كيف يمكننا أن نصف بدقة علمية ھذه الحركة بأنھا تاريخية وأخرى بوصفھا حركة عابرة غير تاريخية ؟ ليس لأن البعث حركة قومية والقومية حقيقة خالدة … وليس لأنه تأسس في ظروف الثلاثينات والأربعينات الملتھبة … وكان تأسيساً مباركاً .. وليس لأنه جاء بمبادئ الوحدة … وليس لأن مرحلة التأسيس ضمت عرباً من الديانات ومن كل الطوائف، ومن كل الأقطار … لماذا إذن يمكننا أن نطلق على البعث بأنه حركة تاريخية .. فالأمر ليس عاطفياً ولا بأي مقدار .. ولا
تعصباً ولا بقدر أنملة ..
البعث جمع كل ھذه الخصائص بوحدة مادية جدلية مدھشة، ولم يكن ھذا لأن المؤسسين كانوا قد تثقفوا جيداً في الثلاثينات والأربعينات .. نعم كان ھذا عاملاً ولكن من بين عوامل شتى .. فالبعث في الحقيقة كان توليفة بين جميع العوامل والعناصر، وبتوازن دقيق لكي لا يطغي عنصر على آخر.
ــ حزب الاستقلال في العراق كان حركة قومية، حاول البعض أن ينعشوه لكنه توارى … لأنه لم يتمكن من بلورة ما تريده الجماھير العربية.
ــ حركة القوميين العرب كانت حركة قومية، ولكن الحركة انتھت بغياب القادة ولأن الحركة كان ھدفھا الأول الثأر بتحرير فلسطين، ثم أصبحت حركة ناصرية، وبعدھا ماركسية، ثم ضاعت ألوانھا الأصلية والثانوية، بقي عدد من المخلصين لتأريخھم، ولكن الحركة تلاشت.
في الثلاثينات والأربعينات .. كانت الأمة بالكاد تتنفس وقد خرجت من قعر بحر الظلمات لتواجه أعاصير ما بعد الحرب العالمية الأولى .. وما أن حلت الأربعينات والحرب الثانية .. حتى كانت الأمة تعج بالقواعد العسكرية، وباستثمارات وشركات وبنوك الدول الاستعمارية، ولغة المستعمرين تسود صالونات وأسواق المدن العربية، والمدارس الأجنبية تتسيد الموقف التعليمي، المجتمعات والحركة الاقتصادية كانت بيد القوى الأجنبية واحتكاراتھا، فھذه القوى كانت قد وطدت العزم أن تتقاسم الأمة قطعاً وأجزاء وتضع لھا مسميات … وخيل لھم أن مقامھم سيطول، بل وفكروا حتى بحركة الاستيطان، فجاؤا بمستوطنين في الجزائر وتونس، ونشبت في كل مكان مجتمعات تحاكي دول المستعمر في أكثر من بؤرة .. وكان الموقف
لا يدعو للتفاؤل ..
من عتمة ھذا الليل، ومن ظلامه … أنطلق فتية آمنوا بالأمة بيومھا وبغدھا، ومصيرھا، وبشبابھم الغض أدركوا بعبقرية مدھشة، أن كل ھذا الظلام الأسود الكالح المدلھم .. الخانق، السالب للإرادة .. ما ھو إلا صفحة سيطويھا المناضلون الذين يقسمون للأمة بالإخلاص حتى الموت . فأسسوا حزبھم أين ..؟ لا لم يؤسسوه في ناد اجتماعي، ولا في فندق فخم، ولا في صالونات الأثرياء، البعثيون الأوائل أسسوا حزبھم في مقھى شعبي بدمشق في 7 / نيسان / 1947، فسرى شعاع من دمشق سرى إلى بيروت وبغداد وإلى
ضرغام الدباغ
الأردن وفلسطين .. ثم أنتشر …! يا أمتي ھا قد جاءك أبناءك يسترخصون الموت الزؤام والعذاب المستطير .. لعيونكم يا أطفال العرب، لتعيشوا في أوطانكم بأمن وسلام ..
في ھذا الظرف التاريخي الخطير، البعث كان جواباً على التحديات الخطيرة .. كان الرد المتفاءل على التشاؤم الأسود في أسوء مفاصله ولھذا كان الموعد تاريخياً ..
الاحتكارات الاستعمارية العملاقة كانت قد عشعشت وامتدت وتجذرت عميقا، وبدا للبعض أن ھذا واقعاً مادياً لا محالة، ومن الأجدر الاعتراف به، في تلك الظلمة الحالكة قال البعث : شركة نفط العراق )IPC( والتابلاين، وقناة السويس، وأرامكو، والريجي، تعمل بأيدي عربية على أرض عربية، فھي للعرب، ستعود لنا لأنھا ملكنا .. الحبانية والشعيبة وشرقي السويس، وطبرق، وويلس وعدن، قواعد عربية، لابد أن تتحر من أيدي المستعمر، ومن يقرأ أدبيات البعث في الأربعينات والخمسينات، يجد ليس وعيا مبكراً فحسب، بل وقدرة نضالية عالية جداً تداعب المستحيل، ولكنھا لم تكن رؤية خيالية، بل كانت إرادة ثورية،
ولذلك فھي تاريخية.
الوحدة، شعار البعث الأول، حلمنا العربي بلا انقطاع، وضعھا البعث أولى أھدافه في عھد التجزئة والتقسيم، واليوم صارت شعارات الأمة بأسرھا، والبعث وضع الاشتراكية في أھدافه، وكان ھذا فتحاً نظرياً، وسياسياً، الأھداف الثلاثة الوحدة والحرية والاشتراكية ترتبط جدلياً ببعضھا لتمثل الرؤية العلمية والثورية معاً الطامحة بلا شطط، والمؤمنة بواقعية، نريد اليوم والغد والمستقبل ھكذا كان خطاب البعث
الأول.
إذن البعث كان حركة قومية بأمتياز .. نعم ولكنه لم يغفل الجانب المجتمعي الواقعي فأختار الاشتراكية بوعي مرھف حاد،.. والحرية كانت الرؤية لمجتمع الغد .. بأبعادھا. ولھذا البعث حركة تاريخية ولھذا ھي عصية على كل من يتآمر عليھا ..
البعث ليس ميشيل عفلق، ولا منيف الرزاز ولا صدام حسين ولا حافظ الأسد ولا عزت الدوري، فھذه الأسماء مھما علت فھي أسماء أفراد، والأفراد زائلون، والبعث باق، الأفراد قد يخطأون، ولكن الوحدة والحرية والاشتراكية حق وأھداف ھي للتحقيق وليست للثرثرة في المقاھي.
اليوم بعد ثلاثة وسبعون عاماً .. ھذه الشعارات أصبحت ملك الأمة العربية، تدخل في البرنامج السياسي لكل حركة تريد أن تخاطب الشعب، يغير اللغة قليلاً يقدم ويؤخر شيئاً، فكر البعث قد أصبح ملك الجماھير ..المكتسبات صارت لھم، ثرواتھم قواعدھم بلادھم، عادت لھم فخلال الكفاح من أجل الاستقلال وما تلاه
ً
)نحو 75 عاما( تغيرت الخارطة السياسية والفكرية بشكل شبه جذري، كان البعث إحدى الأدوات الرئيسية
التي حققت ھذا المنجز، البعث دخل كل بيت بأسماء وعناوين مختلفة.
في غضون ذلك ماذا قدم البعث في معاركه …؟ مئات ألوف من الشھداء )في معركة العراق لوحده 160 ألف شھيد من 2003 / 2020( وكان البعث أول حركة شعبية منظمة مارست الكفاح المسلح، فقاتلت قياداته وأعضاؤه في فلسطين، أستلم الحكم في قطرين، ولم يزاح إلا بمؤامرات وتدخلات خارجية، وتعفف
البعث عن استلام الحكم في ثلاثة أو أربعة أقطار عربية، ويقال في البعث اليوم ما قاله المتنبي:
أنام ملئ جفوني عن شواردھا ويسھر الخلق من جراھا ويختصم
ھل أخطأ البعث، نعم بالتأكيد أخطأ كثيراً، ولكنه عمل وأنجز أكثر … ولكن البعث لم يلمس المحرمات. ھل كان بين صفوف الحزب خونة ..؟ الاعتراف بوجود خونة )الخائن عند البعث من يتعاون مع العدو الخارجي( لا يعيب البعث، فالحزب كان مستھدفاً وما يزال من أعتى القوى العالمية، ولا يضيرالاعتراف أن الحزب أخترق ھنا وھناك، فكل الأحزاب الثورية معرضة للخرق الاستخباري، ولكن عدد الخونة في تاريخ الحزب لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة ..! وقد حدث وأن غادر البعثي )لھذا السبب أو ذاك( الحزب، وربما عوقب بالتجميد أو الفصل، غالباً ما يعود البعثي للبيت، فالحزب بيته، ولا بيت له سواه، وھناك من البعثيين من غادر وأسس كياناً سياسياً، حاول أن يجعله نسخة من الحزب )وفق ھواه، لا وفق الضرورة التاريخية(، ولكنه ظل يحلق في فضاء الحزب لا يستطيع الابتعاد عنه، وظل أسمه وتاريخه
ملتحم بالحزب حتى آخر يوم من حياته.
ھل ھناك تطورات فكرية في الحزب ..؟ بالطبع .. فالبعث حزب سياسي وليس رسالة سماوية، ولكن الوحدة والحرية والاشتراكية ھي مرتكزات مترابطة جدلياً وأساسية، فالوحدة إيمان نھائي بوحدة الأمة، وكذلك الحرية، والاشتراكية بمعناھا العريض، إنھاء ظلم واضطھاد الإنسان للإنسان، ورفض للاستغلال الطبقي، والاحتكار، والتوزيع العادل للخيرات المادية بين البشر. ھذا ھو المبدأ الأساسي. والاشتراكية مذھب اقتصادي في جله، والاقتصاد موقف قابل للتغيير والتطور، لذلك فالبعث يحقق الاشتراكية بطريقة خلاقة، يلغي فيھا عنصر الاستبداد والاضطھاد، ويضع العمال والفلاحين وعموم الكادحين في مرتبة
متقدمة في المجتمع.
وبتقديري أن البعث حيث حكم، قدم منجزات اشتراكية وطرح خطوطاً نظرية تقدمية، وربما ھناك من يزايد على البعث نظرياً …. ولا مشكلة في ذلك، فالبعث لا يتنافس على الورق مع جھة أو طرف.
شخصية البعثي شخصية صادقة صريحة، لا تناور على المبادئ، إخلاصه للحزب ھو من قوة وعظمة المبادئ التي يؤمن بھا البعثي. ومن ھنا وھذه متلازمة كما الشجاع يكون كريماً بالحتم، فإن البعثي الصادق الصريح المخلص، شجاع بالحتم، ووفي بالحتم، لأنه ينھض بمسؤوليات جسيمة لا يقبلھا إلا
الشجعان، لذلك لن تجد بعثياً حقيقياً فاسداً ويقبل بالارتشاء. البعث في عامه الثالث والسبعين … إلى الأمام … فما زلت وستبقى أمل الجماھير