من يكتب التاريخ
كتب الصحفي الأمريكي المحنك وليم شراير(Weliam Shirer)، كتاباً سيبقى في المكتبة العالمية بجميع اللغات ما بقي التاريخ .. إنه كتاب ” تاريخ ألمانيا الهتلرية ” ترجمه إلى العربية بأربعة أجزاء شيخ المترجمين العرب خيري حماد. والعنوان الأصلي للكتاب باللغة الإنكليزية (The rise and fall of the third Reich). وأرجح أن هذا الكتاب قد ترجم إلى جميع اللغات الحية، وسيبقى مطلوباً ومقروءاً، والدليل على ذلك في ملاحظة الطلبات على الكتاب لدى الشركات العالمية لتسويق الكتب: أمازون، وإي باي، وغوغل.
وكنت قد قرأت هذا الكتاب الرائع في الستينات، وروعة الكتاب تعود إلى الموضوعية التامة في تسجيله للمعطيات التاريخية في نشوء الهتلرية وأنهيارها، والكاتب وإن كان معاديا للهتلرية، وعاش في ألمانيا تلك الحقبة وهو مطلع على دقائقها بصورة تفصيلية وموثوقة، إلا أنه أعتمد بعد سقوط ألمانيا على أطنان من الوثائق، والمواد، وفوق هذا كان نزيهاً في تقيمه، وفي الاختبارات الأمريكية التي أجريت لقادة النظام النازي في الاعتقال بعد أسرهم وفق نظرية العالم البريطاني تشارلز سبيرمان (Charles Spearman) وتمنح فيها درجات الذكاء (من 150 درجة) وفق معطيات دقيقة إلى حد كبير، منحت للزعيم الألماني 150 من 150، ومنحت الكثيرين من قادة النظام درجات عالية بالذكاء.
وعندما تقرأ كتاب شراير، قد تعود لقراءته مرة أخرى، أو لمراجعة بعض فصوله، والكتاب من بدايته وحتى نهايته يوحي بالثقة والصدق، ولا يتعامل وفق أحكام الهوى، ولهذا وصف الكتاب من بين ملايين الكتب، بأنه من أفضل كتب القرن العشرين ..!
وبالمقابل حين قرأت كتابا للكاتب المصري محمد حسنين هيكل، (خريف الغضب) ودهشت لقدرة ومقدرة الكاتب المعروف على تأليف كتاب سميك (472 صفحة) يتفنن فيها بتوجيه الهجاء والنقد المر اللاذع حقاً وباطلاً وصولاً إلى الشتائم بعضها بذئ ورخيص بحق الرئيس أنو السادات، الكتاب بأسره من الصفحة الأولى إلى آخر صفحة، عبارة عن اطروحة شتائم (آسف لاستخدام تعبير أطروحة)، وفي اعتقادي أن على المرء أن يحافظ على دقة ألفاظه، فلا يشتم من يكره، ولا يمتدح ويقرظ ويفرط في إطراء من يحب، إن شاء أن يكتب وأن تكون كتابته نزيهة محترمة تستحق القراءة .. أو الورق المطبوع عليه …!
بالأمس كنت أشاهد مقابلة من عدة حلقات لأحدى القنوات الفضائية مع الضابط في المخابرات الأمريكية جون نيكسون (John Nixon) وهي متوفرة على اليوتيب، والذي وضع كتابا باللغة الإنكليزية بعنوان (Debriefing the President…. The Interrogation of Saddam Hussein)، استجواب الرئيس : التحقيق مع صدام حسين.
كتاب ومقابلة الضابط الأمريكي جون نيكسون ذكرتني بشدة بكتاب وليم شراير . والضابط الأمريكي هو في الأخير مع رأي حكومة بلاده، في الحرب العدوانية وإزاحة نظام وإحلال نظام من أصدقاءهم، اتوا بهم من بلدان الغرب، أميركا وبريطانيا أساساً، ولكن الرجل كان موضوعياً، ويصرح بوضوح ويكرر تصريحه، أن كان إعجابه بالرئيس صدام حسين يتزايد يوماً بعد يوم. بل لم يتورع عن القول أن من جئنا بهم (من جاء بهم الأمريكان) هم مجرد حثالات لا يستحقون أن يكونوا ممسحة لحذاء صدام ..! وعلى شاشة التلفاز قال هذه الجملة وهو منفعل، متأسف تملؤه مشاعر مختلفة.
ومن بين ما قال أن الرجل لم يستخدم (برأيه) أفضل أساليب الحكم، ولكنه كان قد تمكن من إرساء أسس دولة محكمة ناجحة. وتحدث عن ملاحظاته (وهو ضابط مخابرات محترف خبير بالرجال) لم يكن قصده أمتداح رجل حاربت حكومته بلاده العراق، والرجل قاومهم حتى اللحظة الأخيرة بما استطاع وما تيسر له، وواجه الموت بشجاعة سلم بها خصومه، وفي المحصلة فإن تعرفه على الرئيس وتجربته معه في المحادثة والمجالسة يعتبرها هو من أهم أحداث حياته، وبوسع القراء أن يشاهدوا الحلقات الأربعة على اليوتييب على الرابط.
(https://www.youtube.com/watch?v=l4wEq7FV9us)
وهنا لابد من الإشارة إلى رجل له الفضل بحفظ تاريخ العراق المعاصر بدقة لا تشوبها شائبة، والرجل ليس بمؤرخ، مع أنه سجل تاريخ العراق وهو بنفسه لا يزعم أنه بمؤرخ، بل مدون نزيه صادق وأمين، قام بعمل جليل ستذكره الأجيال العراقية كأسم خالد في عالم التسجيل التاريخي الكرونولوجي (Chronologie) وهو عمل غير ما يقوم به المؤرخون، إلا أن عمله لا يقل أهمية عنهم، بل بتقديري يفوق الكثير منهم أهمية، وخاصة إذا كان بمستوى أعمال عبد الرزاق الحسني.
وقد قرأت كل أعمال السيد الحسني (تقريباً) وهي تربو على الخمسين عملاً، ولم أستطيع وأنا الدارس والباحث أن أجد ولو ثغرة بسيطة بحجم رأس دبوس، أو شبهة فيما أورد من معلومات، لفرط حرصه ونزاهته، واعتماده أولا وأخيرا على الوثائق، وبوسعي أن أؤكد أن أعمال الحسني هي من الأعمال المشهودة في عالم التوثيق، وقد سرت إدارة مكتبة جامعة لايبزغ (Leipzig) بألمانيا، حين أهديتهم بعد تخرجي أعمال السيد الحسني وأهمها ” تاريخ الوزارات العراقية ” وأعتقد أن هذا العمل تحرص مكتبات الجامعات في العالم على اقتناؤه، لكونه بالغ الدقة والحرص الشديد في تسجيل الأحداث.
أردت بهذه المقالة القصيرة أن أذكر للقراء أولاً الفرق بين المؤرخ والمدون، وبين المؤرخ النزيه، والمؤرخ أو المدون، الذي له غاية معينة، يريد منها إعلاء أو الحط من قيمة شخص، أو قضية ما.