ي حديقة أرسطو سيمون كريتشلي ترجمة: نواف شاذل طاقة اثينا – كانت ساقا ارسطو نحيفتين، وعيناه صغيرتين، وقد عُرف عنه، وفقاً للمؤرخ اليوناني بلوتارخ، تلعثمه في الكلام، الأمر الذي دفع البعض الى تقليد طريقة تحدثه. وكان ارسطو يضع العديد من الخواتم في أصابعه، ويرتدي على الدوام زياً مميزا، بل غريباً– بالغ فيه بالتزين بالحلي والمجوهرات الثمينة. حاولت أن أجمع الأجزاء المتناثرة كي أكوّن صورة عن ارسطو لدى وصولي إلى الليسيوم Lyceum[1]هي المدرسة التي اسسها ارسطو رداً على تأسيس اكاديمية افلاطون، بعد أن زرت الأخيرة في الاسبوع الفائت. يقال أيضاً إن أرسطو كان شخصاً صعب المراس – وكان متعجرفاً على نحو ما، معتقداً بأنه أكثر ذكاءً من الجميع (ربما كان محقاً باعتقاده)، حتى وصل به الأمر إلى توجيه الانتقادات إلى أستاذه افلاطون لسنوات طويلة. وربما انطوت شخصيته على طبائع أخرى كالمشاكسة، وكثرة التذمر، والعدائية، والبخل. لم يحظّ ارسطو بحب غامر من جانب أهالي اثينا، وقد يرجع ذلك إلى كونه زبوناً مخادعاً أو ربما لأنه كان مقيماً أجنبياً metic[2] أو من حملة “بطاقة الإقامة الخضراء”[3] أي أنه يوناني وليس أثينياً. وفي ضوء علاقته الوثيقة بالأرستقراطية المقدونية، التي كانت تعمل على توسيع نفوذها وتحكم قبضتها العسكرية والسياسية على اليونان، فقد يكون الاثينيون محقين في الشكوك التي راودتهم بشأن ارسطو. نعلم اليوم أن ارسطو، وبعد أن عمل محاضراً في الاكاديمية، ووصفه افلاطون بـ”العقل”، لم يقع عليه الاختيار كخلف لافلاطون، فقد اختير سبيسيبوس، أبن أخ افلاطون، ليصبح رئيسا للأكاديمية. هكذا، غادر ارسطو اثينا بعد فترة قصيرة من وفاة افلاطون وبقي بعيدا عنها لنحو أثني عشر عاماً. اشتهر في ذلك الزمان أن فيليب الثاني، ملك مقدونيا، طلب من ارسطو أن يصبح معلماً لابنه الكسندر البالغ من العمر 13 عاماً. لهذا الغرض، شيد ارسطو مدرسةً في قلعة مييزا في مقدونيا، ليبدأ هناك بتدريس الأمير الصغير مع رفاقه الذين ربما بلغ عددهم نحو 30 تلميذاً. لقد كان ذلك صفاً دراسياً كبيراً، ومدرسة مغلقةً، أشبه بنوع من انواع المدارس الداخلية. ومن الممكن الوقوف على مدى أهمية المهام التي اضطلع بها ارسطو من حقيقة الدراستين اللتين انجزهما إكراماً للأمير الكسندر، وهما “حول الملوكية” و “حول المستعمرات”، بوصفهما دليلين للأمير، بالإضافة إلى تحريره نسخة من “الالياذة” لهوميروس التي اطلق عليها ما يسمى بـ “نسخة النعش” (على افتراض أنها كانت قد حفظت داخل نعش). إن المعلومات التي بين أيدينا حول فترة بقاء ارسطو في مقدونيا شحيحة جداً، لكن يعتقد بأنه امضى هناك فترة طويلة، قد تصل إلى سبع سنوات، واصبحت له علاقات صداقة وثيقة جداً بأشخاص مؤثرين في بلاط الملك فيليب. في العام 336 ق.م، اغتيل فيليب (داخل مسرح، من بين جميع الأماكن)، وتم الاعلان عن تنصيب الكسندر الأكبر ملكاً للبلاد، وكان قد بلغ من العمر 20 عاماً. وادراكا منها لانعدام الاستقرار الذي رافق عملية الانتقال السياسي، ثارت مدينة طيبة القوية ضد الملك المقدوني الجديد. بالمقابل، أراد الملك الكسندر الأكبر أن يجعل من طيبة درساً للآخرين، فحاصر المدينة ومحاها من الخارطة. اما سكانها فقد قتلوا أو بيعوا كعبيد ارتكاب خطأ بيد أن اثينا لم ترتكب الخطأ نفسه الذي ارتكبه أهالي طيبة، فقد رضخت بكل خنوع للإرادة المقدونية. في أجواء مثل هذه، عاد أرسطو إلى المدينة وكان قد بلغ من العمر حينها نحو 50 عاما، حيث شهدت عودته أحداثا هامة. وبسبب صفة الاقامة التي حملها، لم يسمح له بأن يبتاع قطعة أرض في اثينا؛ لذلك – كما يفترض أن يفعل المرء- فقد استأجر أرضاً. استحوذ ارسطو على موقع ملعب رياضي مقدس للإله ابولو ليسيوس (الإله – الذئب) فحوله الى أعظم مدرسة في العالم توافرت فيها الخدمات. أمران يفاجئانك عند زيارة موقع ليسيوم (المدرسة) بعد مشاهدة خارطة المدرسة المعمارية؛ أولاً، انها نسخة طبق الأصل من أكاديمية أفلاطون. ثانياً، انها اكبر منها، أكبر بكثير. وتبدو العلاقة بين الأكاديمية والمدرسة قريبة بعض الشيء من جامعة كامبريدج في القرون الوسطى والبناء المعماري الهائل لجامعة شيكاغو الامريكية. يعد المال، بكل بساطة، السبب الذي مكّن أرسطو من بناء هذه المدرسة بسيط. اذا كان أفلاطون غنياً، فقد كان أرسطو اكثر ثراءً، كثراء الملك كرويسوس [4]حيث تصل مرتبة ثرائه بمعايير اليوم إلى ما يعادل ثراء جيف بيزوس.[5] لقد حصل أرسطو على 800 تالانت [6]من طالبه السابق المفترض، الملك ألكسندر، والذي كان يعتبر مبلغاً هائلاً (مع الأخذ بالاعتبار ان كلفة المدرسة تراوحت بين 25-30 تالانت). وتعد مسألة توضيح قيمة العملات القديمة ومقارنتها بالعملات الحديثة معضلة كبيرة للمؤرخين والاقتصاديين على حد سواء، لذلك فقد دعوت زميلي، رجل الاقتصاد دونكان فولي، لمد يد العون. أجرى فولي حسابا تقريبيا وجد فيه أن ناتج الدخل المحلي الاجمالي السنوي للاقتصاد الأثيني التقليدي بلغ نحو 4400 تالانت. وإذا كان هذا العدد صحيحاً، يكون عندها رقم 800 تالانت رقماً كبيراً جداً، أي ما يعادل 32 ضعفاً لما صرف على المدرسة. لكن فولي أبدى تشككا حيال الرقم المذكور. أما المصادر التاريخية القديمة المتصلة بالمعلومات ذات الصلة بالاعداد (مثل حجم الجيوش) فهي غير دقيقة بشكل فاضح، وربما عمد المستنسخون المتحمسون بإضافة صفر إلى الأعداد، بكل بساطة. مهما كانت حقيقة الأمر، فان الهبة التي حصل عليها ارسطو سمحت له ببناء مؤسسة بحوث وتدريس واسعة، أسس فيها أهم وافخم مكتبة في العالم. يذكر أنه على أيام العالم اليوناني ثاوفرسطس، الذي اصبح مديرا للمدرسة بعد ارسطو، ويبدو أنه كان رئيساً مقتدراً للمدرسة، ضمت المدرسة نحو ألفي طالب، بعضهم كان مقيماً في القسم الداخلي التابع لها. ويتضح مما تقدم أن المدرسة كانت المكان الأفضل الذي تتطلع إليه أنظار النخبة الراغبة بالتعلم. إن هذا الأمر يدعو المرء إلى التفكير ملياً بشأن التقارب المحرج بين الفلسفة والنفوذ السياسي. في الواقع، لم يكن ليعرف إذا ما كانت المدرسة تتقاضى أجوراً عن التدريس، في ضوء ثروتها الهائلة، فلربما لم تكن بحاجة إلى المال. وتبدو المدرسة شبيهة بعض الشيء بجامعة هارفرد الأمريكية، أليس كذلك؟ لقد عكست المدرسة بكل وضوح استعراضا ثقافياً للهيمنة السياسية والعسكرية لمقدونيا. لكن، في العام 323 ق.م، عندما وصلت أثينا أخبار مقتل الكسندر الأكبر في بابل وهو في الثانية والثلاثين من عمره، جاشت المشاعر المعادية للمقدونيين في أركان البلاد، الأمر الذي تطلب استدعاء القائد الأثيني المحبوب ديموستيني. حينها، غادر ارسطو المدينة لآخر مرة، خوفاً على حياته، بعد أن أمضى أكثر من عشر سنوات مسؤولاً عن المدرسة. وقد نظر إلى نفسه، بحق أو من دون حق، في مرآة سقراط وخشيةً من أن يتهم بالعقوق، يقال إنه ذكر: “لن اسمح للاثينيين أن يرتكبوا خطيئة ضد الفلسفة مرتين”. عاد ارسطو إلى مقاطعة والدته القديمة في خالكيس في جزيرة وابية اليونانية ومات هناك بعد فترة قصيرة بسبب مرض لم يتم تحديده، عن عمر بلغ 63 عاماً. لكننا عندما ننظر اليوم الى موقع المدرسة (ليسيوم)، الذي يعد حالياً موقعاً حديثاً نسبياً وفق معايير اثينا (لم تبدأ اعمال التنقيب في الموقع إلاّ في العام 1996 وفتحت ابوابها للزوار في العام 2014 ) فإننا نبدأ تواً بتكوين صورة واضحة لخارطة البناء، ومعماريتها، والوظيفة التي اضطلعت بها. جدير بالذكر ان كتاباً يفصل معرفتنا بمدرسة أرسطو، يعكف الان على إعداده للنشر كل من عالم الآثار إيفي ليغوري – توليا، ورفيقنا الدائم كونيستانتينوس ستايكوس. لفتة نظر بيد أن أمراً آخر لفت نظري ودغدغ مخيلتي: انه الحديقة. ففي الزاوية الشمالية الشرقية من المدرسة، كانت ثمة حديقة، والتي ربما أدت الى الممر المسقف الذي دأب أرسطو على الرواح والمجيء فيه وهو يلقي محاضراته على طلبته، والذي اشتق منه اسم المدرسة. في الواقع، كانت ثمة حدائق في جميع المدارس الفلسفية، من مدارس ميليتوس، التي تقع حالياً على الساحل (تدعى الآن بالاتا)، وداخل ما يُزعم بمدارس فيثاغورس التي تقع اليوم في جنوب إيطاليا، الى مدرسة أفلاطون التي احتوت على حديقة. وفي فترة لاحقة حملت مدرسة الفيلسوف أبيقور بكل بساطة اسم “الحديقة”. اما الفيلسوف ثاوفرسطس، وهو عالم نباتات متحمس، مثل ارسطو، فعل الكثير لتنظيم المكتبة وبناء صرحها العلمي (جهزها بالخرائط، ونماذج من الكرة الأرضية، والعينات، وما الى ذلك من أمور)، فقد تقاعد وعكف على العناية بحديقته التي كانت قريبة من المدرسة. لكن، ما هو الغرض الذي انشئت من أجله الحديقة؟ هل كانت مجرد مكان للهو، والتنزه، وتجاذب أطراف الحديث الهادئ في مسائل الديالكتيك؟ أم كانت مختبراً صغيراً لمراقبة النباتات وإجراء التجارب عليها؟ أو ربما كانت – وهذا الاحتمال الذي أجده الأكثر إثارة – صورة تخيلية للجنة؟ يبدو أن أصل المفردة الاغريقية القديمة paradisos التي تعني الجنة قد استعيرت اشتقاقاً من اللغة الفارسية، وأن دارا الكبير[7] كانت له حديقة تدعى “حديقة الجنة” تضم تلك الأنواع من النباتات والحيوانات التي نعرفها من الرسوم المتقنة المنقوشة على السجادات والبسط الفارسية. إن السجادة الفارسية تشبه مسرح ذاكرة الجنة. ومن المحتمل أن العمال والمفكرين الميليسيين كانوا على صلة بالبلاط في شوشان وبريسبولس. [8]وقد يكون الافتتان الفلسفي الإغريقي القديم بالحدائق برمته استعارة فارسية وصدى لنفوذ إمبراطوريتهم المتمدد. لكن، من يدري؟شخصياً، أُعد بالكاد بستانياً. والحقيقة، لقد كنت دائما، وبشكل لافت للنظر، عديم الاكتراث بالمتعة التي يجدها المهتمون بالنباتات في الاعتناء بحدائق بيوتهم. وقد بدا لي أيضا قول الكاتب الفرنسي فولتير في كتابه الموسوم “الساذج” إن “من الضروري الاعتناء بحدائقنا”، مثيراً للسخرية، والاستخفاف، والانهزامية. لكنني الآن لم اعد واثقاً من تلك المشاعر، فلربما ثمة علاقة بين الحديقة والفكر الفلسفي اكثر قرباً مما كنّا نعتقد في السابق. ففي نهاية كتابه الموسوم “الأخلاق النيقوماخية” [9] يرى ارسطو في الفلسفة أملاً واعداً في تهذيب الحياة التأملية، bios theoretikos التي قد توازي حياة الآلهة. فأي مكان لهذا أفضل من الحديقة؟ هل ثمة احتمال بألاّ يكون علم النبات بمثابة الطريق الملكي المؤدي الى الجنة، وهو نشاط كان ذات مرة تجريبياً وذا معنى شعريا عميقا؟ زرت الليسيوم مع زوجتي التي تمتلك نظرة اكثر حدةً مني. وقد استطعنا هناك التعرف على نبتات الزعتر، وعشبة الخزامى، والكثير من الزهور البرية، وأعشاب إكليل الجبل العملاقة، وأشجار الزيتون، وشجر السرو، وربما بعض التوابل. وكانت أمامنا سجادة من العشب الاخضر بظلال متعددة قد أطرتها مواطئ المشي الرملية الصفراء لذلك الموقع الأثري. وفجأة، بدا لي الموقع برمته كحديقة، وكان بوسع المرء أن يشعر أنه بجوار قمة تل ليكابيتوس، وأن يتلمس عن بعد الجبال التي تحيط بمدينة اثينا وبسمائها الزرقاء. في موقع المدرسة الأثري، ثمة حواجز من الحبال وضعت بارتفاع منخفض جداً كي تحول دون وصول الزوار الى بعض الأماكن. تطلعت حولي بحثاً عن الحرس غير انني لم اجد احداً منهم، فمشيت على العشب الأخضر بكل هدوء متوجهاً الى موقع مكتبة ارسطو. زاحفاً على يدي وركبتي، وجدت الارض مليئة بحلزونات صغيرة تناثرت في ارجاء المكان لم يتجاوز حجم الواحدة منها اظفر اليد. أعطتني زوجتي واحدة منها وهي الان امامي على مكتبي وانا اكتب هذه المقالة. لكن الحلزون تحطم وصار أجزاءً صغيرة عندما وضعت فوقه، من دون قصد، مجموعة من الكتب حول المكتبات. قد يكون في ذلك عبرة ما، لكني لم ادركها حتى الآن. الهامش سيمون كريتشلي، استاذ الفلسفة المدرسة الحديثة للدارسات الاجتماعية في بريطاني [1] كلمة أغريقية ترمز إلى الحديقة في مدينة أثينا التي كان الفيلسوف أرسطو يدرس فيها تلامذته الفلسفة. metic[2] مواطن أجنبي مقيم في احدى مدن اليونان الاغريقية القديمة ويحظى ببعض حقوق المواطنة [3] اسوة ببطاقات الإقامة التي يحملها المقيمون اليوم في الولايات المتحدة [4] ملك ليديا، حكم بين عامي 560 – 546 ق م، وترجع أصوله إلى احد الاقوام التي استوطنت منطقة كردستان [5] جيف بيزوس، مؤسس موقع أمازون الشهير في الولايات المتحدة الأمريكية. أو تالانت: وحدة قياس اغريقية قديمة تعادل 25 كيلوغراماً وكذلك وحدة لقيمة تعادلها من الفضة النقية Talent [6] [7] وهو الملك الاخميني ويعرف أيضا باسم درايوس [8] عاصمة الدولة الأخمينية في بلاد فارس [9] كتاب في الأخلاق ألفه أرسطو وأهداه إلى ابنه نيقوماخس. |