كوهين … جاسوس في دمشق
كوهين … جاسوس في دمشق
ضرغام الدباغ
يندر أن تحاط قضية معينة بهالة من المبالغات، والتنسيب الكيدي، والاكاذيب، كما أحيطت بها قضية الجاسوس الإسرائيلي إيلياهو شاؤول كوهين(كامل أمين ثابت). فكل من له مصلحة بالإشادة بكوهين فعل ذلك صراحة، أو مواربة، وكل من له مصلحة أن يحط من شأن سوري (بصرف النظر عن الدوافع العميقة) فعل ذلك بخفة أو رزانة ..! وبالمجموع نلاحظ أن أطراف هذه المصالح يمثلون جبهة عريضة، فخصوم سورية أو حزب البعث يعتبرون أن أي مثلبة توجه لسورية والحزب هو مكسب يلحق الأذى في نظام نحن ضده، وهكذا صارت أطراف عربية تردد الدعاية الإسرائيلية بسرور. وبعضهم وصل لدرجة القول أن كوهين كان بعثياً وقيادياً في الحزب لدرجة عضو في القيادة القطرية، وبعضهم قال أنه كان على وشك أن يصبح وزيراً أو رئيسا للجمهورية، ليختلط المعقول باللامعقول . فالكل يعلم (وهذه ليست أسرار) أن الانتماء لحزب البعث ليست عملية عشوائية ولا تتم بسهولة، فلابد من أن يكون في المرحلة الأولى ” صديقاً ” لمدة معينة، ثم يصبح ” نصيراً ” لفترة أخرى، ثم يصبح في مرحلة “نصير متقدم” ، ثم يصبح ” عضوا متدرباً ” لمدة سنة كاملة ثم “عضوا عاملاً”، وليس هناك عضو قيادة قبل أن يمضي على الأقل 10 أعوام كعضو عامل في الحزب، وفي الحزب الذي الحكم أكثر. وهذا موجود في النظام الداخلي للحزب ..! ومن هنا يتعرف المرء أي حياكة غير مضبوطة للأكاذيب. . وقد تسنى لي قراءة ملفات التحقيق والمحاكمة لهذه القضية التي وزعت على أعضاء قيادات حزبية عليا، ثم تسنى لي أيضا اللقاء والمحادثة مع الأشخاص الذين قاموا بالتحقيق أو الاطلاع على دقائق الأمور.
وأطلقت قذيفة دعائية فاشلة أنه أرتبط بصداقة مع العقيد أمين الحافظ حينما كان ملحقاً عسكرياً لسوريا في الأرجنتين، ولكن هذه الكذبة دحضت بسهولة، فحين قدم كوهين إلى الأرجنتين، كان العقيد أمين الحافظ قد غادرها عائداً إلى سورية. ولم يلتقيا ولا مرة واحدة، إلا وكوهين رهن الاعتقال ولتلك قصة أخرى.
ويطلق كاتب مصري قنبلة دخانية أخرى ليقول أن المخابرات المصرية هي من كشفت كوهين، وكأن عيب على السوريين الاعتراف أن أشقائنا المصريين ساعدونا بكشف جاسوس، والسوريون هم من قالوا أن السفارة الهندية هي من ساعدتنا بكشف كوهين، والحقيقة أن كوهين ضبط متلبساً يرسل برقية لاسلكية، لذلك أعترف بسرعة دون توجيه ضغوط إليه ..!
والغريب أن من روج أن كوهين صار عضواً في الحزب، أو كاد أن يصبح وزيراً أو رئيساً، وبعضهم قال أنه كاد أن يصبح نائب القائد العام للقوات المسلحة، دون أن يسأل نفسه قبل صياغة هذا الخبر، ما هي كفاءات ومؤهلات كوهين السياسية والمهنية ..؟ فهو لم يخدم حتى الخدمة العسكرية الإلزامية، ولا يمتلك أكثر من شهادة الثانوية العامة، ولم يكن ذا خبرة أو تجارب عمل بأي وظيفة تؤهله لمنصب ما ..ولو أن الصحفي الذي فيرك هذا الخبر قد أسند لكوهين منصب وزير التجارة (وإن كانت هذه غير منطقية).. لربما كان السذج من القراء سيتقبلون الفرية أسهل، ولكن نائب القائد العام وكاد أن يصبح رئيساً فالكذبة أكبر من أن تبتلع.. .. هل سورية تفتقر للكفاءات بدرجة أن يأتي مهاجر لا يمتلك شهادات ولا كفاءات ليتقدم في سلم الوظائف والمواقع، وكل هذا خلال 3 سنوات فقط ..؟ نعم معقول أن تتهم خصمك السياسي بالنقائص، ولكن أن تصطف مع العدو فهذا انحدار مخيف في السقوط .. حقاً أن بحر الكذب لا قعر لعمقه ..!
أن يتوهم صحفي مبتدئ، في باكورة عمله في الإعلام فيميل إلى التهريج، أمر مفهوم، ولكن أن ينغمس في الدجل صحفي مصري قديم، وجماعة تعتبر نفسها من مثقفي الأمة يديرون حلقة من لندن، بعضهم يحمل ألقاباً علمية يشاركون في التضليل ويسايرون الدعاية الصهيونية فهذا هو المؤسف، فمن حقك أن تكون مع من تشاء وضد من تشاء، ولكن أن تستلم المنابر الإعلامية بالتضليل مصطفاً مع العدو … والمضللون مختلفون فيما بينهم، والخلافات غير بسيطة، ولكن لا أحد يأتي على ذكر الرواية الرسمية السورية، ولا عن المحاكمة العلنية، فهذا هو العار .. كيف سنصدق بعد اليوم ما تزعمون أيها السادة …؟
وإسرائيل من مصلحتها أن تظهر أن كوهين كان بطلاً قومياً ” جاسوس إسرائيل الأكبر” وهي التي أطلقت أسماء شوارع وساحات وأحياء باسمه تخليداً “لبطولته الفذة” وأنتجت أفلام تخليداً لعمله، فلا يعقل أن تكون الأسطورة أقل بدرجة كبيرة جداً أقل من الحقيقة.
ــ أنتج فيلم أمريكي يحمل اسم جاسوس المستحيل (بالإنجليزيةThe Impossible Spy) ) سنة 1987، ببطولة جون شيا في دور كوهين، وصوّر في إسرائيل.
ــ في 2019 بثت شبكة نتف ليكس مسلسلا من إنتاجها يحمل اسم الجاسوس بالإنجليزية ( The Spy) وهو من بطولة الممثل الكوميدي الإنجليزي شاشا بارون كوهين والممثلة الإسرائيلية هادرا راتزون روتيم، بدور زوجته نادية، من تأليف وإخراج جدعون راف.
مع أن جهات إسرائيلية أبدت أنها لم تكن راضية كل الرضا عن عمله، إذ كان يغرق رؤساءه بتقارير لا قيمة حقيقية لها، كتعليقه على نتائج كرة القدم، وانتقاده لأداء منتخب إسرائيل، وتقارير عن الصحافة السورية، وهو عمل يمكن أن يؤديه أي مترجم في تل أبيب بدون مجازفات ..! ويعتقد بعض خبراء الأمن أن الجاسوس (كخلل في العمل) يريد أن يوهم مشغليه أنه قام بالمهمة على أفضل وجه. لذلك كان يطعم تقاريره تلك بمعلومات يوهم الإسرائيليين أنها مهمة، كالتقاطه صورة في الجولان، وهي محافظة بوسع أي سائح الوصول إليها، وزيارة مع صديق (ملازم في البحرية السورية) إلى قاعدة بحرية، سوف لن يتمكن من رؤية أكثر من عدد من زوارق الطوربيد، وصورة التقطت له داخل طائرة شراعية، وهذه التقطت في نادي الطيران الشراعي بالقرب من دمشق، وهو نادي لهواة تعلم الطيران الشراعي، ولا تنطوي على خطورة.
وللحق فإن قضايا الجاسوسية هي ملفات تحتمل وضع رتوش، وإضافات درامية، وتصلح لأن تتحول إلى مسلسلات تلفازية، وأفلام مخاطرة، لأنها قضية مغامرات أساسا لذا فإن كل من يضيف على هواه وبما يتفق مع هواه ومزاجه، وتصلح للإضافة ومنح المسألة أبعاد يتفنن في تدوينها كتاب متمرسون من وزن ألبريطاني أيان فليمنغ (كاتب روايات جيمس بوند)، والكاتب المصري صالح مرسي (كاتب رواية رأفت الهجان) .
أيلي كوهين، يهودي مصري، مولود 1924 في الاسكندرية، لم يكمل تعليمه الجامعي في مصر، أعتقل (أواسط الخمسينات ) في قضية خلية تعمل لصالح إسرائيل ” قضية لافون”، وأطلق سراحه لعدم كفاية الأدلة. هاجر إلى إسرائيل عام 1955 إلى إسرائيل، وعمل مع الاستخيارت الإسرائيلية التي أعادته إلى مصر، فأعيد اعتقاله عام 1956، فاعتقلته الأجهزة المصرية، ولكنها أطلقت سراحه، فعاد إلى إسرائيل عام 1957، عمل مترجماً في وزارة الدفاع الإسرائيلية، ثم في المخابرات التي رأت فيه أنه يصلح للعمل في سوريا ودرب على استخدام اللهجة السورية، وتشير كافة المصادر أن كوهين كان انطوائياً، وخلال ثلاث أو أربع سنوات عاشها في إسرائيل بعد هجرته الثانية إليها، لم يحصل على أية وظيفة أو عمل، تعادل نشاطه الاستخباري واعتقاله مرتين في مصر، برر بعضهم كونه من اليهود الشرقيين ” السفارديم “، في حين أن النخب في إسرائيل هم من يهود الأشكيناز الغربيين “.
والاستخبارت الإسرائيلية وجدت له مجالاً في العمل الاستخباري الموجه ضد البلاد العربية بوصفه يحسن العربية قراءة وكتابة وحديثاً، وأجرت له تدريباً سريعاً على اللهجة السورية، ثم لفقت له ملف هجرة مواطن سوري (وهو عمل ليس بصعب) إلى بوينس آيرس/ الأرجنتين التي وصلها من زيوريخ / سويسرا 18/ تشرين الثاني ــ نوفمبر / 1961، وبقي هناك تحت رعاية المخابرات الإسرائيلية. واستعد للسفر إلى دمشق / سوريا، وقبلها عاد لإسرائيل من أجل دورة على التجسس، واستخدام اللاسلكي، ووصل دمشق في شباط / 1962.
وإلى هنا، تتفق (تقريباً) الروايات المختلفة، وبدأ الجاسوس في دمشق بنشاطه التجسسي وسيبقى فيها 3 سنوات، وقد حاول كوهين التعرف على أوساط سورية، وكان الوسط التجاري هو الوسط المتاح الأفضل أمامه للتغلغل بوصفه تاجرا قادم من الاغتراب، وعلاقات وافرة في مجال الدعارة (بوصفها الطريق لكسب الرجال)، وعلاقة محدودة مع عدد محدود من صغار الضباط، (يتجنب كبار الضباط إقامة علاقات غير موثوقة). وشاهدنا وسمعنا أراء من بعض رجال الموساد (الاستخبارت الإسرائيلية)، أن تقارير كوهين كانت تنطوي على معلومات غير هامة، بل معظمها لا تستحق الإرسال، مثل تعليقه على مباريات كرة القدم، وتقريراً قدمه ينتقد فيه منتخب إسرائيل بكرة القدم، أو معلومات متوفرة في الصحافة. يزودها به صديق كان قد تعرف عليه كان يعمل في الملحقية الصحفية السورية في بوينس آيرس / الأرجنتين، وهذه لم تكن معلومات سرية. وربما نال تنبيهاً من مسؤوليه، بالأهتمام بما هو أهم.
كما قام كوهين بزيارة إلى الجولان، والتقاطه صور، والجولان لم تكن منطقة مغلقة، وبوسع أي سائح أن يزورها، والمواطنين السوريين كانوا يسبحون في بحرية طبرية، وهناك مصيف مشهور بمياهه المعدنية (الحمة)، بوسع أي إنسان أن يزوره، وهذه لا تعني شيئاً مهماً على أنه خرق أمني. والصداقة مع ملازم في الجيش (معزى زهر الدين) لا تعني أنه تعرف على أسرار الجيش.
أستدعي إلى إسرائيل أواخر عام 1963، ليعاد توجيهه وتنسيق عمله، وكانوا قد أقتنعوا (المسؤولين في الموساد) عنه بتركه يعمل دون مخطط، اعتمادا على الصيد الحر للمعلومات. ومن العلاقات التي كان قد توصل إليها، هو صداقته مع مهندس لبناني (ميشيل صعب) يعمل في مشروع تحويل مياه نهر الأردن، وتزويده بمعلومات. كما كان قد أبدى أهتماً بالبحث عن ضباط نازيين، اتخذوا من دمشق ملاذاً لهم. ومن هنا يتضح، أن مشغليه في تل أبيب، إما بم يكونوا يهتمون به كثيراً، أو أنهم لم يكونوا بذاك المستوى من الكفاءة، إضافة إلى كون كوهين كان غير منضبطاً، لم يكن لديه برنامج واضح (Concept) ويوزع اهتماماته في اتجاهات شتى، والكثير منها لم تكن مجدية.
بعد أقل من سنة من عودته من الدورة التدريبية التحف إليها في تل أبيب، (هو زار تل أبيب ثلاث مرات خلال مهمته بأكملها منذ خروجه إلى الارجنتين) إلى دمشق لفت الأنظار إليه بسبب خطأ فادح أرتكبه في 15/ كانون الثاني / 1964، وهو أنه كتب إلى تل أبيب برقية مستعجلة عن نبأ تسرب إليه بتشكيل قيادة حزبية جديدة علم بها قبل إذاعتها بساعة واحدة من راديو دمشق، فأبلغ رؤساؤه الذين أخطأوا مثله فأذاعوا النبأ من إذاعة إسرائيل (15 / كانون الأول / 1964)، وكان القرار قد أتخذ وشاع في الأوساط السورية، ولكنه لم يذاع رسمياً، وقامت الإذاعة الإسرائيلية بإذاعة النبأ مكرسة الخطأ، وهنا انتبهت إليه الأجهزة السورية، وأدركت أن هناك ثغرة أمنية، ينبغي البحث عنها.
وبعد نحو سنة واحدة من الخطأ الذي أرتكبه، كانت هناك ثغرة أمنية أخرى، يتقاسم مسؤوليتها كوهين نفسه ومشغليه (رؤساءه في تل ابيب) والخطأ مثل الضربة القاضية. ففي نهاية كانون الثاني / 1965، أبلغت السفارة الهندية في دمشق، شكوى مفادها :أن هناك محطة لاسلكية أخرى تدخل على نفس شبكة الإرسال المحددة لها من قبل الدولة السورية فتشوش على إرسالها.الإرسال.تكن الجهات السورية قد أجازت إرسالاً على نفس الموجة، قرر رجال المخابرات السورية فحص الأمر بدقة. وبحسب الجداول لدى أجهزة الأمن السورية لم تكن هناك محطة أخرى تبث على ذات موجة السفارة الهندية، واستعانوا بالأصدقاء السوفيت للحصول على ما يعرف في عالم أجهزة البحث عن أجهزة الإرسال (الكاشفة). (*)
والجهاز الكاشف، يدل بطريقة بسيطة وأكيدة على موقع محطة الإرسال، والذي فعلاً توصلت له الأجهزة السورية، وتأكدت من الأمر حين قطعت التيار الكهربائي عن الحي بأكمله، ثم أعادوه، وليتواصل الإرسال .. فحددوا بالضبط حتى الشقة التي يصدر منها الإرسال، فداهموه بسرعة خاطفة، ومنعوه من من تناول سم سيانيد البوتاسيوم الذي كان يضعه على المنضدة أمامه.
طلب منه مدير المخابرات الذي كان يقود حملة المداهمة بنفسه أن يرسل حالا برقية إلى تل ابيب ينبئهم فيها أن الجيش السوري قد دخل في الإنذار، ففعل، ولكنه أرسل أيضا إشارة متفق عليها سلفا، تفيد تل أبيب أنه أرسل هذه الرسالة وفد ألفي القبض عليه.
ابتدأ الفصل الأخير في حياة كوهين وهي سوف لن تستغرق سوى نحو 4 شهور، انتهت به مشنوقاً في ساحة المرجة بدمشق 18/ أيار ــ مايو / 1965. أي أن مغامرته السورية لم تدم سوى 3 سنوات تقريباً. تلقت الحكومة السورية ضغوطا شتى من أجل الحصول على حكم مخفف لكوهين، ولكن الحكومة السورية نفذت قرار حكم المحكمة.