المرأة في عيدها الأممي في الثامن من أذار
[قرة العين: النموذج الرائع لنضال المرأة لانتزاع حقوقها المشروعة]
خلال الأشهر الخمسة المنصرمة برهنت المرأة العراقية، صبايا وشابات وكبار السن، عن قفزة نوعية لا مثيل لها في ظل الظروف المعقدة والصعبة والقاسية التي يمر بها الشعب العراقي، قفزة نوعية في الوعي الفردي والجمعي، وفي الممارسة النضالية لانتزاع حقوقها المغتصبة وحريتها المصادرة ووطنها المسلوب، إذ تقف بإصرار وحزم في صف واحد مع أخيها الرجل المناضل مثلها من أجل حقوقه المغتصبة وحريته المصادرة ووطنه المستلب، فهما معاً يشكلان نضال هذا الشعب المغدور من نظام سياسي طائفي وفاسد ومقيت. لقد سقطن شهيدات في مجرى النضال اليومي، اختطفن وعذبن بشراسة رهيبة تذكرنا بأساليب البعث الدموية وأساليب القوى الطائفية المتطرفة في إيران في سجن أيفين، التي تحدث عنها المناضل الشيوعي حيدر الشيخ علي والتي كتب عنها الروائي عبد الرحمن منيف في الرواية الموسومة “الآن.. هنا، أو شرق المتوسط مرة أخرى”. ومن أجل تمجيد نضال المرأة عموماً والمرأة العراقية وكذلك المرأة الإيرانية، وكلتاهما تعانيان الأمرين من نظامين مستبدين وفاسدين ومناهضين للنساء ولحقوقهن المشروعة والعادلة أعيد نشر هذا المقال عن واحدة من المناضلات الباسلات في منتصف القرن التاسع عشر، عن قرة العين.
حين نقلب صفحات النضال المرير الذي كانت ولا تزال تخوضه المرأة في سبيل حقوقها العادلة والمشروعة والمغيبة في المجتمعات الذكورية منذ أن فقدت المرأة دورها الأول في العائلة والعشيرة والمجتمع ، أي منذ أن أصبح الرجل سيد الموقف وغيَّر حتى بنية ومنطق واستخدام اللغة لتكون ذكورية صارخة نلمسها في كل اللغات تقريباً ، سنلتقي بنسوة كثيرات جداً ناضلن بعناد وصلابة في سبيل حقوقهن المشروعة والمغتصبة ، وبتعبير أدق ، حقوق المرأة وحريتها وكرامتها واستقلالها الاقتصادي ودورها في العائلة والمجتمع والدولة لا في بلدانهن حسب ، بل كان لهذا النضال أينما حصل صداه الإيجابي وتأثيره المتباين في كل مكان. إذ رغم أن نضال المرأة في كل بلد أو إقليم أو منطقة قد اتخذ طابعاً محلياً ، إلا أنه شكل حلقات في سلسلة طويلة ومتشابكة من العمليات النضالية الصغيرة والكبيرة لصالح المرأة على مختلف الصعد والمجالات. فما من نجاح تحقق في إقليم ما إلا ووجدنا تأثيره بهذا القدر أو ذاك على نضال وحقوق المرأة في المناطق أو الدول والشعوب الأخرى. ومن هنا انطلقت الفكرة النيرة التي تبلورت لدى السيدة الراحلة والمناضلة الألمانية المقدامة كلارا تستيكن حين اقترحت أن يكون الثامن من آذار/مارس من كل عام يوما للنضال العالمي في سبيل حقوق المرأة كاملة غير منقوصة ، يوما تحتفل فيه المرأة بمنجزاتها وتتعهد بمواصلة النضال لتتساوى مع الرجل في كل شيء على صعيد كل بلد وكل إقليم والعالم كله. ولم تكن نضالات المرأة باستمرار منجزات طيبة ، بل شهدت أحياناً تراجعات وانكسارات غير قليلة وردات سياسة واجتماعية قاسية ، كما يعيش اليوم في ظله بعض شعوب منطقة الشرق الأوسط ، ومنها إيران والعراق من الناحية العملية والواقع القائم.
لا شك في أن نضال المرأة لم يبدأ مع يوم عيدها العالمي ، بل سبق ذلك بقرون طويلة. ويمكن أن نجد ذلك في صفحات التاريخ العالمي ، ولكن في صفحات تاريخ الشرق الأوسط أيضاً ، كما ينعكس بوضوح في الروايات التي وصلتنا من العهود المنصرمة ، ومنها نضال شهرزاد للخلاص من اضطهاد وظلم وجرائم شهريار ضد المرأة من خلال الزواج منها ليلة واحدة يقضي فيها وطره منها ثم يقتلها في الصباح المباح.
وبقدر ما يقدم التاريخ صوراً رائعة وخالدة عن نضال المرأة ، يقدم لنا أيضاً صوراً مخزية وشرسة لسلوك عام للرجل إزاء المرأة حتى في المرحلة الراهنة. ولا يقتصر ذلك على شعب واحد أو دولة واحدة أو دين واحد ، بل نجده في فترات مختلفة لدى غالبية الشعوب والدول وبدرجات متفاوتة. ولكن كان ولا زال هناك رجال ناضلوا جنباً إلى جنب مع المرأة في سبيل حقوقها. وحيثما أمكن توحيد هذا النضال ، تحقق للمرأة وللمجتمع وللرجل أيضاً أفضل المنجزات.
تمتلك منطقة الشرق الأوسط سجلاً نضالياً رائعاً لنسوة كن في طليعة النضال في سبيل حرية المرأة وحقوقها. وقرة العين هي واحدة منهن التي قدمت حياتها فداءً لحريتها وحقوقها المشروعة. إنها السيدة الراحلة فاطمة بنت صالح القزويني ، التي أطلق عليها لقب الطاهرة وقرة العين وأم سلمى والتاج الذهبي ، وهي أم لثلاثة أبناء.
ولدت السيدة فاطمة من أبوين فارسيين في مدينة قزوين بإيران في العام 1231 هجرية المصادف 1815 ميلادية في أحضان عائلة متدينة ورعة ومتضلعة بالمسائل الدينية وتلتزم بالمذهب الشيعي الإثنا عشري في الإسلام. أطلقت العائلة الدينية اسم فاطمة على الوليدة تيمناً باسم فاطمة الزهراء بنت النبي محمد بن عبد الله وزوجة الإمام علي بن أبي طالب وأم الحسن والحسين والسيدة زينب ، وفي ما بعد كنَّاها والدها بـ”زرين تاج” أو “التاج الذهبي” الذي زين بها العائلة ، كما أطلق عليها فيما بعد كنية أم سلمى. تزوجت السيدة فاطمة من ابن عمها ، وكان عمرها 14 سنة ، ثم اختلفت معه فكرياً واجتماعياً وانفصلت عنه بعد أن أنجبت له ثلاثة أبناء ، هم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق.
برز نبوغها في فترة مبكرة ، إذ درست العلوم الدينية على أيدي والدها الملا صالح القزويني وعمها الملا محمد تقي القزويني ، وهما من عائلة البرغاني المعروفة بالتدين ، واختلفت فيما بعد مع عمها وزوجها. تعرفت على أفكار الحركة الشيخية التي كانت قد برزت في إيران بحدود فترة ولادة قرة العين في قزوين ، أي بعد سنيتن من ولادتها وفي العام 1817 م ، حين كانت تدرس الدين وتعيش الصراعات الفكرية بين مجتهدي المدارس الدينية المختلفة في إيران. وكان المذهب الشيعي على امتداد قرون طويلة وحيثما وجد مصدر بروز حركات فكرية كثيرة ، ولكنها لم تصل كلها إلى العمق الذي بلغته الحركة البابية التي انطلقت من حضن الشيخية وسعة تأثيرها وتحررها من العقد التي لازمت الكثير من المذاهب الدينية والتي قادت هذه الحركة الإصلاحية في المحصلة النهائية إلى بروز دين جديد متحرر من كثرة من القيود التي تفرضها الأديان الأخرى كالدين اليهودي أو المسيحي ، ولكن بشكل خاص الديانة الإسلامية ، والذي أطلق عليه بالديانة البابية فالبهائية على يدي مؤسس الدين السيد ميرزا حسين علي (1817-1892م). بدأت الحركة ، التي أطلق عليها بالحركة الشيخية ، في صفوف شيعة الأحساء حين تحدث الشيخ أحمد الأحسائي بقرب ظهور الإمام المهدي المنتظر ، وهو الإمام الثاني عشر لدى أتباع المذهب الشيعي ، محمد بن الحسن العسكري ، وكنيته أبو عبد الله وأبو القاسم ، كما لقب بعدد من الألقاب الأخرى ، ومنها : القائم ، المنتظر، الخلف والمهدي صاحب الزمان ، حيث يعتقد الشيعة بأنه الغائب وسيعود يوماً لينقذ العالم من المفاسد. .
في مدينة كربلاء القديمة المحافِظة والنائمة والحالمة دوماً والهائمة بالحزن والبكاء وجلد الذات ، المدينة التي كانت منذ عهد الإله بعل ولا تزال حتى الآن وستبقى تستقبل جنائز الموتى القادمة من مختلف بقاع العراق القديم حينذاك ، ومن ثم الكثير من جنائز موتى الشيعة المحمولة من مختلف أركان الدنيا حيثما وجد فيها بشر من أتباع المذهب الشيعي ، في هذه المدينة المحاطة بالبساتين الغناء حيث ينتشر فيها النخيل والكثير من أحلى وأطيب الفواكه وتسقى من نهر الحسين الفراتي المصدر ، في هذه المدينة المرهقة ، كانت المرأة ( ولا تزال ) تعاني من كل الممنوعات التي يمكن أن يكون الإنسان قد عرفها يوماً في تاريخه الطويل وفي مختلف بقاع العالم ، ثم زادت عليها المؤسسة الدينية وشيوخ الدين الكثير الجديد من تلك الممنوعات والمحرمات الغريبة عن طبيعة الإنسان ، في هذه المدينة فرض الرجال سابقاً ، حتى الآن ، على المرأة الحجاب المركب والمعقد وفرضوا عليها الإقامة الجبرية بين جدران الدار والمطبخ والعباءة ولحق بها الظلم من الذكور والمجتمع والدولة في آن واحد. ففي هذه المدينة كان الذكور يربطون اسم المرأة حين تذكر في مجالسهم العامة والخاصة بكلمة “حاشاك” وكأن اسم المرأة شيئٌ مسيئٌ يخدش سمع وحس الذكور ، وكأنها عورة لا تستحق الذكر ، في هذه المدينة المتعبة هيمن الحزن والبكاء والألم على استشهاد الحسين بن علي بن أبي طالب وصحبه الكرام في شهر محرم من العام 61 هجرية المصادف في شهر تشرين الأول 680 ميلادية على جميع الناس أبدا ، في هذه المدينة العجوز برزت فجأة ظاهرة لا تعود إلى ذلك العصر ، بل جاءت في غير عصرها ولكنها كانت تعبر عن الصراع الداخلي الذي كانت تعيشه المنطقة بين القديم والجديد ، بين الحرية والقيود الثقيلة ، إذ وصلت في العام 1828 أو 1829 صبية إيرانية بالغة الحسن والجمال لم تبلغ بعد الخامسة عشر من عمرها بمعية زوجها الملا محمد بن الملا محمد تقي القزويني إلى كربلاء ليدرس الفقه على أيدي شيوخ الدين. عاشا معاً في هذه المدينة 13 عاماً. ثم غادرا العراق في العام 1841 إلى قزوين ، ولكنها عادت بمفردها إلى كربلاء في العام 1843 لتلعب هذه المرة دوراً فكرياً وسياسياً كبيراً حرك مياه المجتمع الراكدة والمتعفنة بعد أن كانت قد بلغ عمرها 29 عاماً. وكانت عودتها بمفردها ناشئة عن رغبتها في الدراسة على يد الملا كاظم الرشتي ، كبير الشيخيين في كربلاء وأحد ابرز شيوخهم ، إذ كانت قبل ذاك قد انفصلت عن زوجها ، حيث عاشا مختلفين فكرياً وسياسياً وبمزاجين متضادين ، إذ كان الزوج ووالده ملا محمد تقي القزويني من الرافضين للشيخية ومن ثم البابية ومعادين لها حيث أصدر والد زوجها فتوى بتكفير الشيخيين في حين ازدادت هي تعلقاً بهم.
حين غادرت المرأة في المرة الأولى كربلاء كانت قد تبلورت لديها بعض الأفكار الأكثر تحرراً والأكثر قوة وجرأة وتقدماً من أفكار الشيخيين. حطت الرحال ثانية في مدينة قزوين وبدأت نشاطها الديني والسياسي باتجاه آخر أبعد عمقاً من الشيخيين. لم تبق في قزوين طويلا ، إذ عادت إلى كربلاء بأمل أن تدرس على يدي الشيخ كاظم الرشتي ، ولكنه كان لتوه قد ودع الحياة ليخلفه الملا أحمد الخراساني. لم يكن هذا الرجل متفتحاً ، بل محافظاً وتقليدياً وبعيداً عن فهم ووعي طبيعة الجديد الذي تبلور في أعقاب اتجاه الشيخيين في إيران وعلى أيدي أناس أخرين. فبدأ الخلاف بينه وبين قرة العين التي جاءت بحماس أكبر ووعي أعمق واصرار أكبر على الدور الذي يفترض ويمكن أن تمارسه المرأة.
أحدثت هذه المرأة ضجة كبيرة بين الرجال في كربلاء أكثر مما أثارته بين النساء ، بسبب القيود التي كانت مفروضة على حركة النساء حينذاك ، رغم وجود نساء كن يحضرن إلى مجالسها والاستماع إلى أراءها الحصيفة إزاء حرية المرأة ، إذ خرجت عن صمتها في سفرتها الثانية إلى كربلاء وتخلت عما يطلق عليه بالتقية ، أي الابتعاد عما يمكن أن يخلق للإنسان المتاعب مع الآخرين من اتجاهات فكرية أو سياسية أخرى ، فجاهرت برأيها بعد وفاة الرجل الذي اعتمدت عليه وجاءت من أجل التزود من معارفه وعلومه الدينية ، وهو السيد كاظم الرشتي (من مواليد مدينة رشت في إيران) الذي تولى الدعوة الشيخية عن الشيخ أحمد الإحسائي بعد وفاته. اختلفت قرة العين مع الملا أحمد الخراساني الذي ترأس الشيخية في كربلاء من بعده ، والذي ، كما يبدو من كتاباته ونشاطه حينذاك ، كان محافظاً تقليدياً يخشى المؤسسة الدينية الشيعية في كربلاء ومن أجهزة الدولة العثمانية ، إضافة إلى خشيته من منافسة قرة العين لموقعه الديني في مجموعة الشيخية ، بسبب قدراتها الذهنية والسياسية وبلاغتها وإجادتها للغتين العربية والفارسية ودورها كإمرأة في وسط يصعب تصور التحرك فيه ويستوجب تجاوز الكثير من العقبات. وقد أدى خلافها ذلك إلى أن ينشر الملا أحمد الخراساني كتابات ضدها ويسيء إليها ويدفع بالمسئولين إلى حجزها في دار آل كمونة في مدينة كربلاء لفترة معينة إلى حين أمكن تسفيرها إلى بغداد ، حيث واجهت هناك مصاعب إضافية رغم سعي مفتي بغداد السيد محمود الآلوسي أفندي حمايتها ، ولكنها كانت شديدة الحماس لما آمنت به ، وخاصة في موضوع حرية المرأة وحقها في نزع الحجاب عن وجهها ومساواتها بالرجل ودفاعها الحماسي عن معتقداتها دون وجل أو تردد. وكان ظهورها فيما بعد بدون قناع الوجه قد تسبب في صراعات في إيران ذاتها بعد أن عادت إليها تاركة العراق خلفها ، إذ لم يترك المسئولون وكذلك المؤسسة الدينية الشيعية لها المجال للعمل والعيش والدعاية لعقيدتها الجديدة ، خاصة وأنها كانت ضد الكثير من الطقوس التي كان أتباع المذهب الشيعي يمارسونها في أيام عاشوراء ، وهي النقطة التي حاول الملا أحمد الخراساني استخدامها ضد قرة العين باعتبارها تعارض الطقوس الدينية الشيعية ، وبالتالي ساهم مع آخرين بتكفيرها. وبعد فترة وجيزة ، ونتيجة إصرارها على مواقفها الفكرية الدينية ، أن دفعت ثمن ذلك حياتها حيث قتلت بفتوى صدرت ضدها في إيران قضت بحرقها ، ولكن أغلب المصادر المتوفرة تؤكد إن من كلف بتنفيذ فتوى حرقها ، قام بخنقها ثم رمى جثتها في بئر وطمر البئر بالحجارة والتراب. كان ذلك في العام 1852م، وكانت قد بلغت حينذاك السابعة والثلاثين من عمرها. وكان قبل ذلك ، أي في العام 1850 قد تم إعدام الباب نفسه بعد أن صدرت فتوى دينية بإعدامه.
كتب الزميل الدكتور رشيد خيون بشأن الديانة البهائية يقول:
“البابية والبهائية حركة دينية اجتماعية ، ومجددة بحدود ما تبنته من تعاليم جديدة ، عرفت بين أعدائها بنسخ الشريعة ، وإباحة المحارم. ولعلها كانت الحركة الدينية الأبرز في الشرق خلال القرن التاسع عشر ، في تبني أفكار جذابة ، استوعبت المتغيرات الجديدة ، بعد ركود السائد الديني والمذهبي عشرات القرون. عزفت هذه الحركة على وتر المعاصرة والتجديد ، مع أن رداءها الديني والمذهبي أدخلها في متاهات الإعجاز وغيرها من الغيبيات.”
لم يكن للمرأة تأثير كبير على المجتمع الكربلائي الذي كان يعيش في سبات اجتماعي عميق ، وكان الموقف من النسوة عميق الغور في رفض ممارستها لحريتها وحقوقها ، بل كانت منزوعة الحقوق ونسبة عالية منهن لا يقرأن أو يكتبن في المدينة ، والجهل مطبق في ريف هذه المدينة وفي عيرها. ولم يكن في مقدور المصلحين في هذه الفترة إلا أن يكون طرحهم لأفكارهم الإصلاحية من خلال الدين واستناداً إليه ومحاولة لتفسير بعض الآيات والأحاديث بما يساعد على دفع الإصلاح بصعوبة كبيرة نحو الأمام. ورغم ذلك وجدت هذه المرأة بعض النسوة اللواتي كن يستمعن لها ويوافقن على طروحاتها من خلال الإصرار على حضورهن لمجالسها من جهة ، ومن خلال التعرف على الخشية التي تفاقمت لدى المؤسسة الدينية وشيوخ الدين في كربلاء من تمادي هذه المرأة في عقد جلساتها ومواصلة الدعاية لأفكارها وموقفها ضد الحجاب من جهة أخرى ، إذ كان الحجاب يشكل بالنسبة لهؤلاء أحد أهم قيم الإسلام الأساسية التي لا يريدون التخلي عنه ، في حين أن نزع حجاب الوجه ليس كذلك بأي حال من الأحوال ، بل كان أحد الأسباب الأساسية في تخلف المرأة والمجتمع في آن. إلا أن ضعف تأثير قرة العين على المرأة الكربلائية أو العراقية لا يعني أنها لم تحرك المياه الراكدة ، بل لم تستطع أن تفتح مجرى جديداً لمياه صافية تدخل إلى البركة ذات المياه الراكدة لتغير من روائحها النتنة ، كما كانت تتوقع وتنتظر ، إلا أنها تركت في الذاكرة العراقية ما بدأ بعد أكثر من سبعة عقود من حوار واسع في العراق بين المثقفين المتحررين والمحافظين وبعض شيوخ الدين حول الحجاب والسفور والذي تبنته جماعات حداثية دافعت عن ذلك بكل حماس وحيوية في مواجهة التيارات المحافظة والتقليدية والعاجزة عن رؤية الجديد. لقد كانت قرة العين نسمة عليلة في صيف شديد الحرارة ، أنعشت بعض النفوس ولكنها لم تستطع أن تفعل أكثر من ذلك حينذاك.
كتب الأستاذ الراحل الدكتور علي الوردي مقيماً قرة العين ما يلي: “حين نستقرئ سيرة قرة العين منذ بداية أمرها حتى ساعة مقتلها نشعر بأنها امرأة ليست كسائر النساء ، فهي علاوة على ما تميزت به من جمال رائع كانت تملك ذكاءً مفرطاً وشخصية قوية ولساناً فصيحاً ، وتلك صفات أربع قلما اجتمعت في إنسان واحد ، وأن هي اجتمعت فيه منحته مقدرة على التاثير في الناس وجعلته ممن يغيرون مجرى التاريخ…. إني أعتقد على أي حال أن قرة العين امرأة لا تخلو من عبقرية وهي قد ظهرت في غير زمانها ، أو هي سبقت زمانها بمائة سنة على اقل تقدير . فهي لو كانت قد نشأت في عصرنا هذا ، وفي مجتمع متقدم حضارياً ، لكان لها شأن آخر ، وربما كانت أعظم امرأة في القرن العشرين” .
ويمكن الادعاء بأنها لو ظهرت اليوم في العراق وإيران ، أي في أوائل القرن الحادي والعشرين ، ستكون قد سبقت زمانها بأكثر من قرن واحد بعد أن عاش البلدان ردة فكرية وسياسية واجتماعية عميقة وشديدة الوطأة على الناس ، ولكن بشكل خاص على المرأة في كل من إيران والعراق بشكل خاص ، إضافة إلى أوضاع المرأة في السعودية مثلاً. إذ أن شعوب هذه البلدان لم تعرف التنوير الديني والاجتماعي حتى الآن ، إذ عاد الحجاب يفرض نفسه على المرأة العراقية ويعيدها إلى حالتها المأساوية في القرن التاسع عشر حيث ظهرت هذه المرأة الشجاعة.