عند تمثال القيصر الكساندر الاول في موسكو
عند تمثال القيصر الكساندر الاول في موسكو
أ.د. ضياء نافع
اقامة تمثال لقيصر روسيا الكساندر الاول في روسيا الاتحادية بموسكو , وعند جدار الكرملين بالذات , وفي العام 2014 , ويدشن التمثال رئيس روسيا الاتحادية فلاديمر بوتين بنفسه, ويشيد بدور هذا القيصر المتميّز في تاريخ روسيا . كل ذلك يثير الدهشة طبعا , ويطرح عشرات الاسئلة الكبيرة امام الروس وامام الاجانب ايضا , الذين يتابعون أخبار روسيا ومسيرتها ويعرفون اهميتها في عالمنا العاصف . وتذكرت نقاشا قديما استمعت اليه مرة – وبمحض الصدفة – بين اثنين من اصدقائي الروس , اذ سأل الاول عن سبب تعليق صورة كبيرة لستالين في احدى الشوارع وعلى واجهة مؤسسة تربوية , فاجابه الثاني رأسا , لأن ستالين كان قائد الانتصار على هتلر , فسأل الاول , ومن كان قائد الانتصار على نابليون , فاجاب الثاني , انه كوتوزوف , فضحك الاول وقال , وعلى هذا الاساس , يجب تعليق صورة جوكوف بدلا من ستالين . ضحك الثاني ايضا , وقال معلقا , وهل تريد ان نرفع صورة القيصر ألكساندر الاول في الاتحاد السوفيتي , أول دولة اشتراكية في العالم , والتي تأسست بعد ثورة ضد القياصرة في اكتوبر 1917 ؟ فقال الاول ضاحكا ايضا , اما نعلق صورة القائد العام للانتصار على هتلر وعلى نابليون ( اي ستالين والقيصر ألكساندر الاول ) , او نعلّق صورة القائد العسكري للانتصار على هتلر وعلى نابليون ( اي جوكوف وكوتوزوف ) . كان هذا النقاش ضاحكا بين اثنين من الاصدقاء , الا انه – في الواقع – كان نقاشا يتّسم بالعمق الفكري والتاريخي , وقد علّق صديق ثالث كان يستمع اليهما قائلا , ان الذي انتصر على نابليون وهتلر هو الشعب الروسي , وليس ألكساندر الاول او ستالين او كوتوزوف او جوكوف , الشعب الروسي , الذي لا يمكن ان يتقبّل ابدا الاحتلال الاجنبي لوطنه باي حال من الاحوال , ومن أي جهة كانت , ولأيّ سبب من الاسباب .
تذكرت ذلك النقاش العتيق , عندما أقترح عليّ زملاء الدراسة في كليّة الفيلولوجيا ( اللغات وآدابها ) بجامعة موسكو ان نتمشى في متنزه الكساندروفسكي الرائع الجمال بمحاذاة جدار الكريملين , كما كنّا نفعل عندما كنّا طلبة في الكليّة في ستينيات القرن الماضي( كانت كليّتنا في بنايتها القديمة بمركز موسكو ) , فوافقت انا طبعا وبكل سرور , فقالوا لي , ستشاهد اشياء جديدة لم تكن موجودة آنذاك , ومنها التمثال الضخم للقيصر ألكساندر الاول , الذي تمّ نصبه في الذكرى المئوية الثانية للانتصار على نابليون , فضحكت وحكيت لهم قصة ذلك النقاش , فضحكوا هم ايضا , وقال أحدهم , لقد تغيّر الزمان , وتغيّرت الافكار طبعا تبعا لذلك , وان موسكو اليوم ليست مثل موسكو الامس , اذ انها الآن تضم تماثيل كل المراحل التي مرّت بروسيا , ولهذا فانك ترى فيها الان تماثيل لينين ورفاقه و تماثيل العديد من القياصرة معا , فكل واحد منهم يجسّد مرحلة معيّنة من مراحل تاريخ روسيا , وان هذه هي دلائل نضوج الامّة , ايّ أمّة , اذ ان كل واحد من هؤلاء ساهم في بناء وطنه كما كان يرى ويعتقد , وان الوطن هو الحصيلة النهائية لكل مساهمات رجاله وأعمالهم بغض النظر عن عصرهم وعن مواقفهم السياسية المختلفة وحتى المتناقضة مع بعضهم البعض.
وهكذا بدأت نزهتي وسط الاشجار والورود المنسّقة بذوق وعناية فائقة , ولاح من بعيد تمثال القيصر الروسي ألكساندر الاول مرتديا زيّه العسكري , وهو يقف شامخا ويضع قدمه اليمنى على السلاح الفرنسي , رمزا لانتصاره عليهم وتحرير وطنه من احتلال نابليون آنذاك . القيصر هذا كان جميلا ورشيقا جدا , وقد استطاع النحّات الروسي ان يعكس كل تلك الخصائص , وان يعبّر – وبشكل رائع – معنى الانتصار على ملامحه وضمن كل تلك اللوحات النحتية المحيطة به من كل الجوانب , والتي تجسّد مختلف المعارك والمواقف المرتبطة بهذا القيصر , وكان جدار الكرملين الاحمر اللون هو الخلفية الجميلة لهذا التمثال , الخلفية التي تضفي عليه جمالية اخرى , ومن الواضح ان النحّات أخذ كل هذه الاجواء والجوانب بنظر الاعتبار , واستطاع ان يوظّفها بابداع في عمله الفني الرائع هذا . التمثال يقف على منصة عالية ويشغل مساحة ملائمة له , وكانت هناك عدة أشجار تحيطه بحساب هارموني محسوب بدقة , وكانت هناك عدة مصاطب هنا وهناك حوله , تسمح للجالسين عليها أن يتأمّلوا هذا الانجاز الفني المتناسق الجميل بهدوء . وقفت بعض الوقت أتأمل التمثال , ووقف زملائي معي تضامنا ليس الا طبعا وهم يتأملون القيصر الروسي ايضا . وعندما عدنا , سألني أحدهم عن انطباعاتي , فقلت له , انه عمل فني مدهش الجمال , ولكني اريد ان اكرر ما سمعته من زميلي الروسي قبل قليل , والذي أشار, الى ان الامّة الروسية قد وصلت فعلا الى مرحلة النضوج …