحظة الثورية على نحو صحيح.
ومن أصعب الأمور هو إتخاذ القرار ببدء الانتفاضة لأن ذلك يتطلّب حساب توازن القوى واختيار التوقيت المناسب والتدرّج في رفع الشعارات، وكل ما يتطلب الشروع بتهيئة مستلزمات انطلاقتها وبالتالي الحفاظ على جذوتها حتى تحقيق أهدافها والوصول إلى النتائج المطلوبة، خصوصاً ما حددته من أهداف، ولعل ذلك ما يمكن أن نطلق عليه ” التنبؤ الثوري”، وهو يحتاج إلى معرفة بالظروف والمحيط والقوى المتصارعة ومعسكر الحلفاء وقيادة لإدارة خطط العمل والتاكتيكات، ومن ثم كيفية التدرّج في طرح المطالب بعد تحديد الأهداف، والتقدّم بجسّ نبض العدو أو الخصم، وزج الجمهور لإقتحام معسكره وصولاً إلى تحقيق الهدف بالإصلاح أو التغيير حسب أهداف الانتفاضة ذاتها.
وهذا الأمر يعتمد على مدى تصدّع معسكر الخصم أو العدو، وانهيار بعض أركانه، أو انتقال بعضها إلى المعسكر الآخر أو تحييد بعض قطاعاته أو تمردّها أو حتى تركها مواقع العمل مع النظام. وإذا كان قرار البدء بالانتفاضة قد يؤدي إلى مغامرة أو انتحار، لاسيّما إنْ لم يكن مدروساً، فإن أخطر ما يحصل للانتفاضة بعد انطلاقتها هو التردد وعدم الحسم، ولا يعني ذلك سوى موتها وتعريض مصيرها للدمار. ذلك ما أقصده من الانتفاضة بمعناها الكلاسيكي، خصوصاً حين تكون منظمة ويقف خلفها أو يقودها حزب ثوري، لكن الانتفاضات العفوية الراهنة والتي هي دون قيادة محددة عليها أن تدرك الشروط والقوانين الموضوعية لحركية الانتفاضة وأن تطبقها على ظروفها الخاصة خشية تبددها وإجهاضها، خصوصاً إذا استمرت لفترة طويلة دون أن تحقق أهدافها أو أن تتقدم على هذا الطريق، إذا أن أي مراوحة سيعني تقهقرها التدريجي .
ويحدد لينين لنجاح الانتفاضة الاعتماد على الطبقة الطليعية أولاً، وعلى الإنعطاف الحاسم في تاريخ الثورة الصاعدة ثانياً، وعلى تصدع معسكر الأعداء ثالثاً، حيث يبلغ نشاط الصفوف المتقدمة من الشعب ذروته، وفي الوقت نفسه تبلغ التردّدات في صفوف الأعداء وفي صفوف الأصدقاء الضعفاء، الحائرين، غير الحازمين، أشدّها، وهو بذلك يحاول تمييزها عن الفكرة البلانكية التي تقوم على مؤامرة أو مجموعة في حزب، وهو ما كتبه عن فن الانتفاضة، وفي رسالة لينين إلى اللجنة المركزية لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي (البلشفي) التي كان قد كتبها في ليلة 13/14 أيلول (سبتمبر) 1917 ونشرت لأول مرة في العام 1921 في مجلة بروليتاريسكايا ريفولوتسيا (الثورة البروليتارية) العدد 2، 1921.
أما ماوتسي تونغ فيقول: إن الثورة ليست مأدبة ولا كتابة مقالات ولا رسم صورة ولا تطريز ثوب، فلا يمكن أن تكون بمثل تلك اللباقة والوداعة والرّقة، أو ذلك الهدوء والأدب والتسامح وضبط النفس. إن الثورة انتفاضة وعمل عنيف تلجأ إليه إحدى الطبقات للاطاحة بطبقات أخرى.
ويذهب أميليو لوسو للحديث عن الإنتفاضة باعتبارها فناً كالحرب وباقي الفنون تخضع لبعض القواعد التي يؤدي إهمالها إلى هلاك الحزب الذي يرتكب خطأ عدم التقيّد بها. ويضيف في شرحه أنها معادلات متشابهة (الانتفاضة والحرب) وحيث يتوقف القانون، فإن الغلبة للصراع السياسي.
والانتفاضة المنظّمة أو العفوية بعد تطوّرها ليست قراراً إرادوياً، أو خريطة جغرافية أو ديموغرافية كما يتصوّر البعض بحيث يتم تحديد أبعادها ومسافاتها وتضاريسها سلفاً، ووضع محطّات لاستمرارها وتحديد مسارها، بقدر ما تعكس الواقع وما يزخر به التغيير من مستجدات وتطوّرات وتفاصيل واحتمالات، يمكن التكيّف معها لوضع الخطط والبرامج المناسبة للمواجهة، وتجاوز المعوّقات التي تعترض طريقها، والتناقضات التي تستوجب إيجاد حلول مناسبة لها، للاستمرار بالانتفاضة وصولاً للتغيير المنشود. وفي ذلك مقاربة لمفهوم الانتفاضة بمعناها الكلاسيكي، خصوصاً وجود قيادات معلومة لها ومخطِطة لإندلاعها.
لعلّ بعضنا استعاد صورة الانتفاضة كما تم تحديدها في الأدب الماركسي، خصوصاً الصورة النمطية السائدة و”النموذجية” التي كانت دائمة الالتصاق بثورة اكتوبر الاشتراكية العام 1917 وقيادة لينين، وهي الصورة ذاتها التي استعدناها في انتفاضة أواخر العام 1987 وأوائل العام 1988 الفلسطينية، التي عُرفت باسم انتفاضة الحجارة، لدرجة أن بعضنا استعمل تلك التعاليم باعتبارها “مدوّنة” قانونية أقرب إلى مسطرة يقيس بها بالأفتار، مدى انطباقها أو عدم انطباقها على الانتفاضة الأكتوبرية الشهيرة، وذلك ضمن وصفة نظرية أقرب إلى الوصفات العلاجية.
ولعلّي أشرت في حينها إلى أن بمجرد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية هرع بعض الماركسيين العرب للتأكيد على الأخذ بالتعاليم اللينينية… محاولين اقتباس بعض العبارات والجمل بخصوص الانتفاضة المسلّحة وشروطها، وإذا كانت دراسة التعاليم اللينينة والعبقرية الفذّة للينين ضرورية ومهمة، ولكن ينبغي أخذ الظروف المختلفة كلياً بنظر الاعتبار، والاستفادة من التعاليم العامة لا للاستنساخ والتقليد ، لاسيّما وأن الانتفاضات الحالية سلمية ومدنية واقرب إلى العفوية، وتلك بعض حقائقها الجديدة.
وكنتُ قد واجهت ذلك عند إلقائي محاضرة في دمشق في العام 1988 ومحاضرة في براغ بدعوة من السفير الفلسطيني سميح عبد الفتاح، خلال زيارتي مطلع العام 1989، حول “مفهوم الانتفاضة”، وكانت المحاضرتان بعنوان “انتفاضة الحجارة بين السياسي والآيديولوجي”.
وقبل ذلك عند حديثنا عن الثورات التاريخية الكبرى، عدنا إلى الثورة الفرنسية البرجوازية، وإلى انتفاضة باريس العمّالية العام 1871 (الكومونة الحمراء الشهيرة) وتوقفنا كثيراً عند ثورة اكتوبر، ووصلنا إلى الثورة الإيرانية الدينية الإسلامية، العام 1979، تلك الثورات التي تركت تأثيراتها على النطاق العالمي واستمرت تفعل فعلها في العقول والنفوس.
ومثل هذا الأمر يجري استعادته أو القياس عليه اليوم بخصوص الانتفاضات التي اندلعت في العديد من البلدان العربية في ظروف مختلفة وتطورات هائلة، لاسيّما في عصر العولمة ، وأهم ما فيها أنها سلمية ولا عنفيّة، فضلاً عن شموليتها.
س 8- وماذا عن الخصوصية التونسية؟
ج 8- لقد تسنّى لي زيارة مكان “الحدث والحادث” الذي أشعل حركة الاحتجاج الشعبي في الوطن العربي، تلك التي بدأت بإضرام الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار في جسده، صباح يوم الجمعة 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010، فقد عزّت عليه نفسه إثر صفعة تلقّاها من الشرطية فادية حمدي، وسط حشد شعبي في مدينة سيدي بو زيد، لاعتراضه على منعها ومصادرتها مصدر الرزق الوحيد له ولتسعة أفواه من أسرته.
كان ردّ البوعزيزي على كرامته المجروحة إنهاء حياته احتجاجاً، لاسيّما وأن فرص حصوله على عيش كريم باءت بالفشل بسبب استشراء سوء الإدارة وفساد السلطة في جسد الدولة وجميع مرافقها، ناهيك عن شحّ الحريات المزمن. أحضر الشاب المتعلّم وبائع الخضار عدّته وتقدّم خطوات من مبنى المحافظة الذي لم يبعد سوى بضعة أمتار عن مكان وقوف عربات باعة الخضار، وبعد أن عبر الشارع ليكون أمام باب المبنى مباشرة، صبّ الزيت على نفسه وأشعل عود الثقاب، فتوهّج جسده، ولم يدر بخلده لحظتها، أن روحه الصاعدة إلى السماء، ستكون قرباناً للثورة، التي ستبدأ من تونس وتنتقل منها إلى العالم العربي بأسره.
كان الأمر خاطفاً ومُتقناً، ففارق الحياة وسط حيرة ودهشة المجتمع البوزيدي بشكل خاص والمجتمع التونسي بشكل عام، بما فيهم ردود فعل السلطة التونسية ومؤسسة الرئاسة التي تعاملت بإرتباك واضح مع الحدث، لاسيما بعد أن انتشر الخبر مثل النار في الهشيم وشاع بسرعة خاطفة مثل البرق وتناقلته وكالات الأنباء العالمية ومحطات التلفاز، وخصوصاً بعد أن بدأت الوسائل المحلية بنشره وإذاعته، مما دفع وسائل الاتصالات الحديثة بما فيها التويتر والفيسبوك واليوتيوب والانترنت من تفعيل الأمر والمساهمة في توسيع رقعة انتشاره. وحسب ماوتسي تونغ ” تكفي شرارة واحدة ليندلع اللهب ويشعل السهل كلّه” فهل هذا هو الحدث الذي كان وراء اندلاع حركة الاحتجاج التونسية ؟
كل شيء قبل انتحار البوعزيزي بدا هادئاً، بل واعتيادياً، لكن النار كانت تضطرم تحت الرماد كما يُقال، فما أن حرّكتها ريح شديدة، حتى اشتعلت، ملتهمة كل ما حولها من أوهام القوة وجبروت الاستبداد والرفاه الزائف. ومن يرقب مسيرة تونس في السنوات العشرين ونيّف الأخيرة، ولاسيّما منذ استلام زين العابدين بن علي الرئاسة سيلحظ النقيضين: هدوء ظاهري ومستوى معيشي لا بأس به وسلطة أقرب إلى الحداثة وحقوق للمرأة مكفولة دستورياً في أحسن مستوى قانوني في الوطن العربي، وهي إنجازات تُحسب بشكل أساسي للرئيس الحبيب بورقيبة الذي قاد تونس منذ الاستقلال حتى أواخر الثمانينيات رسمياً، ولكن من جهة أخرى كان البوليس السرّي بالمرصاد لكل من يتفوّه بكلمة ضد الرئيس وحاشيته أو يعارض النظام، كما كان القمع وشحّ الحريات والفساد المالي والإداري مستشرياً لدرجة مريعة، ناهيك عن تمركز السلطة والمؤسسات السياسية والأمنية جميعها بيد رئيس الدولة، الذي أصبح تدريجياً حاكماً متسلّطاً لا يتورّع عن القيام بأي شيء بما فيه ما يتعارض مع القيم الإنسانية المنصوص عليها في الشرائع والمواثيق الدولية، فضلاً عن مخالفته لدستور البلاد ذاته.
ولعل تلك السمات تكرّست تدريجياً في بنية الدولة التونسية، التي لم تعرف منذ الاستقلال التداول السلمي للسلطة أو إجراء انتخابات حرّة ونزيهة أو الاحتكام إلى قواعد الديمقراطية المعروفة، مثل سيادة القانون وفصل السلطات واستقلال القضاء والمساءلة والشفافية، ناهيكم عن الحريات ولاسيما حرية التعبير والحق في التنظيم والحق في المشاركة.
إن خصوصية الوضع التونسي تتطلب منّا الاعتراف بأن النهج التفرّدي للرئيس الحبيب بو رقيبة ونظامه من بعده، وضع تونس على طريق الدولة الحديثة، باتبّاع سياسة اجتماعية متوازنة وإحداث نوع من النمو الاقتصادي وتحديد ملكية الأراضي الزراعية للحد من نفوذ الإقطاع، كما ساهم في دعم القطاع العام، ولاسيما في الحقول الثقيلة مثل: الفوسفات والبتروكيمياويات، وساند الصناعة الوطنية، ولعل ذلك يعود إلى كره بورقيبة لدولة ” الأغنياء” حيث لا توجد في تونس تقاليد التفاوت الطبقي والاجتماعي الحاد مثل الهند ومصر والمغرب، حيث يولد الفقير فقيراً وينشأ فقيراً. وعلى خلاف سلفه قام الرئيس بن علي بتسمين فئات جديدة من محدثي النعمة الذين تحكّموا بالاقتصاد التونسي، وخصوصاً من أقارب زوجته ليلى، في قطاعات الاتصالات والسياحة والمقاولات، ناهيك عن العقود والصفقات الاستثمارية مع الخارج.
وإذا كان الفساد المالي والإداري وسوء استخدام السلطة سبباً في الثورة، فإن من المفيد ذكر مفارقة تتعلق بمستوى المعيشة الذي يعدّ لا بأس به في تونس قياساً بدول أخرى، ولعلّ هذا المستوى كان وراء اندلاع الثورة أيضاً، فعلى عكس الاعتقاد السائد بأن الجوع وحده هو سبب الثورة، فإن الثورة في تونس، لم تكن ثورة جياع، حيث يوجد نحو مليون وثلاثة أرباع المليون يستخدمون الانترنيت في بلد تعداد سكانه عشرة ملايين، ونحو 70 إلى 80 ألف تونسي يتخرجون من الجامعات سنوياً ، ولعل هذا الاستثمار البشري في قطاع التعليم والصحة والبيئة والزراعة والسياحة والرياضة، كان الأوفر حظاً .
وبخصوص الوضع المعاشي في تونس الذي جرت الإشارة إليه، فقد لاحظت وأنا في طريقي من العاصمة إلى سفاقس (تبعد نحو 300 كيلومتر) وصولاً إلى سيدي بوزيد، (التي تبعد عن سفاقس ما يزيد عن 100 كيلومتر) غابات شاسعة من أشجار الزيتون كنت أمرّ عليها، وبدت لي مثل “بحر بلا ضفاف”، وهذا ما يتعلق بالزراعة والأراضي الزراعية، أما المناطق الحضرية بما فيها الأحياء الشعبية فلا يمكن مقارنتها ببلدان غنية مثل ليبيا والجزائر والعراق مثلاً، التي تزيد وارداتها عشرات المرات على واردات تونس، لكن مستوى معيشة سكانها كان أخفض بكثير منها، فما بالك بدول فقيرة. وإذا كانت المقارنة مع البلدان النفطية أو دول اليُسر، لصالح تونس فبالتأكيد ستكون المقارنة مع بلدان العُسر بجانبها أيضاً، الأمر الذي بحاجة إلى التفكير في مآل الثورة والفئات التي قادتها والشباب الذين كانوا المحرّك الأساسي لها.
ويبدو أن ثورة تونس التي كانت بطاقتها الحمراء جاهزة لا تشبه غيرها من الثورات، فهي ثورة تنمية إذا جاز التعبير، وليس هناك مظاهر جوع أو فقر مدقع، ولم تشر التقارير الدولية إلى ذلك، فضلاً عن وجود متعلمين وخريجي جامعات، وإنْ كانوا يعانون من البطالة وشحّ فرص العمل في السنوات الأخيرة، الاّ أن في ذلك سبباً مختلفاً للتغيير، ولم يعد النظام الذي حقق نوعاً من النمو الاقتصادي ووفّر وفرض خدمات صحية وتعليمية وهياكل ارتكازية وبنية تحتية، على مقاس ما هو مطلوب، وقديماً قيل “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”، فالكرامة والحرية أساسان للتطور الإنساني، وقيمة عليا لبني البشر، لا يمكن دونهما السير في دروب التنمية وتأمين احترام حقوق الانسان.
كانت صورة تونس تبدو للناظر من بعيد: دولة مستقرّة وشعباً “مستكيناً” و”راضياً”، وإذا كان ثمة هوامش سياسية ومدنية وبعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وبعض مظاهر الاحتجاج والاعتراض المحدودة، لكن النار تحت الرماد كما يقال، حتى أن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك سليل أمّة لها الفضل في إصدار أول إعلان لحقوق الإنسان في العالم لم يتورّع من وصف تونس على قدر من مجافاة الحقيقة لنظام بوليسي بقوله: بأنها تؤمّن الحقوق الإنسانية الأساسية، المتعلقة بالغذاء والسكن والعمل، وذلك في ردّه على حقوقيين تونسيين.
وفعل الرئيس الفرنسي ساركوزي مثل الرئيس شيراك حين ظلّ متردداً في الموقف من انتفاضة الياسمين بسبب المصالح، حيث كان صوته باهتاً في مطالبة بن علي وقف المجازر وإنْ حاول الاستدارة سريعاً بعد الانتفاضة الليبية، التي ردّ عليها نظام القذافي بمطالبته لاسترداد المبالغ التي غطّت حملته الانتخابية العام 2007، كما بقيت واشنطن حائرة بين دعم نظام حسني مبارك المستقر وبين تأييد حركة الانتفاضة “الغامضة” و”المقلقة” لها بسبب من خشيتها، من الموقف من “إسرائيل” و”اتفاقيات كامب ديفيد”، وتضاربت تصريحات العديد ممن يطلقون على أنفسهم قادة العالم الحر بشأن التغييرات، مثلما فقد الكثير من القوى توازنه لانهيار أنظمة دكتاتورية دموية، بحجة الخوف من “التدخل الخارجي”، وهي وإنْ كانت خشية في مكانها باستعادة تجربة العراق ومأساته، لكن ذلك لا يعني السكوت عن عمليات القتل والإبادة، وتبرير الدفاع عن أنظمة متسلطة.
لقد كان شاغل الغرب مسألتين أساسيتين هما:
الأولى- هواجس سنوات ما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) التي شجعت على التغيير، ولم يعد بالامكان التراجع عنه أو اتخاذ موقف سلبي إزاءه، خصوصاً وقد بدأت بيئة دولية تتشكل داعمة للتغيير.
والثاني- مصالحه الاستراتيجية والحيوية في المنطقة التي يريد الحفاظ عليها وعدم الذهاب إلى “المجهول” بما فيها حماية ” إسرائيل” الأمر الذي دفعه إلى التردّد في البداية، سواءً بدعواته إلى ضبط النفس أو عدم الاستخدام المفرط للقوة، لكنه عاد ورحّب بالتغيير ولمّح إلى الالتزام بدعمه، بل وحاول مدّ الجسور معه بأشكال مختلفة معلنة ومستترة بغض النظر عن من سيتولى الأمر، لأنهم يراهنون على الحصان الرابح، سواءً حكم الأخوان أم غيرهم من الليبراليين، علماً بأن موقف الاتحاد الاوروبي ومؤسساته كان أكثر وضوحاً، خصوصاً مواقف البرلمان الأوروبي.
إن أية ثورة لا تشبه غيرها، ولا يشبه أي شعب آخر، وإنْ كان هناك مشتركات بين الشعوب والمجتمعات، إلاّ أن لكل خصوصيته، التي لا بدّ من أخذها بنظر الاعتبار عند الحديث عن التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
ولعل هذه المسألة تكاد تكون مطروحة وعلى نحو شديد في موجة الاحتجاجات الثانية، في العراق أم لبنان أم غيرها، فإذا كان ثمة تأثيرات وتفاعلات وانعكاسات بين التجارب المختلفة، الناجح والفاشل، إلاّ أن لكل تجربة نكهتها الخاصة ومذاقها المختلف، وذلك بحكم التطور التاريخي واصطفافات القوى والطبقات الاجتماعية والدينية والإثنية وتنوّع الفاعليات والأنشطة السياسية والفكرية، ناهيك عن تراكم العديد من المشكلات المختلفة.
ويمكن القول إن الجامع للحراكات الشعبية وأسبابها يتلخّص في اختلال وسوء علاقة الحاكم بالمحكوم، حيث تمّ تغييب أية فسحة للمحكومين لاختيار الحاكم واستبداله على نحو دوري حر ونزيه، الأمر الذي سبب ترهّل وهرم الأنظمة والتي فقدت حيويتها وفاعليتها السياسية والاجتماعية وتآكلت شرعيتها، مما راكم الشعور بالاستلاب والغبن وفقدان الحقوق، بل والتجاوز على أبسطها.
إن أي عملية تقليد أو استنساخ لنموذج ما دون الأخذ بالاعتبار خصوصية كل تجربة سيكون تشويهاً للأصل والفرع، كما لو تمّ زرع بذرة في بيئة غير ملائمة فسيؤدي ذلك لعدم نموها بشكل صحيح، وحتى لو نمت فسيكون لأجل قصير ومن بعد ذلك تذوي وتموت. ولعل ذلك ينذر بمستقبل محفوف بالمخاطر، مما يؤدي لضياع الزمن والجهد والموارد دون طائل أو جدوى تذكر.
حاولت الثورات الاشتراكية السير على هدي الثورة الروسية الأكتوبرية، وقامت بتقليد التجربة، لكنها بعد حين وصلت إلى طريق مسدود، لأنها استنسخت التجربة الأصل بكل التحدّيات والمشكلات التي تواجهها مما انعكس سلباً على التجارب الفرعية الأخرى، كما حاولت بلدان ما أطلق عليها محور “التحرر الوطني” إعادة استنساخ أو تقليد التجارب الاشتراكية، لكنها سرعان ما انهارت عندما انهار النموذج الأصل، الأمر الذي لا بدّ من أخذه بنظر الاعتبار، وقد حاولت بعض البلدان العربية تقليد نموذج الثورة المصرية الناصرية وتجربتها السياسية، لكنها في واقع الحال كانت عبارة عن تشويه لتجربة لها خصوصيتها ولها مشكلاتها وتحدياتها، وإذا كانت لم تفقس بيضة التجارب الأولى، فما بالك بالتجارب اللاحقة “الصغيرة” أو الأقل جاذبية وتأثيراً.
إن قراءة التجارب العالمية والعربية واستلهام دروسها وعِبَرها بانفتاح وشفافية أمر ضروري لتحصين التجارب الخاصة بعيداً عن الانغلاق والتقوقع من جهة، وفي الوقت نفسه دون تقليد أعمى أو استنساخ مشوّه، والأمر يتطلّب عقد جديد في كل مجتمع بين القوى والفاعليات المؤثرة، لتنظيم العلاقة أيضاً بين الحاكم بالمحكوم، ومن جهة أخرى يقتضي وضع قواعد قيمية قد يكون بعضها ما فوق دستوري، وقد يندرج بعضها الآخر ضمن بنود الدستور الذي يؤكد على احترام هذه القيم والقواعد دون لبس أو غموض، وهي قواعد لا يمكن استبدالها أو اللعب بها، باسم الأغلبية أو المظلومية أو قرارات البرلمان أو غير ذلك، لأن أي إخلال بها سيمسّ النظام الديمقراطي ومحتواه ويؤثر على سير عمله ومستقبله، ولهذا تضع بعض الدساتير مواد جامدة لا يمكن تغييرها أو استبدالها بسهولة إلاّ ضمن ضوابط معقدة وفترات زمنية قد تطول وتوافقات تكاد تقترب من الإجماع أحياناً، لكي لا تلجأ إحدى القوى إلى العبث بالدستور أو استخدامه لتحقيق أغراضها الآيديولوجية أو توجهها الفكري أو الديني أو الطائفي أو الفئوي، أو التغوّل على الآخرين.
وبقدر احترام الخصوصيات والتمسك بها، فالأمر يحتاج إلى الاطّلاع على التجارب ودراستها، بل علينا دراسة تجاربنا السابقة ذاتها الفاشل منها والناجح، وأعتقد أن الجيل الحالي من الشباب عليه معرفة تجارب التاريخ، لاستكمال تصوراته حول العقد الاجتماعي الجديد في كل مجتمع، ناهيك عن طبيعة التغيير والتحوّل الديمقراطي المنشود.
س 9 – أين موقع فلسطين من المتغيرات التي تحدثت عنها ارتباطاً بما يسمى ” صفقة القرن”؟
ج- 9 مقاربتان يمكن الولوج منهما لمناقشة القضية الفلسطينية “جوهر الصراع العربي الإسرائيلي “، الأولى تتعلق بالمعنى والدلالة والثانية تتعلق بالعلّة والمعلول، فقد واجه العالم العربي ثلاث صدمات أساسية خلال القرن الماضي وانعكست هذه على الوعي العربي الجمعي، إضافة إلى الوعي الفردي على كل إنسان من جهة أخرى.
أولها – صدمة الاستعمار من التي امتدّت منذ بدايات القرن العشرين وحتى الخمسينات، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر وما زالت تأثيراتها قائمة بأشكال مختلفة. وقد بدأت إثر انحلال الدولة العثمانية وتقسيم البلاد العربية باتفاقيات سايكس بيكو العام 1916 وبداية مسلسل التجزئة ارتباطاً بوعد بلفور العام 1917 ومروراً بوضع البلدان العربية تحت الانتداب البريطاني والفرنسي وصولاً إلى صفقة القرن .
وثانيها- صدمة هزيمة 5 يونيو (حزيران) العام 1967 التي ما يزال العالم العربي يعاني من تأثيراتها في ما يتعلّق بمواجهة المشروع الصهيوني، وقبل ذلك صدور قرار التقسيم رقم 181 من الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي تم بموجبه إقامة “إسرائيل” العام 1948، والتي شكّلت بؤرة مستديمة للعدوان والحرب المستمرة، كان من نتائجها مقايضة التنمية بالعسكرة والإصلاح والتطور الديمقراطي التدرّجي بالأنظمة الشمولية وبهيمنة ضباط الجيش على مقاليد السلطة وقطع خط التطور التدرجي الذي بدأ في عدد من البلاد العربية، لاسيّما في مصر والعراق وسوريا وغيرها.
وثالثها- صدمة محاولة التغيير، التي تأخّر وصولها مقارنة بعملية التحوّل الديمقراطي التي شهدتها بعض دول أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية والتي توّجت بهدم جدار برلين في العام 1989 وانهيار الأنظمة الشمولية، علماً بأنها ترافقت مع شعور أخذ يتولّد باحتمال استشراء الفوضى وتهديد الدولة الوطنية ونكوص القضية الفلسطينية، وهو ما شهده عدد من البلدان العربية، خصوصاً سوريا وليبيا واليمن ولبنان، وأن اعتقاداً أولياً ساد بأن موجة ما سمّي بالربيع العربي لم تضع في حسابها مركزية القضية الفلسطينية والصراع مع العدو الصهيوني ، إذْ لم يتم معارضة اتفاقيات كامب ديفيد والصلح المنفرد ، فهل مثل هذا الاعتقاد صحيح ؟
نجيب على ذلك بأن ثمة صحة في نصف الاستنتاج الأول، فإن النصف الثاني يجيب ويكمّل الاستنتاج الأول، فقد واجهت حركات الاحتجاج مسائل ملحة كيانياً تتعلق بالحرية والكرامة ومحاربة الفساد واحترام حقوق الإنسان، ولعله لا يمكن الحديث عن مجابهة مع العدو، دون توفر الحد الأدنى من الحريات التي غابت عن عالمنا العربي بفضل أنظمة الاستبداد والدكتاتورية، فالحرية هي المدخل لأي مجابهة وأي تغيير، وحتى حق الحياة لا يمكن الدفاع عنه دون توفّر الحد الأدنى من حرية التعبير، ناهيك عن حق الاعتقاد وحق التنظيم وحق المشاركة وهي أركان أساسية وهياكل ارتكازية للحريات والحقوق الأخرى.
إن رد الفعل الصهيوني إزاء التغييرات الحاصلة في البلدان العربية يفضح مدى تخوّف “إسرائيل” من موضوع الاستراتيجية العربية إزاء الاتفاقيات المبرمة معها أو إزاء أفق الصراع، وإذا كان هذا الموقف من تونس البعيدة عن دائرة الصراع، وهذا البلد الصغير بسكانه وإمكاناته، لاسيما العسكرية، فما بالك عندما حصل التغيير في مصر؟.
وقد فتحت عملية التغيير أفقاً جديداً في بداياتها تجلى في إعادة اللحمة الوطنية الفلسطينية، بالاتفاق بين حماس وفتح، وإن كان اتفاقاً قلقاً والذي رفضته إسرائيل رفضاً قاطعاً، بل أن الولايات المتحدة اشترطت لإعادة عملية بناء السلام،التخلي عن الاتفاق من جانب السلطة الوطنية الفلسطينية مع حماس.
كما كانت التحركات الشعبية العربية، أردنياً ولبنانياً وسورياً بمناسبة يوم النكبة وذكرى النكسة، ومحاولة الاقتراب من الحدود “الإسرائيلية” لإلفات نظر العالم حول حق العودة، ردّاً على ارتكابات “إسرائيل” واستمرار احتلالها للأراضي العربية، إلاّ مثالاً على تجاوز المطالب الشعبية، للاتفاقات الرسمية بين البلدان العربية و”إسرائيل” ورفض للتطبيع معها على جميع المستويات.
لقد استنفرت الحراكات الشعبية حالة الجمود التي وصلت إليها أوضاع الصراع العربي الاسرائيلي، خصوصاً بعد أن أصبحت جميع الطرق غير سالكة ولم تجد نفعاً اتفاقيات أوسلو لاحقاً أو واي ريفر أو أي خريطة طريق، فقد وصلت جميعها إلى طريق مسدود.
ويمكنني القول أن أي تغيير ديمقراطي أو تحوّل نحو الديمقراطية، سيؤدي بالضرورة لصالح قضية الشعب الفلسطيني وسيصبّ فيها وليس العكس، وهذا بحد ذاته يتطلب إعادة النظر في الاستراتيجيات الجيوبوليتيكية لعموم دول المنطقة، الأمر الذي سيعني إعادة صعود القضية المركزية إلى الواجهة، في تحدي صفقة القرن الأمريكية الصهيونية وجميع المتواطئين معها.