مقدمة الطبعة الثانية لكتاب الهوية والمواطنة
مقدمة الطبعة الثانية
لكتاب الهوية والمواطنة
بقلم د. عبد الحسين شعبان
انشغلت بموضوع “الهويّة والمواطنة” منذ أكثر من ثلاث عقود من الزمان ، ارتباطاً بالتغييرات الكبيرة التي شهدتها بلدان أوروبا الشرقية بانتهاء عهد ” الحرب الباردة” بشكلها السابق والصراع الأيديولوجي بين النظامين المتصارعين “الرأسمالي والاشتراكي”، لاسيّما بانفجار موضوع الهويّات على نحو لم يسبق له مثيل، الأمر الذي غيّر الكثير من المسلّمات والفرضيات، فاستوجب إعادة النظر بعدد من القناعات والاستنتاجات، سواءً على الصعيد الفردي أم على الصعيد المجتمعي، للصلة الوثيقة بين العام والخاص، والوطني والفردي والشامل والفرعي .
ولم تكن ظاهرة “انبعاث” الهويّات لدرجة التذرر أحياناً، ناجمة عن إرادة مسبقة أو رغبة في التفلت من الكيانات السابقة فحسب، بل انعكاساً لواقع جديد وتعبيراً عن تمظهرات مستحدثة موضوعياً وذاتياً، بتداخلات خارجية واستقطابات داخلية، خصوصاً وقد رافقها أعمال عنف ونزاع وحرب بعد جدل وصراع، استعرت آواره بفعل صعود عوامل التعصّب ووليده التطرّف وهذا الأخير إذا ما تحوّل إلى سلوك سيقود إلى العنف، والعنف حين يضرب عشوائياً يصبح إرهاباً منفلتاً من عقاله باستهداف المجتمع والدولة معاً، وهدفه إضعاف ثقة الفرد بالدولة وإحداث نوع من الرعب والفزع في المجتمع بما فيه إضعاف ثقته بالدولة، ناهيك عن أنه يصبح إرهاباً دولياً عابراً للقارات والحدود والبلدان.
وقد حاولت معالجة موضوع “الهويّة والمواطنة” من زوايا مختلفة، سواء هويّة الجماعة الثقافية أم هويّة الفرد الثقافية آخذاً بنظر الاعتبار التحوّلات والتغييرات التي شهدتها هويّة الجماعة أو الفرد كجزء من صيرورة تاريخية دينامية متعدّدة ومتنوّعة ومفتوحة وقابلة للإضافة والحذف بما يتناسب مع درجة التطور في كل مجتمع وكل مجموعة بشرية وكل فرد، بلحاظ القواعد القانونية العامة في الدولة العصرية، تلك التي تتيح الإمكانات لمواطنة سليمة ومتكافئة.
وفي إطار الهويّة، وفي لبّها تتفاعل عوامل عديدة قومية ودينية ولغوية وسلالية واجتماعية وثقافية وتاريخية وغيرها، مرّة بمعناها التشاركي وأخرى بمعناها التنازعي، وتارة بمعناها العام الجامع والمشترك وثانية بمعناها الفرعي الخاص والمتميز، والأخيرة غالباً ما تكون دفاعية ضد التسيّد أو الهيمنة أو رفض الاستتباع وقد تندفع مرغمة على الانعزال، سواء على المستوى الفردي أم على المستوى الجماعي، مثلما تأخذ تلك التجاذبات مكانها في البحث عن تكافؤ الفرص لمواطنة متساوية ومتكافئة .
وهناك تداخل وتفاعل لدرجة الاندغام أحياناً بين هويّات متعدّدة لدى كل فرد ولدى كل مجموعة بشرية، وتلك هي ما يميّزها عن غيرها، لاسيّما لشعورها بالانتماء، مثلما تميّز الفرد عن غيره، والأمر يعود إلى القناعة الخاصة من جهة والشعور الذي يجمع من ينتمون إلى هذه المجموعة، أو لدى الفرد الواحد من جهة أخرى، بحيث يقر أن هذه السمات هي التي تعبّر عن هويّته الغالبة أو أن هذه المجموعة تشعر أن هذه المواصفات هي التي تمثل شعورها الخاص بالتميّز أو التمايز عن غيرها من المجموعات الإنسانية.
وكان صدور الطبعة الأولى من كتابي ” الهويّة والمواطنة – البدائل الملتبسة والحداثة المتعثّرة “ يناير /كانون الثاني 2017، وقبلها كتابي المعنون “جدل الهويّات في العراق- الدولة والمواطنة” في العام 2010، وقبله كتابي الموسوم ” من هو العراقي؟- إشكالية الجنسية واللاّجنسية في القانونين العراقي والدولي، في العام 2002، فرصة جديدة لتوسيع دوائر الحوار والجدل والنقاش الذي احتدم على المستوى العالمي، ناهيك عن انعكاساته عربياً.
ومثل تلك الفرصة كانت مناسبة لإجراء مقارنات ومناظرات مع تجارب شتى أوروبية وأمريكية لاتينية وآسيوية وأفريقية، لاستخلاص المشتركات من جهة ولتأشير المختلفات من جهة أخرى، لاسيّما فيما يتعلق بهويتنا، خصوصاً حين ينصرف التفكير إلى أسئلة قديمة – جديدة، وربما راهنة ومستقبلية من قبيل : كيف يمكن أن نحصّن هويتنا الوطنية ونوازن بين ما هو فردي وعام وفرعي وشامل بحيث نبني ثقافة وطنية قائمة على المشتركات الإنسانية أساسها جدلية الوحدة والتنوّع في آن، والمرتكزة على كونية القيم وخصوصية الأداء والممارسة ؟ وأخيراً كيف السبيل للتواؤم مع قيم الحداثة دون القطيعة مع التراث؟
وإذا كان ذلك يتعلق بالهويّة فما هي الأولويات التي تطرح نفسها بخصوص المواطنة التي تتمايز وتختلف عن الوطنية أو الجنسية؟ والمواطنة مسألة سلوكية تعني كل فرد من أفراد المجتمع وهي تتألف من اتحاد مواطنين، وكل مواطن له حقوق وعليه واجبات، وهذا الفهم يختلف عن “الرعايا” أو “التابعين” ، أي أن الأخيرين ملحقين في حين أن الأول يعتبر مصدر السلطة إذا ما جمعنا المواطنين إلى بعضهم وهو ما يتم التعبير عنه بالصياغات الدستورية ” الشعب مصدر السلطات”.
والمواطن أي مواطن معني بثلاث قضايا: علاقته بالدولة كيف تؤطر، ثم مشاركته في اتخاذ القرار، أي وفق أي صيغة دستورية، وأخيراً مسؤوليته كعضو فاعل في المجتمع ودوره في المشاركة الحيوية، باعتبار أن كل ما يدور في الدولة والمجتمع أمور تعنيه. وتتكوّن هويّة المواطنين من السمات المشتركة والجامعة خارج دائرة الأيديولوجيات والأديان والطوائف، وهي هويّة غير إستنتاجية وغير دوغماتية أو أيديولوجية، بل عفوية تلقائية صميمية ، من خلال المشتركات والقيم التي يجتمع المواطنون عليها، وبالطبع فاللغة ركن أساس من أركانها والذاكرة المشتركة والتاريخ المشترك والدين والعادات والتقاليد والآداب والفنون التي نشأوا عليها.
وتلتصق صفة المدنية بالمواطنة وهو ما جاء في لسان العرب فالوطن هو المشترك ومكان الإقامة ، سواء ولد فيه الإنسان أم لم يولد، والمواطنة أساسها المعايشة والمشاركة في هذا الوطن، أي المشاركة في العيش معاً، والتي يترتب عليها مسؤوليات اجتماعية وثقافية تتجاوز مسألة الأرض، لأنها تشمل العلاقات ونمط العيش والتفكير والحقوق، ناهيك عن شكل من أشكال الارتباط في إدارة الشؤون العامة ، وتحتاج هذه إلى برامج عمل ثقافية وتربوية وتعليمية لتحديد مكوّناتها وأسسها مثل: العلاقة بالمكان، العلاقة بالأشخاص الذين يسكنون هذا المكان ، العلاقة بمن يحكم هذا المكان ويدير الشؤون العامة فيه.
وتختلف تلك المواصفات من بلد لآخر، ففي البلدان المتعددّة الثقافات تتداخل الهويّات العامة الجامعة والمشتركة ، مع الهويّات الخاصة والفرعية، وتحتاج بقدر الإقرار بالهويّة الجامعة، إلى اعتراف باستقلالية الهويّات الفرعية ، وفقاً لقاعدة حقوقية تربط بين ثقافة المجال العام المشترك والمتكوّن من مجموع الثقافات، ليس بمعنى حاصل جمع هذه الثقافات وإنما بمشتركاتها الإنسانية وبين ثقافة المجال الخاص مع الأخذ بعين الاعتبار التطوّر التاريخي والتأثيرات المتبادلة بين الثقافات، دون نسيان بعض جوانب التأثير في الثقافة السائدة وانعكاساتها لاعتبارات أخرى، فضلاً عن القيم المشتركة.
ولكي يكون الأمر في إطار جدل الهويّات وليس صراعها، أي تقليص الفوارق وتعظيم الجوامع، فلا بدّ من إيجاد نوع من التطامن القائم على المصالح المشتركة المشروعة في بوتقة جامعة، وهي ما يطلق عليه الصديق المفكر انطوان مسرّة ” المواطنة البراغماتية” وذلك تجنباً لصراع الأيديولوجيات في كتابه “ الثقافة المواطنية في المجتمع التعددي” [1] ونزاع الهويّات وتناحر المصالح، ويضرب مثلاً للبنان الذي يقول إن ” الحاجة تنقل صلابة النسيج الاجتماعي الحي إلى المجال العام”.
وإذا كانت الذاكرة الجماعية المشتركة خزين لتفاعل الهوّية فهي حكماً تحتاج إلى مناهج تربوية وتعليمية مشتركة تأخذ بنظر الاعتبار المشتركات مجنّبة التاريخ من الاسقاطات الأيديولوجية عليه، تلك التي تحول دون إكسابه الطابع العلمي والموضوعية المطلوبة.
والمواطنة التي تقوم على مرتكزات أساسية قوامها: الحرية والمساواة والعدالة، ولاسيّما الاجتماعية والشراكة والمشاركة في الوطن، لا يمكن أن تعتمد على التلقين أو تمرّ من قنوات أيديولوجية أو تخضع لتقسيمات دينية أو طائفية، بل تحتاج إلى ممارسة حقوقية وحوار مستمر قطاعي ومجتمعي وقواعد قانونية تحمي المواطن الفرد مثلما تحمي حقوق المجموعات الثقافية وهوّياتها الفرعية ذات الخصوصية التي ينبغي احترامها.
وإذا كانت الهويّة الوطنية قد لعبت دوراً جامعاً في فترة ما بعد الاستعمار، فقد كان هذا الدور عفوياً للشعور بالاستلاب من جهة، والرغبة والإرادة في الانعتاق من جهة أخرى، ولذلك أدارت المجاميع الثقافية حواراً فيما بينها على نحو تلقائي صميمي أساسه الدفاع عن الوجود بما فيه إذكاء وتعزيز الانتماء الوطني والشراكة بين أبناء الوطن الواحد، فضلاً عن الشعور بالاندماج والتفكير المشترك بالجامع والموحّد دون نسيان التمايزات والخصوصيات، وحسبنا هنا أن نستذكر المواجهة المتّسمة بالوحدة الوطنية ضد الاحتلال البريطاني في العراق وضد الاحتلال الفرنسي في سوريا ولبنان.
ولعل أكبر التحديات التي تواجه الهوّية اليوم هو تحويلها إلى واقع حال، لاسيّما في ظل الانقسامات الطائفية والإثنية، التي دفعت بالهويّات الفرعية دينية أم إثنية أم لغوية أم سلالية إلى محاولة التفلّت بسبب ما لحقها من تسلط وتهميش في فترة ما بعد الاستقلال، دون التغافل عن العوامل الخارجية التي حاولت العزف على هذا الوتر، بهدف إضعاف الهوّية الوطنية في كل بلد عربي وعلى المستوى القومي.
وبالطبع فإن الممارسة الخاطئة والضارة والنظرة الأيديولوجية المتعالية والمسبقة لفكرة المواطنة هي التي عقّدت المشهد السياسي ووضعت عقبات أمام بناء ثقافة وطنية جامعة وهويّة صلبة ومتماسكة وشاملة تقوم على احترام الخصوصيات والهويّات الفرعية، والأمر لا يتعلق ببلداننا وهوّيتنا وثقافتنا ذات البعد العربي الإسلامي وإنما يتصل بالعالم أجمع، خصوصاً في أوروبا الشرقية بعد انهيار الأنظمة الشمولية، لدرجة إن بعضها خاض حروباً دموية وتشظى إلى عدد من الكيانات والدول أو الدويلات تحت عنوان ” انبعاث الهويّات”، الذي امتد إلى بلدان آسيا وأفريقيا وبعض دول أمريكا اللاتينية، ليس هذا فحسب بل إنه شمل أوروبا الغربية أيضاً .
الأمر الذي يحتاج إلى إعادة النظر ببعض التقديرات التي اقتربت من الأوهام التي رافقتنا طيلة عقود من الزمان بشأن إمكانية حلّ جدل أو صراع الهوّيات بطرق آيديولوجية اعتقدنا أنها الطرق الناجعة، وإذا بالتجربة التاريخية تظهر العكس بارتفاع حدّة الصراع والجدل لدرجة أنه أصبح دموياً في بعض بلدان ” أوروبا الشرقية” وإن ظلّ في بلدان “أوروبا الغربية” سلمياً وقانونياً ودستورياً، لكنه قد يذهب أبعد من ذلك وهناك أمثلة كثيرة منها اسكتلندا وكاتالونيا والباسك والكيبك وبلجيكا وغيرها.
وحتى المفاهيم الحديثة التي جرى الاعتقاد أنها العلاج الشافي لمسألة انبعاث هوّية عصرية جديدة، أساسها الديمقراطية، فإن هذه القيم لوحدها غير جديرة ببناء هويّة موحّدة، وإنما تحتاج إلى استنهاض القيم التاريخية والثقافية المشتركة والذاكرة الجماعية العابرة للآيديولوجيات والطوائف والقوميات والإثنيات واللغات، سواء على المستوى الجمعي أو على المستوى الفردي، فللفرد مثلما للمجموعة أكثر من هوّية، كأن يكون عربياً أم كردياً، مسلماً أم مسيحياً ، عراقياً أم سورياً، لكنه جزء من هوّية أوسع عربية أو حتى إسلامية مثلاً.
وهكذا تكون الهويّة مركّبة فردية أم جماعية وإن ارتبطت بوطن، فلأنها تحمل جنسيته كجزء من دولة ترتبط بالمواطنة كعلاقة مزدوجة مع محيطها دون استصغار أي من العناصر الأخرى، لكنه لبناء المشتركات تحتاج إلى الإقرار بوجودها ومراعاة تطورها التاريخي، وبالتالي وضعها في سياق يخدم المشترك الإنساني أولاً، ومرة أخرى نقول إن الهويّة جماعية أم فردية تخضع لهذه الاعتبارات، أي أنها مجمعنة أم مفردنة هي غير سرمدية أو نهائية أو كاملة، بل هي مفتوحة وتتطور مع تطور الزمن وغير نهائية، لأنها قابلة للإضافة والحذف.
وتلعب التربية دوراً مهماً في تعزيز الجانب التشاركي أو التنازعي في الهويّة والشعور بالانتماء لمواطنة موحدة ، والأمر يشمل حتى البلدان المتقدمة فمثلاً في سويسرا تقرّ الدولة أربع لغات رسمية هي: الألمانية والفرنسية والإيطالية والرومانشية ، حيث تعترف بـ الحق في التعلّم في المدارس بأي من هذه اللغات وبهذا المعنى لم تعد مشكلة نزاعية قانوناً وواقعاً. أما بلجيكا وإن كانت دولة ديمقراطية وفيدرالية أيضاً مثل سويسرا، لكن السلم المجتمعي لم يتحقق إلّا في العام 1957 بعد إقرار الحق في تعلّم أي من اللغتين السائدتين، والمقصود بذلك لغة الوالونيين والفلامنيين حيث أقرّت الدولة ميثاقاً مدرسياً للتربية، ومع ذلك فإن العوامل النزاعية ثقافيا ولغوياً ومصلحياً ما تزال تفعل فعلها الذي قد يصل إلى الانفصال، ولذلك لا يكفي القول بأن الحل في الديمقراطية وحدها، لأن العيش المشترك والشعور بالسمات العامة المشتركة هو الأساس الذي لا غنى عنه لتشكيل الهوّية من جهة ولبناء مواطنة متكافئة وقائمة على أسس دستورية، وهو ما يحتاج إلى إرادة سياسية توافقية وتنشئة تربوية على المواطنة المتساوية، ناهيك عن شرعية الإنجاز أيضاً من خلال التنمية وحسن الأداء والتعامل والمهم التطامن بين الهويّات.
ولبناء مواطنة حيوية على أساس هويّة موحدة، فالأمر يحتاج إلى مناعة وطنية باستذكار ما هو سلبي في علاقات المجموعات الثقافية ليكون عبرة، والبناء على ما هو إيجابي ليكون أفقاً، لكي لا يندفع من يشعر بالغبن والتهميش والإقصاء إلى الرفض والتمرد والرغبة في الانقسام، وهذا الأمر يتطلب منجزاً مشتركاً ومعرفة متبادلة بخصوصيات كل فريق ومراعاتها، لما فيها من حساسيات، ناهيك عن المجال العام المشترك الداعم للوحدة والتضامن ومجابهة التحديات الخارجية، كما يحتاج إلى شجاعة وتصميم وإرادة سياسية والتزام قيمي وحضاري يقوم على المشتركات الإنسانية والتشاركية المسؤولة على مستوى الفرد والمجتمع والدولة.
وأساس كل ذلك هو العيش المشترك والضمانات الحقوقية والالتزامات القانونية، أي عدم التمييز ونبذ أي شكل للاستعلاء بزعم “الأكثرية والأقلية” أو ” الأكبر والأصغر” أو “القوي والضعيف” أو ” الأعلى والأدنى” وهو ما حاولنا تسليط الضوء عليه لمعالجته وفقاً لقواعد دستورية للدولة العصرية، بتأكيد التخلي عن أي شكل من أشكال الإرغام والإكراه والعنف ضد الآخر والإقرار بالتعددية والحوار والتوافق على حل المشكلات بالسلم والتفاهم وعدم اللجوء إلى السلاح، وذلك وفق عقد اجتماعي جديد يؤسس لدولة المواطنة والحقوق .
وقد أكّدت حركة الاحتجاج الواسعة في العديد من البلدان العربية وآخرها في العراق ولبنان أن المواطنة لا تستوي مع المحاصصة ، مثلما لا تستقيم الهويّة العامة الجامعة بالمحاصصة أيضاً، فالمواطنة والهويّة موجودتان أساساً في المجال العام المشترك للحياة اليومية في الأحياء والشوارع والجامعات وأماكن العمل والمرافق العامة والخدمات في الصحة والتعليم والإدارة والبيئة والبلدية وكل ما يشكّل مشتركاً للجميع، ففي تلك المجلات المدخل الحيوي الجامع للمواطنين وللهوّيات المختلفة المؤتلفة والمندرجة في إطار مواطنة متكافئة، وهو ليس شأن الدولة فحسب، بل شأن المجتمع أيضاً وقواه المحرّكة، ويمكن أن يسهم به المجتمع المدني، فالشأن العام بحاجة إلى تربية أيضاً، أي الشعور بالمسؤولية والمشاركة في كل ما حولنا، من احترام القواعد الناظمة للعلاقات إلى معالجة المشكلات بالحوار والسلم، إلى وضع الخطط والبرامج لحياة نوعية أفضل.
ونحتاج إلى الإصغاء لبعضنا البعض وإتقان فن الحوار والمصارحة وإدارة التنوّع الثقافي باحترام الخصوصيات، بما يعزز المسؤولية الجماعية، وينمّي الفردانية والتميّز دون نسيان المشتركات الإنسانية والمسؤوليات التي تترتّب على الفرد وحقوقه إزاء الجماعة والمجتمع ، وتلك تحتاج إلى بناء من التنشئة الأولى، لاسيّما إذا توفرت مؤسسات لرعاية مثل هذا الحوار، وهو حوار بين أتباع الثقافات المختلفة، سواء: قوميات ، أديان ، لغات، وحوار في الحياة العامة، مثلما يحتاج إلى رياضة نفسية لتقبّل الآخر وأفكاره وحقه في الاختلاف. والحوار يمكن أن يتخذ بعداً ثقافياً وآخر حقوقياً وقانونياً وثالثاً سياسياً واجتماعياً ويحتاج إلى إدارة فاعلة وناجحة لإدارته.
نأمل أن تكون هذه الطبعة الثانية مناسبة جديدة أكثر اتساعاً لحوار مفتوح متعدد الجوانب فكرياً وثقافياً وسياسياً وبروح الشعور بالمسؤولية على المستوى الفردي والجماعي حول إشكاليات الهوّية والمواطنة من أجل فهم أكثر عمقاً وشمولاً وصميمية بالرغم من أوضاعنا العربية المعقّدة والمتشابكة والتحديات التي تواجه مجتمعاتنا خارجياً وداخلياً للانطلاق نحو أفق جديد في إطار مشروعنا النهضوي العربي.
بيروت ، 26 كانون الأول (يناير) 2019
مقدمة الطبعة الثانية لكتاب الهوية والمواطنة – البدائل الملتبسة والحداثة المتعثرة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2020.
[1] – انظر: مسرّة – انطوان نصري، الثقافة المواطنية في المجتمع التعددي لبنان من منظور مقارن، منشورات تصالح ( تجمع الصداقة اللبناني للحوار الإسلامي – المسيحي) ، المكتبة الشرقية، بيروت ،2019، ص: 472 وما بعدها.